المقالة

مشروعية الإفلات من العقوبة

سجن

يقول الليبيون: “خنقة الذيب ولا قتلته”..

يقوم هذا المثل على مبدأ قانوني قد لا يكون منصوصاً عليه في القوانين والتشريعات، لكنه مؤسس في روح القوانين والشرائع ومقاصدها الكلية.. ذلك أن الهدف والغاية من جميع التشريعات سواءً أكانت سماواية أو أرضية هو الزجر والردع، والذي بدوره يهدف إلى تحقيق الأمن والسلم والاستقرار.

ولذلك تتغاضى جميع القوانين والشرائع عن مطاردة الفالت من العقوبة، باعتبار أن عدم إيقاع العقوبة على بعض الحالات لا يتنافى مع تحقق الهدف والغاية التي سُنت من أجلها!

لأن بعض الأهداف والغايات لا تشترط لتحققها أن تتحقق كل وسائلها، وبعض الكليات قد تكتمل ببعض أجزائها، وبعض النتائج يمكن الحصول عليها من بعض أسبابها!

ويمكننا هنا سرد بعض الحالات التي تؤكد ذلك..

فقد روي في حديث ماعز قول النبي صلى الله عليه وسلم: “هلاَّ تركْتموهُ ؛ لعلهُ أن يتوبَ فيتوبُ اللهُ عليهِ؟!”.

– وفي رواية: (أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك).

وقد اختلف العلماء في حكم تلقين السارق الإنكار، فرأى بعضهم جوازه، وذهب البعض إلى استحبابه.

– “قال العلامة ابن نجيم الحنفي: “وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ السَّارِقَ حَتَّى لَا يُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ أَسَرَقَ مَا إخَالُهُ سَرَقَ» وَلِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ.” [كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق].

– “وقد بلغنا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه أتي بسارق، فقال: ما إخاله سرق، وقد بلغنا عن أبي مسعود الأنصاري أنه أتي بسارقة، فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا، فهذا حسن من الإمام أن يلقن السارق”.  [الأصل للشيباني].

– “(قَالَ) وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ السَّارِقَ حَتَّى لَا يُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا احْتِيَالٌ مِنْ الْإِمَامِ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ”. [المبسوط للسرخسي]

– “المستحب للإمام أن يعرض له بالإنكار إذا رأى منه آثار الندم الذي ذكرناه. وأتي عمر رضي الله عنه برجل فسأله: أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه وبه قال أبو الدرداء وأبو هريرة رضي الله عنهما، وروي أنه أتي أبو هريرة بسارقٍ وهو أمير على المدينة فقال: أسرقت قل: لا وقال أحمد وإسحاق: لا بأس أن يلقن السارق”. [بحر المذاهب للروياني]

– “للقاضي أن يُلقّن السارق ما يُسقط الحدّ، فليس المراد الحدّ في نفسه، ولكن المراد التوبة والإِقلاع عن التعدّي على النّاس، فمن لم يعِ هذه المعاني فإِن الحدود تزجره وتكفّه عن اقتراف هذه العاصي”. [الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب]

– “وقال عطاء: كان من قضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا.

وسمى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وعن أبي الدرداء.

أنه أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقتِ؟ قولي: لا.

فقالت: لا. فخلى سبيلها.

وعن عمر أنه أتي برجل سرق فسأله ” أسرقت؟ قل: لا.

فقال: لا، فتركه”. [فقه السنة – السيد سابق]

وفي قوانين بعض الدول أنها لا تجرم الهروب من السجن، فإذا قُبض على الهارب أعيد لسجنه ليكمل عقوبته الأولى فقط”. ومن هنا يُمكننا أن نستنتج شرعية دفاع المحامي عن المجرم وهو يعلم يقيناً بأنه ارتكب الجرم.

ختاماً..

فإن الإفلات من العقوبة يؤدي إلى تحقيق نوع من التوازن في المجتمع، فالإنسان بطبعه خطاء، ولو أننا عاقبنا كل مخطئ على خطأه فإننا بذلك سنحرم المخطئ من فرصة للإصلاح، إضافة إلى أن ذلك سيرهق كاهل المجتمع وسيحدث نوعاً من الإرباك في حركته الطبيعية نحو الإصلاح والتعمير. كما أن مجرد وقوع الجاني في قبضة العدالة وتعرضه للمحاكمة والمساءلة أو المطاردة هو كفيل بأن يحقق نوعاً من الردع له ولغيره حتى مع تمكنه من التملص من العقوبة التي يستحقها، هذا بالإضافة إلى أن الخطأ في العفو أفضل بكثير من الخطأ في العقوبة.

وبالعودة إلى الذئب، فإن خنقه أدعى إلى تنفيره عن مكان الغنم فينفر معه بقية الذئاب.. والله أعلم 

مقالات ذات علاقة

فاطمة عثمان: خرابين يا وطن

سالم الكبتي

الكفاءة والظروف الصعبة

سالم الكبتي

كــتابـةٌ

محمود البوسيفي

اترك تعليق