طيوب النص

ليلة مرعبة: محمد الأسطي يتذكر الأيام الأولي للغزو الإيطالي لليبيا.

 
كانت ليبيا عند نهاية القرن التاسع عشر، هي الجزء الوحيد المتبقي من أملاك الدولة العثمانية في شمال افريقيا، ولقرب ليبيا من إيطاليا جعلها هدفا رئيسا من أهداف السياسة الاستعمارية الإيطالية التى دخلت مجال التوسع الاستعماري متأخرة، ولم يصعب على إيطاليا اختلاق الذرائع الواهية لاحتلال ليبيا فأعلنت الحرب على تركيا في 29 سبتمبر سنة 1911م، وبدأ الأسطول الحربي الإيطالي ضرب مدينة طرابلس في 3 من اكتوبر سنة 1911.
 

الإيطاليون على شواطئ طرابلس
الإيطاليون على شواطئ طرابلس


و خلال السنوات الماضية صدرت الكثير من الكتب والدراسات الاكاديمية والمقالات العلمية على المستوي المحلي او العربي او الايطالي والغربي حول الاحتلال الايطالي لليبيا، إلا انها ظلت تقتصر على الروايات الرسمية والسرد الجاف الذى يخلو من القصص والشهادات الشخصية للكيفية التى واجه بها الليبيين تلك المحنة و ما عاشوه من تجارب مروعة ودموية على يد القوات الايطالية الغازية التى لم تتورع عن القيام بإعمال العنف والمذابح ضد الشعب الليبي، وقد وجدت ضالتي في السيرة الذاتية للباحث التاريخي الراحل محمد محمد الأسطي *(1900-1991).
 
في كتابه “صفحات مطوية” الذى يتضمن سيرته الذاتية التي سبق نشرها في صحيفة الأسبوع الثقافي سنة 1976 في حلقات متسلسلة قبل أن تصدر في كتاب سنة 1983، قدم لنا ذكرياته منذ سنوات الطفولة المبكرة التى شهدت حدث تاريخي جلل سيغير من أقدار الليبيين وليبيا إلا وهو الغزو الإيطالي الذى يترك آثر لايُنسي في ذاكرة محمد الأسطي الطفل آنذاك و التى رواها في الفصل الذى يحمل عنوان ليلة مرعبة هذه مقتطفات منه.
 
(1)
رافق محمد الأسطي والده إلى مقهي قريب في فترة عيد الفطر حيث استمع الى احاديث عن قرب عدوان مسلح تزمع إيطاليا القيام به، وقد سبق له التقاط هذه الاخبار خلال زيارات شقيقه الضابط في سلاح الفرسان، حيث اصبحت البلاد تشهد حركة غير طبيعية بعد عيد الفطر مباشرة.. ويتذكر محمد الأسطي عن تلك الفترة الحرجة: “كانت هناك تجري عمليات واسعة لنقل الامتعة والذخيرة الموجودة بمخازن الجيش الى خارج المدينة و في الأول من أكتوبر سنة 1911 جاء أخي الى البيت في غير موعده، ليخبرنا عن مشاهدته مع رفقاءه دخان السفن الحربية الإيطالية، وعندما عاد والدي اخبرته امي بذهاب اخي سالم لمعسكره فلحقه ليلقي النظرة الأخيرة على ابنه ولكن سالم كان قد غادر إلى غريان ولم يعد منها فقد استشهد وهو يدافع عنها ضد الغزاة “.
 
في تلك الفترة كانت طرابلس في آخر ايامها من الحكم العثماني شهدت حضور الاف البدو من الدواخل تطوعوا لنقل المؤن والاسلحة والذخائر إلى أماكن آمنة خارج المدينة. و كانت طرابلس تشهد حركة كبيرة إذ أخذ الأهالي ينقلون كل ما قد يستفيد منه العدو، ويقول الأسطي: “اتجهت نحو مدرستي لأشاهد ما أصابها، فدخلت اليها فلم اجد الابواب والنوافذ والمقاعد. كلها حملها الاهالي او هشموها حتي لا تقع في ايدي الايطاليين. كانت الادوات المدرسية مبعثرة على الارض والكرة الارضية وجدتها مهشمة فوق الارض.. خرجت متأثرا متجها الى البيت ودموعي تسبقني لم اصادف طوال الطريق الا المسلحين من ابناء الشعب، معظم الدكاكين مقفلة والوالد موجود في البيت حيث قال لنا ان الانذار الايطالي بقصف المدينة ينتهي اليوم عشية”.
 
وكانت ايطاليا قد اعلنت قبلها الحرب على الدولة العثمانية حيث سلموا الانذار الى وكيل الوالي احمد بسيم وكان يصادف تاريخ 2 اكتوبر 1911، وقد رفض وكيل الوالي توقيع ورق الاستسلام وقال: “ان هذه البلاد تاريخها ناصع وانا اعرف ان مدافع الاسطول الايطالي اقوي من مدافع قلاع طرابلس ولكن لابد من الضرب والمقاومة حتي لا يقال ان قلعتنا استسلمت دونما مقاومة كي يغفر التاريخ لنا”.
في تلك الأثناء انتقلت اسرة محمد الأسطي من منزلهم بمنطقة الظهرة بزقاق الرخام الى منطقة الهاني وهي تبعد قليلا عن البحر، ليجدوا عدد من الضباط الليبيين يشرفون على تدريب مجموعة متطوعين ليبيين، وعند الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الثالث من اكتوبر تشرع سفن الايطاليين في قصف المدينة حتي ساعات الغروب لتستأنف القصف في اليوم الثاني وكانت مدافع القلاع بطرابلس ترد على نيران مدفعية الاسطول الايطالي ونظرا لتفوق الاسلحة الحديثة الايطالية وتهالك ما بيد المدافعين الليبيين سكتت استحكامات القلاع الليبية عن الرد لينزل البحارة الايطاليون الى البر صباح الخامس من اكتوبر 1911.
 
مع عودة الهدوء المؤقت للمدينة ترجع أسرة الاسطي الى بيتهم في منطقة الظهرة حيث شهد محمد (11عام) نزول الجنود الايطاليون في ميناء الحلفة، يقول: “كنت اتخيل حال مدرستي التى احببتها ورفاقي في الصف وقد تشتتوا ومديرنا ومعلمينا الطيبين، تري هل يجتمع شملنا من جديد بعد ما حدث..لا أظن..احنيت رأسي وقد غلبتني الدموع”.
 
في ليلة العاشر من اكتوبر 1911 بدأ اول صدام بين البحارة الايطاليين في ابي مليانة ودورية من المجاهدين بقيادة الملازم اول أشرف المزوغي.
 
كانت ساحة سوق الثلاثاء تُستخدم كسوق شعبي يباع فيه كل شىء من الأقمشة واللحوم والحبوب والخردوات وتصدير الحلفا حيث يأتي سكان الدواخل للبيع والشراء بدء من عشية الاثنين حتي مغيب شمس يوم الثلاثاء. إلا أن الحال تغير من تاريخ العاشر من اكتوبر حيث غصت الساحة بالجنود الايطاليين والخيل والبغال والمدافع واكداس الصناديق، وفي تلك الأثناء تم توزيع منشورات بكميات كبيرة مكتوبة باللغة العربية تتوعد السكان من لا يسلم اسلحته لقوات الاحتلال بأبشع العقوبات، وكان الأهالي تصرفوا بذكاء إذ قاموا بتسليم بنادق الصيد والبنادق القديمة واحتفظوا بالبنادق الحديثة التى تسلموها من السلطات العثمانية قبيل الاحتلال، وقد انطلت الحيلة على الايطاليين فظنوا ان الاهالي اصبحوا عزل من أى سلاح وبالتالي أعطاهم هذا جو من الثقة والطمأنينة.
 
(2)
خيمت سحبا ً من الكآبة على سكان مدينة طرابلس، ولكي يوهم الإيطاليون الناس بأن الحالة عادية والإيحاء لهم بان ثمة حاكم ذهب، وأتي حاكم غيره فكانوا في الأيام الأولي للغزو لا يضيقون على الناس ولا يمنعون خروجهم الى الضواحي او مغادرة المدينة، إلى ان جاء يوم الاثنين 23 اكتوبر 1911 خرج محمد من البيت بحاثا عن أصدقاءه بالمدرسة، ليجد الشوارع تخلو من الناس الا قلائل يجلسون امام حوانيتهم في منطقة الظهرة وهناك بدأ محمد يسمع اصوات اطلاق رصاص كثيف فركض عائدا الى بيتهم ليقابل في الطريق رجل مسرع يبشر الناس بالقول: “يا جماعة الخير ابشركم بان المجاهدين دخلوا منطقة سيدي المصري وقد شاهدت بعيني علما بهلاله ونجمته مرفوعا على مئذنة جامع الصومعة الحمراء”.
 
اغلقت الحوانيت ابوابها وخلت الشوارع والازقة من المارة وصار الخروج خطرا، مع تزايد عدوانية الجنود الايطاليين المصدومين بالمقاومة، فكانوا يقتحمون البيوت بحثا عن الاسلحة والذخائر ويطلقون النار على السكان، ويتذكر محمد ما فعلوه بجيرانهم :” لقد قتلوا الشيخ حسين البارودي وابنيه الشابين الطالبين بالمدرسة الرشدية العسكرية أخرجوهم من بيتهم، قادوهم الى الخلاء المواجه لجامع ضرار وصوبوا بنادقهم الى صدورهم واطلقوا الاعيرة….وشيخ الحزب في زاوية سيدي محمد بن الامام وهو الحاج قاسم بن لطيف اطلقوا عليه الرصاص ايضا امام بتيه لمجرد انه رفع صوته في مواجهتهم وتركوا الجثث غارقة في دمائها”.
 
المذابح التي ارتكبتها القوات الإيطالية الغازية ضد الأبرياء الليبيين اكتوبر1911
وأما في الليل فقد قام الجنود الايطاليين بإشعال النار في أكواخ (زرائب) الجاليتين البرناوية والوادوية** لقيام احد هؤلاء بقتل جندي ايطالي.
 
وتصبح المدينة القديمة مكتظة بجموع اللاجئين من الارياف القريبة والأحياء الواقعة في اطراف المدينة. رغم صعوبة الحصول على تصاريح للتنقل إذ صار التنقل ومغادرة المدينة يحتاج لتصاريح تمكن السكان من المرور عبر دوريات الايطاليين، وقد نجح والد محمد في الحصول على تصريح لدخول المدينة والبحث عن مكان للإقامة فيه، ويفسر الأسطي هذا الأمر بالقول :” طلبنا دخول المدينة سببه تلك الخطورة المتمثلة في القتل الجماعي الذى يمارسه الايطاليون في الاطراف، وهكذا خرجنا من بيوتنا وتركناها بمافيها فلم نحمل معنا إلا مانرتديه من ملابس”.
 
___________________________________
* ولد محمد محمد الأسطي في مدينة طرابلس سنة 1900 حيث تلقي تعليمه الأول بها، ثم واصله في تركيا، وعاد الى طرابلس سنة 1919 وعمل بالتجارة ثم ألتحق بالتعليم إلى أن عُين مترجما ً في دار المحفوظات التاريخية سنة 1955، وقد شارك بتأليف عدد كبير من المقالات والبحوث التى نشرت في العديد من الدوريات المحكمة، وتوفي في سنة 1991.
**الجاليتين البرناوية والوادوية هما اهل النيجر (برونو) و التشاديين (الوادوي)، وتقع أكواخهم في المكان الذى به فندق قصر ليبيا الآن.
 
 

مقالات ذات علاقة

لا تسألوا الكبار

حسن أبوقباعة المجبري

عن السلطة!!!

عطية الأوجلي

حياةٌ معكْ

محمد إبراهيم الهاشمي

اترك تعليق