متابعات

مدرسة الفنون والصنائع إضاءات… مقارنة… رؤى

كما عودنا أصدقاء دار حسن الفقيه حسن بنشاطهم الشهري المنتظم منذ ما يقرب العام ونصف، انتظم الثلاثاء الماضي بدار حسن الفقيه حسن النشاط الأخير الذي تمثل هذه المرة في محاضرة ذات صبغة علمية بعنوان “مدرسة الفنون والصنائع… إضاءات… مقارنة… رؤى” وفيها أخذتنا  الأستاذة عزة الشحاتي في رحلة شيقة تناولت فيها محطات تاريخية هامة في سيرة المدرسة، بعد الكلمة الترحيبية التي ألقاها الأستاذ ابراهيم حميدان الذي أدار دفة المحاضرة وقدَّمَ الباحثة الحاصلة على عدة مؤهلات علمية أهمها ماجستير إدارة تعليمية وبكالوريوس هندسة وعمارة وعمِلت كمديرة للمدرسة المذكورة بين عامي 2009 و2011 وأشرفت على العديد من الأنشطة فيها، وهي إلى ذلك عضو في الهيئة الليبية للعمارة وعضو في المنتدى الحضري لمدينة طرابلس وعضو في جمعية اكسجين وعضو في مجموعة علي قانا، ونشرت أبحاثها وأنتاجها في مجلات عدة منها مجلة مربعات وأفكار والهندسي ومجلة الأمل، كما مارست الرسم.

الأستاذة عزة الشحاتي، والأستاذ إبراهيم حميدان.
الأستاذة عزة الشحاتي، والأستاذ إبراهيم حميدان.

بداية المحاضرة كانت مع ما يمكن أن نطلق عليه التعريف القانوني للمدرسة حسب ما ورد في القوانين واللوائح التي تنظم عملها، وهذا ما استعرضت بعضاً منه الباحثة في ورقتها هذه قبل أن تنتقل للحديث بتوسع عن إنشاء المدرسة والمحاولات الكثيرة التي سبقت ذلك ولم يُكتب لها النجاح، غير أن إصرار الأهالي وهم داعموها الأساسيين ومحاولاتهم المستميتة والمتتالية بعد انتشار الوعي فيما بينهم جعلت من هذا المشروع حقيقة وواقعاً، حيثُ خُصِصت قطعة أرض مساحتها 24000 متر مربع لأنشاء المدرسة أستُغل منها فقط 5000 متر مربع هي المقامة عليه حتى اليوم واستُثمرت بقية المساحة كأوقاف للمدرسة لتمويل انشِطتها المختلفة، وتستوعب المدرسة في الأجمال حوالي المائة وخمسون طالباً، حيثُ تم افتتاح المدرسة رسميا العام 1900 ميلادية ووضع لها قانون تنظيمي ولجنة تسييرية تتكون من عضوية بعض الأعيان وبرئاسة الوالي، هذا فيما يخص عهد العثمانيين الذي أُسِست فيه المدرسة خلال فترة حكم نامق باشا.

وعند احتلال إيطاليا لليبيا عام 1911 م أستولى الجيش الإيطالي بدايات دخوله لمدينة طرابلس على المدرسة وحولها إلى ثكنة ورئاسة أركان عسكرية وعين لها مديراً إيطالياً مؤقتاً بعد أن تم إجلاء كل كادرها الوظيفي إلى تركيا وتم استقطاع جزء منها لإقامة ورش يدرس فيها الطلاب الإيطاليين، ومن هنا أخذت المدرسة أسم الفنون والصنائع الإسلامية لتمييزها عن المدرسة التي يدرس فيها الطلبة الإيطاليين، ولم يمكث فيها الجيش الإيطالي طويلاً، وتصرفت الحكومات الإيطالية المتعاقبة في بعض املاك المدرسة وتدخلت في شؤونها دون الرجوع إلى الأهالي الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل انشاءها. كما أشارت الباحثة إلى ان المدرسة تعد الوحيدة من بين قريناتها التي لم تقفل أبوابها في الحرب العالمية الثانية رغم القصف.

وتحت عنوان فرعي هو “مقارنة” أجرت الباحثة مقارنة أو مقابلة ما بين مدرسة الفنون والصنائع في ليبيا ومدرسة الباو هاوس في المانيا التي تعد من المدارس الرائدة والمشهورة عالمياً بتركها لبصمة واضحة في الفنون والانماط الثقافية واحداثها لثورة في الأساليب والتيارات الفنية على مستوى التشكيل والموسيقى وغيرها من الفنون، ولا بد أن يُشار إليها عند التأريخ لهذه الفنون. ومن خلال هذه المقارنة التي أجرتها الباحثة تبين تفوق مدرسة الفنون والصنائع على هذه المدرسة العريقة في بعض النواحي أهمها أن مدرسة الفنون والصنائع ظلت قِبلة لطلاب العلم واستمرت في أداء رسالتها منذ إنشاءها وحتى الآن في حين أُقفلت مدرسة الباو هاوس نتيجة ظروف سياسية معينة.

الأستاذة عزة الشحاتي. تصوير: سالم أبوديب
الأستاذة عزة الشحاتي.
تصوير: سالم أبوديب

ثم تطرقت الباحثة إلى بعض الشخصيات المؤثرة التي قدمت الكثير للمدرسة وحسنت من أدائها فتحدثت بإسهاب عن الأستاذ الراحل محمد الشريف 1920-2006 الذي تقلد منصب مدير المدرسة في الفترة الواقعة ما بين عامي 1960 و1969 أزدهرت خلالها المدرسة وعاشت أزهي سنينها  وتطور أدائها حتى وصل إلى افتتاح فروع لها في كل من مدن جنزور وطبرق والبيضاء قبل أن يتم إجهاض هذا المشروع التنويري.

واستغلت الباحثة عودة التيار الكهربائي الذي كان مقطوعاً لعرض عدة صور ووثائق تخص المدرسة بجهاز العرض المرئي المكبر، وبين سردها لتاريخ المدرسة مررت مجموعة من الصور تُظهر بعض الشخصيات التي درَّست في المدرسة في فترات مختلفة وصور بعض الورش التي كان يتلقى فيها الطلبة تعليمهم ولم تنسى أن تُشير إلى بصمة التطور  التي باتت واضحة بعد تبني أفكار ورؤى جديدة من قبل الأجيال المتأخرة التي انخرطت في الدراسة بها ومن قبل اعضاء هيئة التدريس.

وقبل أن تختتم الباحثة تلاوة ورقتها العلمية المدعمة بالصور والشرح وتحت عنوان فرعي آخر هو “رؤى” تقدمت بعدة اقتراحات وتوصيات من شأن الأخذ بها أن يطور من أداء المدرسة ويعيد لها أمجادها الآفلة، وذلك بالموائمة ما بين الأصالة والحداثة في المنتوج الفني والمقتنيات التقليدية والتوسع في مجالات عملها وقبل كل شيء تبني الأفكار المعاصرة.

الكثير من المعلومات والتحليلات والحقائق أوردتها الباحثة في ورقتها هذه، ولا شك في أن هذا الجهد التأريخي والسردي قدم إضافة كبيرة للمختصين وللمتلقي العادي الذي أُجزم بأنه حظيَ بمعارف قيمة فيما يخص المدرسة وهو الذي قد يمر من أمام باب المدرسة فيتساءل عن تاريخ أنشاءها وما مر بها من أحداث وتعاقب عليها من إدارات حتى الوقت الحالي، والحق يُقال أن هذا البحث الرصين قدم الكثير من الإجابات الشافية للمهتم والمُتابع من الحضور الذي اكتظت به قاعة دار حسن الفقيه حسن، حيث اجتذب المنشط العديد من المتلقين، لا سيما ممن درسوا في المدرسة وتخرجوا منها، والذين جاءوا هذه المرة يحذوهم الحنين وللأستزادة من المعلومات والأستفادة من الحقائق التي كانت غائبة عنهم، وهذا الحضور متنوع الأهتمامات والتخصصات هو ذاته الذي أسهم فيما بعد في إثراء موضوع المحاضرة من خلال طرح بعض الأستفسارات والأقتراحات والإضافات القيمة، أذ عند فتح باب النقاش والتحاور أدلى كل من الأساتذة أسماء الأسطى وعصام القبائلي ومفتاح الطشاني وعبد الحفيظ تنتوش والصادق محمد وعمار جحيدر وغيرهم ممن لم نتمكن من التقاط أسمائهم نظرا لعدم وجود مكبرات للصوت، أدلو بآرائهم القيمة التي لامست بعضاً مما غفلت عنه الدراسة أو تركته لمناسبة قادمة مثل الحديث عن  المهندس مصمم مقر المدرسة والتساؤل عن عقد المقارنة مع مدرسة الباو هاوس تحديداً وليس مع مؤسسة أخرى مناظرة، والتساؤل أيضاً عن عزوف الشباب عن تعاطي العمل اليدوي وممارسة المهن الحرفية عامة وهو الهدف الذي أُسِست من أجلة المدرسة، وإمكانية استغلال المدرسة كفضاء ثقافي مفتوح تجتمع فيه وتتلقى كل الفنون.

تصوير: سالم أبوديب.
تصوير: سالم أبوديب.

عموماً كانت هذه المحاضرة فرصة لتحريك بركة الذكريات الراكدة عند بعض الحاضرين ما جعلهم وبدافع من حبهم لهذه المؤسسة العلمية يتقدمون بأقتراحاتهم ويضمون أصواتهم إلى صوت الباحثة التي أوصت بإيلاء المؤسسة الأهتمام اللازم وتطوير أدائها، كل هذا وغيره من الأفكار التي تم تداولها، أسفر عنه النقاش وسردته الباحثة، غير أن سؤال ظل بلا إجابة من وجهة نظري، خاصة وأن الباحثة وإلى جانب أنها كاتبة ورسامة وباحثة في التاريخ، هي معمارية، والسؤال هو وبعد كل هذا العرض المستفيض  والحديث المسهب لماذا لم تتحدث الباحثة عن جانب مهم في الموضوع وهو الطراز المعماري لمبنى المدرسة ؟، والمهندس الذي قام بتصميم البناء الجميل وراعى فيه العديد من  الأولويات المتصلة بالحضارة الإسلامية وخصائصها المتميزة ، وأخيراً من الذي قام بعملية البناء ووضع الحجر فوق الحجر حتى اكتمل الصرح في صورته التي نراها عليه قبل دخوله متاهة الصيانة التي لم تنتهي، وما هي المواد المستعملة في البناء؟.

كل هذه التساؤلات التي ظلت بلا أجوبة كانت حتماً ستضيف الشيء الكثير للموضوع وتحيط به من كافة الجوانب… وهنا تحديدا اختتمت المحاضرة وتم الإعلان عن النشاط الأستثنائي المقبل اواخر الشهر الجاري الذي هو عبارة عن محاضرة توعوية وملحة من حيثُ توقيتها يلقيها الأستاذ رمضان الشيباني وفيها سيتحدث  عن مغبة رفع الحماية عن بعض المواقع الأثرية الليبية من قبل منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة وما يترتب على هذا الإجراء من مخاطر قانونية سيكون لها الأثر المدمر على تاريخنا وتراثنا وثروتنا الأثرية، حيث أن بعض المواقع الأثرية الليبية المسجلة سابقا ضمن التراث الإنساني والمشمولة بالحماية الدولية باتت اليوم مهددة بالأستبعاد من قائمة هذه المواقع نظرا لظروف ومستجدات معينة ينبغي أن يعيها الكل لأن المسئولية عامة.

تصوير: سالم أبوديب.
تصوير: سالم أبوديب.

جزيل الشكر للأستاذة الباحثة على مجهودها الرائع وللحضور الكريم الذي كان في الموعد رغم انقطاع التيار الكهربائي والحر الشديد داخل القاعة، وهذا إن دلَ على شيء فإنما يدل على الوعي وعلي الإيمان بالفعل الثقافي والتعطش الشديد للمعرفة التي تنتجها مثل هذه الفعاليات العلمية والأدبية، سيما وأنها تخفف من وطأة أزمات عدة يعانيها المواطن اليوم، وتجعله حتى حين ينسى أو يسلو عن معاناته اليومية نتيجة الأنقطاع المتكرر للتيار الكهربائي وشح السيولة النقدية وغلاء الأسعار.

_______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

بالصور: افتتاح معرض تأبين المفقودين لـ”معتوق أبوراوي”

المشرف العام

ملامح من النشاط السياسي من أجل قيام الدولة الليبية

المشرف العام

افتتاح الدورة الثانية عشر من المهرجان الوطني للفنون المسرحية

مهنّد سليمان

اترك تعليق