سيرة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية؟! (3)

3
هل القراءة هي من منحتني هذه الموهبة؟! أن أكتب بتلك البراعة، موضوع انشاء أحبتّه أبلة “حليمة” حين صارت معلمتي بالصف الخامس، بالصف الرابع كنت ما أزال تلميذة في صف أبلة “نوارة” والتي رافقتنا منذ الصف الثاني.
صارت أمنّا وأختنا الكبيرة وحتى صديقة، لا أتذكر الصف الثاني (غريب جدا أن تمر سنة دراسية بلا ذكرى). هل كنت مخفية أو غائبة عما حولي بالصف الثاني الابتدائي، ربما ساحة المدرسة الكبيرة شجرتيّ التوت الكبيرتين ركضنا وصخبنا وعودتنا في العشية وعودة الأولاد من (مدرسة الأنصار)، وملاحقتنا لينهبوا (باكو الحليب) ويقذفوا به تحت عجلات سيارة مسرعة، وأيضا (شكارة التمر)، التي ستغدو أحجارا يقذفوننا بها.

أطفال في المدرسة (الصورة: عن الشبكة)
أطفال في المدرسة (الصورة: عن الشبكة)

الطريق طويل ومعي “فاطمة”، نعبر (جامع الـقـريـو) حيث الخبزة تفوح من (كـوشة القمودي)، ورائحة الزيت من (معصرة الـفـزاني). الشتاء لذيذ رغم (الصقع)، والطريق جميل رغم أنه طويل. نعبر من سانية إلى سانية تحيط بنا الأشجار وتفوح الأرض بمواسمها.
في موسم الزيتون، نأخذ معنا (حديدة) كانت تحوى أي شيء معلب ثم صارت بين الأرجل مركولة نجدها مبعوجة، نحاول اصلاحها وطوال الطريق حيث أشجار الزيتون تطرح حباتها، أيادينا الصغيرة تلقطها، نتبارى ونركض، الخير كثير وكل واحدة تكون في نهاية الطريق قد عبأت (حديدتها).
وبين دكان عمي (الصغير) أو (معصرة الفزاني)، حسب اختيارنا نبيع محصولنا ونأخذ قروشنا (خمس قروش أو أكثر، حسب حجم وكمية ما استطعنا لقطه)، حينذاك نتنفس الصعداء لقد تأمن حق (قلب اللوز)، حيث سنجد صاحب العربة (من تونس الشقيقة)، ملاصقا حائط مدرستنا حين خروجنا مبتهجات وصاخبات، وأحيانا ناكسات الرؤوس حين تكون أصابعنا منتفخة من أثر عصاة المعلمة أو حتى مديرة المدرسة (نسيت اسمها رحمها الله).
 
في الصف الثالث ظلت ذكرى براعتي في الإملاء، ولكن قبلها مازلت أذكر وقوفي مع مجموعة من بنات الفصل متكئات على الباب الكبير الذي يفصل الجزء الذي يحتوي فصلنا (رابع…؟)، لم نكتب الواجب ولم نأت بعذر فكان لزاما وقوفنا خارج الفصل.
أبلة “نـوارة” لا تحب استعمال العصا ولهذا ظلت تلك الوقفة اليومية متكررة، ذات ليلة كلمت خوي الكبير، فكتب لي ورقة، أنا تلميذة الصف الثالث، اعتذارا عن تقصيري لظروف مرض أمي،  دسست الورقة في جيب (القرمبيول)، ولكن وجدت نفسي أقف لصق الباب الكبير مع مجموعة البنات نرتجف من البرد، كنت أبكي حين أطلت مجموعة من بنات السادس (حينذاك كانت بعض البنات قد دخلت المدرسة وهن في سن متقدمة)، كنَّ صبايا فارعات الطول بأجسام رشيقة وضفائر ناعمة جميلات، وأنا أرفع رأسي لواحدة منهن مسحت دموعي بمنديلها المعطر، وسألتني عن سر وقوفنا، وحينذاك أخرجت الورقة قرأتْها وذهبت لفصلي جاءت أبلة “نـوارة” وأدخلتنا جميعا.
 
تبدو هذه الحكايات وكأنها فقط سيرة ذاتية وليست(سيرة أدبية)؟!
وأنا منذ البداية تساءلت ما معنى (سيرة أدبية)، وكيف طلعت هذه التي يمكن الإشارة إليها وتسميتها (كاتبة)؟! ومتى كانت البداية، وأظن أني مع من يقرؤني أو تقرؤني الآن أبحث في هذه الحكاية التي أسرد تفاصيلا منها، أبحث عن هذه التي أمسكت القلم وكتبت، كتبت موضوع ‘نشاء جعل معلمة العربي بالصف الخامس (أبلة حليمة) تطلب منها أن تقف وتقرأ موضوعها ثم ليصفق الفصل، صوتها وإتقانها اللغة والعبارات الجميلة التي كتبت به موضوعها، وهكذا حتى بالصف السادس حين مرة أخرى، وقفت لتقرأ موضوع إنشاء عن (معرض طرابلس الدولي)، هذا الموضوع الذي كتبته بحرارة لأنها حقا كل عام تذهب لذاك المعرض رفقة أبيها وإخوتها وتستمتع وتلعب وتتفرج وتأكل (السـبـول)، والذي ستعرف لاحقا أن اسمه (الـفـوشار – بوب كورن).
ولكن حينذاك كان فقط (سبول مفرقع)، تتلذذ بالتقاطه وتلمظ ملحه والتراشق هي والبنات الأخريات، ولكن تلميذة الصف السادس تركت سؤالا في موضوعها، تلك التي طالعت منجزات الشعوب تساءلت: متى سنكون مثل هذه الدول ونفاخر بإنتاجنا الصناعي؟ صفق الفصل ونبهت أبلة “حليمة” تلميذات فصلها كيف يُكتب موضوع انشاء، نضع فيه سؤالا ونبحث عن الإجابة في المستقبل؟ وقالت:
– لوكان عندنا اذاعة مدرسية لقرأته يا حواء على المدرسة كلها.
 
هكذا كانت معلماتنا الشابات اللواتي نزعن (الكـشابـيـة)، وظهرت وجوههن الجميلة، وتهادت أجسادهن الرشيقة وتدلت ضفائرهن، ونحن نتحلق حولهن نرفع وجوهنا الصغيرة، نتشرب ذاك البهاء ونحلم بالمستقبل المشرق الذي ترسمه خطواتهن الواثقة.

مقالات ذات علاقة

اليوم الأول في المدرسة

سعيد العريبي

للتاريخ فقط (6)

عبدالحميد بطاو

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (5)

حواء القمودي

اترك تعليق