قصة

ليس كل من يأتي من إنكلترا يحبُ “الروك أند رول”

رؤيا شعبان

من لوحات إنسان ما قبل التأريخ.. أكاكوس، ليبيا

كُنت أحب تدخين السجائر مع صديقي عباس، كُنا نحب السجائر والموسيقى الجيدة. أدخنّ في الخفاء، لم يكنّ مسموح لي بالتدخين لأني فتاة ولأني من عائلة مُحافظة. لا تسألوني ما علاقة التدخين بكون الفتاة شريفة، فأنا أيضًا لا أعلم، لكن أخي عبدو ينعت كل مُدخِنة بالعاهرة. كان عباس هو من يجلب لي السجائر، يتستر عليّ، يشاركني تلك السعادة العابرة. نصعد لسطح المبنى المهجور في نهاية شارعنا.. نجلس على حافة السطح، نراقب المدينة، نتسابق في قذف الحجارة لأبعد نقطة، نتبارى في البصق على المارة بينما دخان السجائر يُحلق فوق رؤوسنا.. اغنية صادحة من أغاني “الرولينج ستون” تلعب في المُسجل الصغير خلفنا. لا أحد يعرف لما توقف العمال عن اكمال البناء، يقال أن حادثة فظيعة قد جرت أثناء عملهم عليه في مطلع التسعينات. كُنا نحب الجلوس هناك، خاصة في أوقات المساء. كانت موسيقى الروك أند رول تجعلني أحلق مثل سحابات الدُخان. أحيانًا يسبقنا الآخرين للسقف. وأحيانًا نسبقهم ونطردهم من هناك. كان المبنى المهجور في نهاية شارعنا ملاذا لمعظم العُشاق مدخني الحشيش من المراهقين والصغار. يتألف المبنى من ثلاث طوابق. واسع وكبير. كانوا يختبؤون فيه بحذر، يتبادلون القبلات ويمارسون الحُب ويتعاطون المُخدرات. أحيانًا نختبئ أنا وعباس في الطوابق الأخرى بين الشقق ذات الجدران الاسمنتية المتأكلة، لنراقب الشبان والفتيات وهم يتضاجعون من بين الثقوب. أجسادهم تتهاوى ويكتمون الصيحات… تلك البناية باختصار، كانت مثل ستار يحمي جميع المتمردين في حينا مِن عيون المُجتمع التي تترصدهم، كل شخص يأتي إليه يحاول اخفاء شيء ما، تمامًا مثلما كُنت أخفي حبي للسجائر…
أنا وعباس كُنا صديقان مقربان منذ الطفولة. لم يكنّ عندي صديقات ولا أعرف سواه. فشلت في كسب محبة البنات الاخريات، ربما لأن ولا واحدة منهن احبت نفس الموسيقى. كنت أقضي معظم وقتي مع عباس.. كانت أمي توبخني حين تراني عائدة من المدرسة برفقة عباس نقهقه حول أمر ما، او نجري خلف بعضنا البعض ونتصارع. تقول لي “أنت لم تعودي طفلة، عيب تمشي مع ولد في الشارع، الرجال ما فيهمش أمان.. وهو خلاص اصبح رجل” أما اخي عبدو فقد كان يثور مثل البركان حين يرى عباس معي، ضربني ذات مرة في الشارع لأني كنت اتبادل سماعة الويكمان معه، كسر الجهاز وهدد عباس بالقتل لو رأه معي وفرض على لبس الوشاح فوق رأسي. ولكننا لم نهتم لكل ذلك، كانت صداقتنا تفوق مخاوفهم. عباس لم يسبق وأن أحب فتاة من عمرنا. كان دائمًا يميل للسيدات. يحكي لي عنهن باستمرار. أرتبط ذات مرة مع سيدة تكبره بخمس عشرة سنة، كانت أرملة وجميلة وتعيش وحيدة. شعرها أحمر وعينها جميلتان. كان عباس يحبها جدًا ومولعًا بها.
كانت الحياة جميلة وقت ذاك، حين كنا لا نزال في المدرسة الثانوية، كل شيء مثالي، لا شيء يمكنه أن يحطم تلك السعادة، وكانت هناك حياة كاملة بانتظارنا..
أخبرتني أمي بأنني سأتجوز حين أنهي دراستي الثانوية أي أني لن انهي تعليمي الجامعي وكشفت عن سبب رغبتها في ابتعادي عن عباس ” لا يجب أن تراك احدى اخواتي معه في الشارع وإلا قد يعدلون عن الخطبة”. كانت تريدني لابن خالتي الذي يدرس في انكلترا، لم يسبق لي وأنّ قابلته منذ أن كنت طفلة صغيرة. قالت لي أمي بأنه سيأتي لزيارتنا، سوف نتعرف عن بعضنا، وسوف يأخذني معه لإنكلترا بعد الزواج. كنت أطوق لذلك في الواقع، لم أهتم لإكمال دراستي. كنت اريد أن أكون هناك في انكلترا برفقة رجل وسيم ، فإنكلترا هي الجنة. بلد البيتلز والرولينج ستون والبينك فلويد.
لم تكن عندي طموحات كبيرة في الحياة، كل ما اردته هو الموسيقى والاستمتاع بوقتي.. لمْ يسبق وأن أقمت علاقة عاطفية مع أحد.. رغم أنني كُنت معجبة بأحد الشبان في حينا، عازف القيثارة. تمنيت أن أتعلم كيف أعزف على القيثارة مثله، كي أعزف كل تلك الأغاني التي احبها، أغاني ديفيد بوي، واغاني دا هو.. كان ذلك أول ما رغبتُ فيه. قال لي عباس: ” ربما ستتعلمين العزف حين تذهبين لإنكلترا.”
كنت متحمسة جدًا، أحيانًا أتسأل: ” هل تظن بأن ابن خالتي سيسمح لي بتدخين السجائر بعد أن نتجوز؟”
ويقول لي عباس دائمًا: ” لا شك بذلك، لابد وأنه مُختلف. إنه يعيش في انكلترا.. “
كنا حالمين وصغار، ولم نعرف شيء عن العالم أكثر مِما اكتشفنا بأنفسنا. كنا نظن بأن كل من يعيش في انكلترا مُختلف، وكل من يعيش في انكلترا يحب الروك أند رول، وكل من يعيش في انكلترا يشرب الفودكا ويرتدي الملابس الغريبة.. حتى جاء ذلك اليوم الذي التقيتُ فيه بخطيبي المُنتظر. كنت متشوقة لأسأله عن الحفلات الموسيقية التي حضرها هناك، هل سبق وأن شاهد مايك جارجر أو بول مكارتني على المسرح يغنون ويرقصون..
كان ابن خالتي حاد الملامح ووسيم بعض الشيء، ضخم البنيان لكن لم يكنّ يبدو فيه أي شيء مُميز. كان يلبس قميصًا عاديًا مثل التي يلبسها أخي الذي يطيل لحيته ويشمر سرواله القصير. لا يوجد عليه شعار لفرقة من تلك الفرق التي نحبها أنا وعباس أو التي لا نعرفها. لم يكن يضع قرطًا على اذنه مثلًا، أو يلبس قبعة أو يضع تاتو في أحد ذراعيه أو يملك تسريحة شعر مختلفة عن تلك التي نراها كل يوم في الشارع. كان عادي أو أقل من ذلك، ومهذب أكثر من اللازم. كان جاد أيضًا، ولا يتكلم.. جلسنا سويًا، لوقت طويل. تبادلنا النظرات بصمت. كان يبدو أكثر خجلا مني، فقد كُنت متحمسة وكانت تعابير وجهه لا توحي بشيء، جعلتني أهدأ. سألته في نهاية المطاف السؤال الذي كنت متلهفة لطرحه: ” هل تُحب الموسيقى.”
رد عليّ: ” أجل. لكني لا استمع كثيرًا. أعني أحيانًا ليس كثيرًا”
” هل تحب الرولينج ستون؟”
“هاه؟”
“إنه فرقة روك انكليزية شهيرة.”
“لا أدري، اظن بأني سمعت عنهم، لكن لا أحب الروك أنـ.. ” تلعثم قليلاً وأكمل: “كما أني أفضل الموسيقى العربية. لا احب الاجنبية.”
” حقًا؟!”
“أجل.”
وصمتنا. انتهت تلك المقابلة على ذلك النحو. لم يخبرني أي شيء عدا الأطباق التى يحب أكلها، او كيف يفضل أكل المعكرونة. ولم نتحدث عن أي شيء مهم. كنت قد شعرتُ وقتها بإحباط شديد. تحطم قلبي للمرة الأولى. خفت بأن انكلترا ليست جميلة كما كنت اتخيلها. ربما هي لا تشبه تلك الأغاني التي نحبها. عدتُ لتدخين السجائر مع عباس، يُجلب أشرطة الأغاني، نتكلم عن الفِرق التي نحبها، نستمع للألبومات القديمة التي استعرتها بصعوبة من أشخاص مختلفين، نغني بإنكليزية رديئة، نردد الكلمات ونلحنها، نتسأل عن معاني بعض الكلمات.. كانت حلقة غير منتهية تتكرر كل يوم فوق سطح المبنى المهجور. أمُسِك صور المغنين البالية الموجودة على أغلفة الاشرطة، احلم بأني نِمتُ مع واحد منهم. ماهي الوضعية التي يحبها هذا وما هي الوضعية التي يحبها ذاك، أحاول أن أتخيل. ثم يظهر ابن خالتي أمامي، يأخذك مكان صورة المغني الذي على الغلاف، أدرك بعدها بأني لنّ أكون مع احدًا منهم اطلاقا.. شعرت بالتيه، بأن حياتي لن تكون جميلة كما أردتها أنّ تكون في مخيلتي. قلت: ” أظن بأنه لن يسمح لي بتدخين السجائر أيضًا.”
” ربما عليك أن تتوقفِ عن التدخين.”
“كم فتاة تظن بأنه قد ضاجع هناك؟”
“ماذا؟”
“إنه يعيش في انكلترا ولا يعرف الروك أند رول..”
“هاهاها، ليس كل من يأتي من انكلترا يحب الروك أند رول.”
” أنا خائفة جدا يا عباس.”
قذف عباس بسيجارته حتى أختفت في الهواء، قال شيء ما لم افهمه قبل أن يمسك بكف يده ذراعي بقوة، تحسست قبضته ونظرت نحوه فاقترب مني. ظننتُه بأنه سيحاول تهدئتي كما يحدث في كل مرة ابدأ فيها في الثرثرة عن مخاوفي وعن حياتي الخاصة.. وضع يده على مؤخرة رأسي وباغتني بقبلة على شفتاي. شعرت بشفاه فوق شفتاي، حسستُ بأنفسه تعبر خلالي، مثل الدخان الذي ينفت عبر فتحات الأنف بعد نفس طويل، جعلني ارتعش. كانت تلك أول قبلة في حياتي. أجل أول قبلة.. كانت باردة، ومرت بخفة كما لو انها قطرة ماء وقعت من مكان مرتفع وهزت البحيرة. لم أتحرك من مكاني، ولم أفعل شيء. لبعض الوقت، تجمد كل عرق يحتوى الدم في جسدي، بعدها بلحظات هتفت والدم يتدفق حرارة وانا ادفع عباس عني:
” هل جننت!”
اطاح بي عباس أرضًا، أسقطني ممددة على طولي، أهتز رأسي، تألمتُ كثيرا.. حاولت أن أنهض بسرعة، لكنه سبقني بمسك يدي وتثبيتهما نحو الأرض، وصار جسده فوقي. صعقني بنظرة شرسة لم أعهدها فيه. تضاعف احساسي بالخوف والتيه. كنت أردد: ” ما بك!” لكنه لم يكن يجيب. بدأ لي عباس غريبا، كما لو أني لا أعرفه. فكرت للمرة الاولى في حياتي، “من يكون عباس؟”، كنا دائما معا، لكني من كان يتكلم بأستمرار. لماذا يحب عباس السيدات الكبيرات؟ ماذا يريد أن يصبح عباس حين ينهي تعليمه؟ هل سبق له وأن مارس الحب في الخفاء مثل باقية الشبان والفتيات في حينا.. وقعت السيجارة التي كنت أمسك بها، توقف عقلي! بوسعي الاحساس بحرارة دخانها ينفت تحت يدي، ربما احرقت صورة المغني التي كنت امسك بها أيضًا. كنا على حافة المبنى وعباس بكامله فوقي، يثبت يداي. رفع قميصي بهدوء وأدخل يده بينما كنت أنا في حالة من الذعر لم أقاومه بتاتًا. شعرتُ في البداية بيده الدافئة فوق جسدي، تتحرك للأعلى، من بطني، ثم تلاعب نهداي. خِفت. ثم انحنى بجسده حتى لامس جسدي، واخد يقبلني على وجهي وعنقي. لم أفعل شيء. كنت أعلم بأن شيء غبيًا مثل هذا قد يحدث في يوم ما، كنت اعلم ذلك دومًا.. لكني فقط لم أتوقع أن يفعل عباس بي ذلك. ربما شعوري بالصدمة هو ما جعلني لا أفعل شيء. ظننت أن عباس لا يهتم كثيرًا بي، هكذا كنت اعتقد طوال حياتي، والآن، أنا عاجزه أمامه.. شعرت بيده تنزل أسفلًا بعد ذلك تحاول فك ازرار بنطلوني.. وكان يحكم القبض عليّ بيده الأخرى وجسده الثقيل منعني من الحِراك. صحتُ أخيرًا: ” توقف يا عباس، هل جُننت.”
لم يتكلم ولم يقل لي شيئًا، بل كان ينظر بحدة، لا ينظر لي ربما، كان يبدو كما لو أنه ينظر لشيء بعيد، أبعد مِني. كما لو أنه انتظر طوال حياته لأجل هذه اللحظة. واصل فعل ذلك بلا مبالاة بكلماتي. كان يستعد للقيام بشيء فظيع، شيء سيهلك حياتي وحياته. واصلت الاهتزاز والصياح: ” توقف يا عباس. أرجوك توقف أنا خائفة!!”
لكنه لم يكترث. فك حزام بنطلونه وخلعه، و بدأ بسحب بنطلوني بسرعة ليكشف عن سقاي المرتعشتان. بدأتُ لحظتها بالمقاومة بعنف والخدش بأظافري والصراخ بكل ما استطعت، وسمعته يقول لي بصوته الذي عهدته هامسًا: ” توقفي أيتها الحمقاء، أنتِ لي منذ البداية. لقد كنت لي على الدوام.”
“انا مخطوبة سأتجوز!.”
“لكنك لا تحبينه. لا أحد سوايّ يحبك..”
“عما تتكلم.”
اقترب مني اكثر، بوسعي الاحساس بحرارة جسده تلسعني مثل الدبابير الخفية. قال لي: ” بهذه الطريقة فقط لن يتجوزكِ احد غيري. ستكونين لي للأبد”
نظرتُ لعيناه، كان هناك وهج غامض حوله، لم أفهمه إلا في وقت بعيد من ذلك اليوم. شعرتُ بشيئه يخترقني. وكأن الزمن توقف.. لقد تمزقت! لبضع دقائق كل ما كان بوسعي سماعه هو صوت مايك جارجر في المُسجل يغني:
I stood and held your hand.
And nobody else’s hand will ever do
Nobody else will do
Then I awoke
Was this some kind of joke?
صرختُ بصوت عالي.. وضعت كلتا يداي على صدره ودفعتُه بكل جهدي. كُنا على حافة المبنى، على الحافة تماما حيث جلسنا مِئات المرات نستمع لموسيقى الروك اند رول ونترك سيقاننا تتهاوى ونحن نستمع بسجائرنا. لم يكن هناك أي جدار يحيط بالسطح، لم يكنّ هناك أي شيء بوسعه الأن أن ينقد احدًا مِنا. تدافع عباس للوراء كالمخدر بفعل يدايّ، لحظات، ثم تهاوى للخلف..

كانت تلك الحادثة الفظيعة الأخرى التي وقعت في المبنى المهجور في نهاية شارعنا مطلع الألفية. وتسببت في اخلاءه وتحطيمه. كيف تجوزت؟ كيف سافرت لإنكلترا؟ لا أعرف. عشتُ حياة متهالكة أراقب العالم من حولي وهو يتغير. أحيانًا اتسأل، ماذا حدث، احيانًا لا أعرف كيف عشتُ حياة كاملة في صمت من دون أن اخبر احدهم بما جرى، ربما شعوري بالذنب، أو الخوف هو ما جعلني خرساء عن قول الحقيقة. كان بوسعي أن أخبر الجميع وأن اتخلص من شبح عباس الذي لم يتوقف عن مطاردتي، لكني لم أفعل. لا اعرف كيف قاومت بجوار زوجي كل تلك الفترة من دون أن يكتشف شيئًا عني، كُنت اتحجج .. أريد أنّ انهي تعليمي، ما زلت صغيرة… كُنا على وشك الطلاق عندما مات، في الواقع أنا أيضًا لا أذكر أنّ كنت أنا من قتل زوجي كما قتلت عباس، أو أنه مات في حادث بالفعل كما دون في سجل الوفاة.. صِرتُ أرملة ووحيدة، صبغت شعري بالأحمر لأتخلص من ذاتي القديمة، صرتُ تمامًا مثل السيدات اللواتي احبهن عباس حين كنا في الثانوية.
لا أحد سوايّ يحبك تتكرر كلماته الأخيرة في رأسي بأستمرار، ونظرة عيناه لا تفارقني أبدًا، أراها على وجهه كل رجل أقترب منه..
توقفت عن الاستماع لرولينج ستون، صار صوت مايك جارجر يصيبني بالاكتئاب.. الموسيقى كلها تصيبني بالاكتئاب، عدتُ من انكلترا وأنا لا أعرف شيئًا عن الروك أند رول.
لم يعد هناك سجائر أو موسيقية جيدة، لم يعد هناك سوى عباس وهو يسقط.
تمت.

مقالات ذات علاقة

خُـفُّ

محمد الأصفر

الدرويش

سعد الأريل

خثارة بلل

آمال العيادي

اترك تعليق