من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
قصة

ماذا سنفعل في الثلاثاء؟!!*

من أعمال التشكيلي الليبية .. مريم العباني
من أعمال التشكيلي الليبية .. مريم العباني

كانت ضلفتا النافذة، مشرعتين على شمس أبريل المتطفلة عبر الزجاج، تُدخلان الحرارة، وتستجلبان صوت العصافير الرابضة فوق الشجرة المقابلة، تصدر ضوضاءً محببة وهي تزقزق، وتتنقل من غصنٍ لآخر.

حفنات الضوء ترسم أشكال الأشجار والأغصان، على أرضية الفصل وبعض الطاولات، والرياح تأتي بصيحات الحماس، للتلاميذ الذين يلعبون البلياردو، وهم يدورون حول الطاولة بالعصي، فتبدو ظلال حركتهم على بلاط الحديقة، حيث بالوسع رؤيتها من زاوية الغرفة.

في الفصل المطل على الباحة الخارجية لحديقة المدرسة، فرك أستاذ مادة التاريخ يديه بحرارة، كي يحمّس الأربعة عشر تلميذاً، الجالسين أمامه على مقاعدهم، التي تغص بالكتب وأجهزة الآيباد، يبدو عليهم الفتور مع تقدم اليوم الدراسي، ينظرون بين الفينة والأخرى، لظلال لاعبي البلياردو بالخارج، ويسترقون النظر للساعة على الحائط، ينتظرون بنفاد صبر، أن يلتقي العقربان عند الرقم 12، حتى يخرجوا للساحة، لتناول الحلويات والكولا، ثم يعودوا من جديد لاستئناف الدروس حتى الثالثة عصراً.

ـ حسناً يا أعزائي.

قالها بما يشبه التنبيه أكثر مما يبدو أنه يقصد معناها.

ـ سنلعب لعبةً في النصف ساعة المتبقية على وقت الاستراحة حسناً؟

هلل الجميع واشتعلت وجوههم بالحماسة.

ـ سيكون عليكم أن تتوزعوا على طول الفصل، لتكوّنوا دائرة كاملة، وأنا سأكون واحداً فيها، على أن تتركوا مسافة ربع متر بين كل واحد منكم، حسناً؟

ـ نعم يا أستاذ.

سرعان ما علت الجلبة، تدافع الأولاد الأربعة عشر بكراسيهم، وهم يزيحون الطاولات جانباً، تحركوا بحماسة وسرعة، حتى بدا أنهم يتسابقون على من يحرك كرسيه أسرع من رفيقه، في حين عقد هو ذراعيه على صدره ، يراقبهم وهم يسرعون ويضحكون ووجوههم تطفح بالفضول، وحين أخذوا مواقعهم، قال:

ـ جميل، أنتم مستيقظون الآن.

قهقهوا وهم يتغامزون متربصين بما سيقوله لهم.

ـ سأهمس في أذن التلميذ على يميني بجملة ما، وسيكون على هذا التلميذ أن يهمس بهذه الجملة لرفيقه التالي، وهكذا حتى نصل إلى التلميذ الذي على يساري، ليقوم هو بالهمس في أذني بالجملة، لأكررها أنا بالنهاية بصوت عالٍ، حسناً؟

ضحك البعض، في حين اكتفى البعض الآخر بابتسامة فاترة، كما لو أنهم قد فقدوا حماستهم فجأة.

لكنه أضاف:

ـ وحين نفرغ جميعاً من اللعبة، سيكون علينا جعلها واقعاً، متفقين؟

ثم تحرك صوب التلميذ على يمينه، اقترب منه بهدوء وضع شفتيه على مقربة من أذنه وهمس له ببضعة كلمات.

رفع التلميذ رأسه ونظر إلى الأستاذ، الذي أعطاه الإشارة بالبدء باللعبة، بالهمس في أذن رفيقه التالي.

راقب الأستاذ التلاميذ، وكل واحد منهم ينتظر بصبر، أن يهمس رفيقه بالجملة السحرية في أذنه، ليعرف ماذا قال الأستاذ.

طفق أربعة عشر تلميذاً يتبادلون الهمس تباعاً، كل واحد يقترب منه الدور ينتبه، يتحفز وهو يرى رفيقه السابق يدير رأسه باتجاهه فيعطيه أذنه ويصغي، ثم يلتفت لرفيقه ويكرر ما سمعه، حتى آخر تلميذ في الدائرة على يسار الأستاذ، الذي حين سمع ما تمتم به رفيقه، التفت مسروراً صوب الاستاذ، فقرّب الأستاذ رأسه منه حتى كاد يلتصق به، وسمعه يهمس في أذنه بحماس وانشراح.

تراجع الأستاذ للخلف بقوة، وهو يحملق في وجهه، ثم التفت لبقية التلاميذ في الدائرة ينتظرون بجذل نهاية اللعبة.

وقف بعد أن أزاح كرسيه للخلف قليلاً، وضم قبضتي يديه إلى لحيته وضحك قائلاً:

ـ قال التلميذ على يساري: لن نأخذ مزيداً من الدروس عن حياة سبتيموس سيفيروس يوم الثلاثاء القادم.

هلل البعض وصفقوا فرحين، في حين اشتد ارتباك البعض الآخر، فعاد هو:

ـ لكن أنا قلتُ: إن فرضنا ليوم الثلاثاء القادم، هو دروس إضافية عن حياة سبتيموس سيفيروس.

ـ أووووووه.

صاح بعض التلاميذ بضجر وحنق، وضج الفصل بالهرج، تناوش الجميع، وعلا اللغط والجدال.

ـ هاي هاي هاي، توقفوا جميعاً.

صاح الأستاذ وهو يهدّئ الجميع مضيفاً:

ـ أريد أن أعرف كيف تحولت جملة إيجابية لجملة سلبية، تداولها أربعة عشر تلميذاً في أقل من نصف ساعة فقط.

تبادل الجميع اللوم والتفسير:

ـ هذا ما قاله لي زميلي على اليمين يا أستاذ.

ـ بل هذا ما يريد هو سماعه يا أستاذ.

ـ أنا همستُ لزميلي بشكل واضح، ونظرت في وجهه لأتأكد أنه سمعني يا أستاذ.

ـ وأنا سمعت زميلي بكل وضوح يا أستاذ، هو قال أننا لن ندرس المزيد عن حياة سبتيموتس سيفيروس يوم الثلاثاء القادم.

ـ كذاب، إنه يقول هذا لأنه كسول، أنت تعرف هذا يا أستاذ.

ـ من جانبي أنا يا أستاذ فقد سمعت زميلي جيداً، وهو يهس لي أننا سندرس المزيد عن سيرة حياة سبتيموس سفيروس يوم الثلاثاء القادم.

تدخل الأستاذ وهو يشير إلى الساعة على الجدار:

ـ كفى كفى الآن، أمامكم خمس دقائق لإعادة ترتيب الفصل قبل الخروج للاستراحة.

ـ لكننا لن نأتِ الثلاثاء يا أستاذ صحيح؟

ـ سندرس المزيد عن حياة سبتيموس سيفيروس يوم الثلاثاء يا أستاذ صحيح؟

ـ هذا كله لا لزوم له، لم تعجبني اللعبة يا استاذ.

ـ لنلعب هذه اللعبة مرة أخرى هذا هو الحل يا أستاذ.

ـ هاي اسمعوا، يجب أن ندرس المزيد عن حياة سيبتيموس سيفيروس، لا تتهربوا.

ـ لا، ادرسه أنت يا شاطر، نحن لم نسمع هذا أبداً.

ـ هذه اللعبة سخيفة جداً، لا أرى منها فائدة غير تكريس الخلاف.

ـ هذه اللعبة رائعة، كلٌّ يطبق ما سمعه.

ـ أين هي الحقيقة؟

ـ إنها لا مزيد من الدروس عن سيرة حياة سبتيموس سيفيروس.

ـ بل إنها أنْ نأخذ المزيد من الدروس عن سيرة حياة سبتيموس سفيروس.

ـ بل إنها أنْ يفعل كل واحد ما سمعه.

تدخل الأستاذ بحزم:

ـ أنا قلت إن درسنا ليوم الثلاثاء القادم، هو دروس إضافية عن حياة سبتيموس سيفيروس.

صاحت به مجموعة من التلاميذ:

ـ نحن لم نسمع هذا، نحن لسنا شهوداً على هذا الكلام.

صاحت أخرى:

ـ ونحن سمعنا هذا، نحن شهودٌ على هذا الكلام.

ـ أحببت كثيراً هذه اللعبة، كل واحد يفعل ما يحلو له، مع السلامة.

الأستاذ بضيق:

ـ انتظروا ليس هذا ما قلتُه.

التلاميذ:

ـ بل هذا ما قلتَه.

ـ هذا سخيف جداً يا استاذ، لقد انقسمنا لثلاثة فرق.

ـ إنها لعبة رائعة، فكروا فيها جيداً يا أولاد، كلٌّ يتصرف على هواه، وقد صار لديه مبرر الآن.

تدخل الأستاذ بامتعاض وهو يسير باتجاه الباب:

ـ أنتم تبعثون على الضجر.

رد أحد التلاميذ:

ـ كانت لعبة مسلية يا أستاذ.

فصاح به آخر:

ـ لأنك لا تريد سماع شيءٍ عن سبتيموس سيفيروس صحيح؟

ـ ما عاد يعني شيئاً بالنسبة لي سبتيموس سيفيروس، فقد اختلفنا حوله الآن بما يكفي.

ـ يا أستاذ نريد أن نستكمل سيرة حياة سبتيموس سيفيروس.

ـ بل لا نريد.

ـ بل نريد.

ـ ماذا نفعل مع هذه الورطة يا أستاذ؟

ـ تعال أنت الثلاثاء واستمع لسيرة حياته كما تشاء.

ـ لا يجب هذا، ثمة فريق لم يسمع.

ـ وثمة فريق سمع.

ـ أين هي الحقيقة في كل هذا؟

صرخ به زميله وقد فقد صوابه:

ـ تباً لك فلتأتِ أنت الثلاثاء ولتستمع لسيرة حياة سبتيموس سيفيروس كما تشاء، لقد سئمت غبائك.

ـ انتظر هذا خطأٌ كبير جداً، لا يجب أن يدرس أحد المزيد عن سبتيموس سيفيروس، لأننا سنكون مطالبين بسيرة حياة ذلك الأبله في الامتحان.

ـ أووووف.

ـ انظر كيف فرقتنا يا أستاذ؟

ـ عيب أن يتراجع الأستاذ.

ـ لكن ماذا سنفعل في الثلاثاء؟!

_______________________________________

*القصة مستوحاة من فكرة محاضرة في الوعي ألقيت على طلبة أميركيين، مع التصرف الكامل.

مقالات ذات علاقة

القمة

محمد المسلاتي

هكذا كسبتُ صديقاً تحت الرصاص

الكيلاني عون

منظومة ربط مباشر

محمد ناجي

2 تعليقات

ناجي الككلي 11 أكتوبر, 2013 at 12:59

انتي مبدعه استاذه وفاء بس لو ممكن استفسار انا بحت كثيرا علي روايات في السوق ومعرض الكتاب بطرابلس ولكن دون جدوه ممكن نتواصل معك استاذه

رد
kamal Elmehdawi 5 ديسمبر, 2013 at 19:17

Sister Wafa keep on writting please, I am one of your fans. You are very brave. I have only seen your writings on Libya Almostabl. Have you got a Facebook page so that we can read more to you. Thanks

رد

اترك رداً على kamal Elmehdawi