المقالة

ماء العينين وأزمة الإسلام السياسي

بوابة الوسط

قضية السيدة أمينة ماء العينين تتصدر المشهد في المغرب العربي، وتوفر مائدة أخرى لحوارات الفضائيات العربية الباحثة عن الإثارة، خصوصا حيثما تختلط السياسة بالدين والأنوثة بالنزق، كما تجتاح فضاءات التواصل ورواده من المسلمين الورعين، الذين روضوا التويتر والفيس بوك وغيرها من مواقع التواصل لتغدو فضاءات للتسبيح والأدعية والسحر والشعوذة باسم الدين، والتبرك الإلكتروني بأيام الجمعة، وجمع الحسنات عن طريق المشاركات والهاشتاقات، واللايكات وهذا أضعف الإيمان.

العالم النشط يخترع كل ما يجعل الحياة سلسة ومرحة، ونحن ننتظر الاختراعات بكسل لكي نؤسلمها، ونلبسها حجاب التقوى، ونسبغ عليها ظلا من تجهمنا العربي الفصيح، ونستخدمها كأدوات أنتجها العلم في خطاب يشيطن العلم والعلماء، فيتحول الكي بورد إلى مسبحة، مفسرين هذه الهوة السحيقة بيننا وبين العالم؛ الذي مازلنا نعيش عبئاً عليه، بكون الخالق المنحاز لنا قد سخر هؤلاء الأذكياء لخدمة المسلمين المستمتعين بإدارة الغباء وفق خطط طويلة المدى.
أمينة ماء العينين، معلمة الفلسفة القادمة من الجنوب المغربي، وصلت إلى قبة البرلمان عبر القائمة الحزبية لحزب العدالة والتنمية التابع لجماعة الأخوان المغربية، سُرِّبت صور لها دون حجاب في باريس وترتدي ملابس حديثة راقصة أمام مقهى المولان روج الشهير ،

وهي المحافظة على حجابها تحت قبة البرلمان الذي حوَّله الإسلام السياسي من فضاء لممارسة الديمقراطية إلى معبد. أثار هذا النشوز الحزبي جدلا وانقسامات في الشارع المغربي، بين مؤيد يرى أن الأمر متعلق بالحرية الشخصية، ومعارض يرى أن الالتزام الحزبي أولوية، بينما صاحبة الشأن التي طعنت التاريخ والجغرافيا وضمير الأمة بمعانقة شعرها لنسائم باريس الباردة، التي قالت أثناء حملتها الانتخابية أن الحجاب هو الفيصل بين المرأة المسلمة وغير المسلمة، تنفي صحة هذه الصورة التي تعتبرها مفبركة وتهدد بمقاضاة من يروجون لها، غير أن الناخبين الذين انتخبوها بسبب الحجاب خاصة يحسون أنهم خدعوا، فهم معنيون بغطاء الرأس أكثر مما تحت الغطاء.

بعد فترة وجيزة من وصول الأخوان إلى قصر الاتحادية الرئاسي بمصر، تباهوا بمنجزهم في إقناع بعض المذيعات والمضيفات الجويات بارتداء الحجاب، بينما مصر السافرة كانت تسير بخطىً ثابتة نحو هاوية اقتصادية واجتماعية يصعب الخروج منها، وحين خرجوا من القصر جعلوا من ظاهرة التحرش الجنسي بديلا لحكمهم الرشيد. وفي كلتا الحالتين وحالة أم العينين وغيرها من مظاهر الوسواس الجنسي الذي يطبق على التفكير، يتمظهر مدى انحسار الذهن الإسلامي، العربي خصوصا، في انزياحه إلى جسد المرأة كملاذ وحيد من شبح الهزائم المتتالية، وكمنطقة نفوذ وسيطرة أخيرة بعد أن فقد هذا الذهن أو العقل كل معاركه الممكنة في المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية الحديثة، فكل شعارات البناء أو التنمية أو العدالة تتسكع في الخيال كيفما تشاء ثم تعود إلى الواقع عبر جسد المرأة الذي أصبح يمثل مركز السياسة والاقتصاد وإدارة الفتاوى التي ترى أزمة أمتنا في أخلاقها، وأخلاقها مختزلة في جسد الأنثى، بل أصبح جزءا من الأمن القومي العربي والإسلامي، وهو أمر في جوهره متعلق بفكرة الشرف الذي اختزل تاريخيا في جسد المرأة وحركتها وحريتها، أو ما يسمى في قاموس الأخلاق العربي (العرض) الذي وصل لأن يصبح أهم من الأرض نفسها.

في مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي أخرجه حاتم علي، وطرح فيه كاتب السيناريو، وليد سيف، خطابه النقدي حيال أزمة المجتمع الفلسطيني البنيوية التي أسهمت بجزء لا يستهان به في انتصار بعض العصابات الصهيونية المارقة على ملايين الفلسطينيين، أهل الأرض، والعرب جيرانهم،  يذهب المسلسل الدرامي إلى تحليل الواقع الاجتماعي الذي يرضخ اقتصاديا تحت سلطة الإقطاع، واجتماعيا تحت سلطة أبوية حادة ترى في جسد المرأة مكان معاركها المقدسة التي يراق على جوانبها الدم. فعائلة “أبو صالح” التي تشكل مركز الحدث الدرامي التاريخي قتل فيها الأشقاء شقيقتهم بمجرد أن قبضوا عليها متلبسة بجرم الحب، بينما المناضل أبو صالح ينام بجسده أمام  النازحين الخائفين من تعرض النساء للاغتصاب ليمنعهم من الخروج من فلسطين لأن الأرض، حسب تصوره، أهم من العرض.
في ثورة فبراير الليبية أثير أيضا بشكل مبالغ فيه موضوع الاغتصاب الجماعي الذي ترتكبه قوات النظام، وقد وجدت الفضائيات العربية ضالتها الإعلامية في مسألة اغتصاب الحرائر الليبيات التي من شانها أن تؤجج مسألة الشرف الذكوري كي لا تفقد الثورة زخمها، وفق معرفتهم بحساسية هذا الموضوع في الذهنية العربية التي مازالت تفضل العرض على الأرض والحياء على الحرية.   

تعددت المشاهد في ثورة فبراير التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية والعربية والمحلية، غير أن مشهد إيمان العبيدي المغتصبة وهي تظهر فخذيها المخدوشين لمشاهدي العالم، كان المشهد المركزي الذي صعد بإيقاع الدراما وبوتيرة الشجن الثوري، ورغم أنه مازال محتفظا بكل غموضه إلا أن قيمته تمثلت في كونه وثيقة حية يحتاجها التلاعب الإعلامي بالأحداث والأخبار، الساعي إلى ملامسة العصب العاري في الضمير العربي ببعده المتعلق بالشرف أو العرض، وفي الضمير الإنساني الذي يعتبر حالة اغتصاب واحدة أشد وطأة من مئات المقابر الجماعية، الأمر الذي نجح في النهاية لتحويل بعض مواقف أعضاء البرلمان الأمريكي مائة وثمانين درجة حين تحول إلى (Story) قناة السي سي إن الرئيسية لمدة شهر تقريبا.

كانت هذه الميديا تدرك جيدا حساسية كل ما يتعلق بالشرف في ذهنية الليبيين والعرب عموما، وكانت تدرك من جانب آخر حساسية موضوع الاغتصاب في ذهنية الشعوب الغربية، التي أعطت المرأة الحرية حيال جسدها، لكنها تعتبر الاغتصاب جريمة ضد الإنسانية.
كل ذلك ــ وغيره مما يجتاح المنطقة من فتاوى دينية ولغط شعبي ناتج عن خوف مضمر من إطلاق سراح الأنثى المرتبط جسدها بنيويا بجسد الأمة حتى الآن ــ يحيلنا إلى هذه المساحة التي انحسر فيها صراعنا الحضاري، باعتبار هذا الجسد الرخو تحول إلى منطقة يمكن السيطرة عليها مع فقدان كل مناطق النفوذ التي يتطلبها الصراع الحضاري، فأصبحت هذه العودة الأوديبية إلى الرحم عقدة مجتمعات مازلت تعتقد في تهديد الأنوثة لسلام المجتمعات الذكورية.

فالرجل المسلم الذي يرتدي بنطلون جينز وتي شيرت مزخرفا بعبارات لاتينية، تفوح منه رائحة عطر باريسي، يتحسس الآي فون، من سيارته الكريسيدا، وبيده آي فون، يهبط بجانب زوجته التي ترتدي جلبابا أسود وقفازات سوداء ونقابا أسود، في مشهد يختزل حالة الفصام  الحضاري الذي تتعرض له الأمة، ويظهر بجلاء الحالة الجماعية التي تظهر الفحل منغمساً في الحداثة بجانب مساحة سيطرته الوحيدة المنغمسة في الظلام (واقعا ومجازا). مثلما البرلمان  ــ كمكان لممارسة الديمقراطية ــ الذي يزعجه وجود نائبة سافرة تحت قبته، يعكس هذه الحالة من الفصام في مجتمعات تبني مباني ضخمة لممارسة الديمقراطية وتبني داخلها عقولا ضخمة أيضا مضادة لجوهر الديمقراطية.  

بينما أمينة ماء العينين تنقسم بين أنوار باريس وعتمة حزب العدالة والتنمية، لتصبح موضوعا مركزيا في بلد يرزح الملايين من سكانه تحت خط الفقر والبطالة، مازالت أمامه حقبة طويلة ليخطو خطواته الأولى نحو العدالة المستحيلة والتنمية الصعبة، مثله مثل كل البلدان العربية أو الإسلامية التي مازالت تعتبر جسد المرأة عورتها، ومازال الحجاب مشروعها التنموي الاستراتيجي إلى أمد غير معلوم.

مقالات ذات علاقة

اسمعوا.. وعوا

علي عبدالله

بيان المحجوب ضد الكهنوت الإسلامي

سالم أبوظهير

جدلية الفنان والطاغية

أحمد إبراهيم الفقيه

اترك تعليق