النقد تشكيل

لوحة احتضار السمكة… صورة عن انتحاب روح الفنان

احتضار سمكة؛ من أعمال التشكيلي مرعي التليسي

في أحد المعارض التي نظمتها دار الفنون سنة 1993 تقريباً، فجئنا الفنان مرعي التليسي بلوحة (إحتضار السمكة) ، التي رسمها بعجائن الزيت على قماش (الكانفس)، كان مقاسها  120×100 سم، أنجزها سنة 1992، وهي من ممتلكات الطبيب خالد الغزاوي. كانت اللوحة، قفزة إبداعية آنذاك، بالنسبة للإنتاج الفني لمرعي التليسي، على المستوين التقني والطرح الفكري والجمالي. تبدو فيها سمكة الزينة، برتقالية اللون، ملقاة على أرضية، بلون رمادي، بعد تهشمِ إناء الماء الزجاجي، البيئة التي كانت تحتضنها، وتناثر قطرات الماء على كامل مساحة اللوحة… السمكة في لحظة حرجة، بين أن تبقى على قيد الحياة، أو أن تلقى حتفها، في لحظة زمنية فارقة، تمثل حالة صراعٍ من أجل البقاء، أو الرحيل إلى الأبد، والاستسلام لقدر الفناء. هذا هو الانطباع الذي قد يخرج به المرء منذ الوهلة الأولى عند مشاهدته اللوحة.

     لكن قبل الخوض في قراءتها، لابد لنا، من الإشارة إلى خلفيتها الفنية. وتذكير ببعض العلاقات التي شكلت وصاحبت رحلة الفنان مرعي التليسي الإبداعية، عبر مسيرة امتدت، إلى أربعة عقود تقريباً. متأثرة بشكل إيجابي، بما كان يطرح في الفن آنذاك، محلياً وعالمياً، ومتفاعلة مع محيطه التشكيلي والثقافي بشكل عام. سأتطرق في المقام الأول إلى تأثره بلوحة (ذكرى)، للفنان فوزي الصويعي، التي أنجزها سنة 1990، عندما قيامه برسم لوحة (احتضار السمكة). فــالتليسي، الذي بدأ واضحاً تأثره بهذه اللوحة، لم يكن تأثره سلبياً، بل إنه قد جعل منه تأثراً إيجابياً، بمعنى أنه لم يكتفِ بتقديم موضوعه، بمهارة وحرفية الرسام الواقعي البارع، دون رؤية وخطابٍ فكري؛ بل إنه حمل لوحته رسالة إنسانية ذات مغزٍ عميق، سوف نقف عند حيثياتها لاحقاً.

    قبل ذلك من المهم الإشارة، ولو على عجل، إلى العلاقة الوطيدة التي جمعت الفنان مرعي التيلسي بفوزي الصويعي لاسيما طوال عقد الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات، فبعد عودته من الدراسة في أمريكا سنة 1983، والتحاقه بإدارة الفنون التشكيلية بأمانة الإعلام والثقافة، التي تأسست سنة 1980 تقريباً. وكان الفنان مرعي التليسي أحد مؤسسيها. أظهر الصويعي خبرة ومهارة وطرحاً جديداً لم يكن معتاد في الرسم الواقعي في بلادنا، بدأ ذلك جلياً في لوحاته (الباب) ، سنة 1984 و(صندوق الكرتون لعلب الحليب)، سنة 1985 ولوحة (الشهيد أو الاستمرار) ، سنة 1986. ونظراً لتقارب العمر، تكونت بينهما علاقة متينة ورفقة دائمة. نتج عنها تحول الفنان مرعي التليسي من رسم لوحة ذي طابعٍ سريالي، إلى رسم اللوحة الواقعية، منتجاً على سبيل المثال: لوحة (التأمل التي عنونها فيما بعد بالراعي) سنة 1985. ثم (الحصاد) سنة 1986 تقريباً. كان التليسي والصويعي دائمي تبادل الأفكار والآراء الفنية فيما بينهما، حتى يخيل للمرء الذي لم يعرفهما، ويقابلهما للمرة الأولى، أنهما توأمان من أمٍ وأبٍ واحد.     

   الآن بعد هذه البسطة التاريخية، يمكننا أن نستهل قراءتنا للوحة7، قراءة سيكولوجية بصرية. ونلاحظ أولاً، وضعية السمكة في اللوحة، من حيث زاوية النظر إليها، (بالنسبة للمشاهد). ثم لننظر إلى ما يحيط بها من كل جانبِ. شظايا زجاج محطم وقطرات ماء متناثرة على أرضية رمادية فاتحة. ثم لنمعن النظر في شكل الظلال وزاوية اتجاهها، الناجمة عن مصدر الضوء الساقط على جسد السمكة… فكل هذه العناصر القليلة التي تُكوّن اللوحة، لها دلالاتها الجوهرية لفهم الرسالة، التي أرادها الفنان أن يبعثها. 

الفنان التشكيلي مرعي التليسي

    تذكرنا هذه الوضعية بلقطة فوتوغرافية لمسرح إحدى الجرائم الجنائية، سواء كانت اغتيالاً، وإم حادثة قتل، وإم حادثة سير مروعة وإم إنها صورة لمحاولة انتحار. لكن التليسي كما أشرنا سلفاً، بأنه بدأ في البحث عن تضمين لوحاته رسائل فكرية، استعار هذه المشهدية، ليسقطها على لوحته، مصوراً لنا (سمكة الزينة، برتقالية اللون). ذلك المخلوق الضعيف الوديع، ضحية، في حادثٍ، يعتصر له القلب، دون أن يشر ولو بطرف إصبعه، إلى الجاني (الفاعل)، ولم يبين إن كانت ثمة أداة لتنفيذ الجريمة هذه، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك. فلم يساعدنا، بأن يترك لنا ولو آثراً أو بصمة تدل على الفاعل. ليس ثمة شيء من كل ذلك. كل ما هنالك سمكة ملقاة على الأرض، وزجاجٍ مهشمٍ متطاير من حولها.

    ترك التليسي أمام المتلقي فرصة طرح الأسئلة والتساؤلات. فالمتأمل في هذا العمل الفني، سيسأل في نفسه، من الذي فعل هذا، بالمخلوق الضعيف، يدخل البهجة والسرور على روح الناظر ؟!. ما الذنب الذي يمكن أن يكون قد اقترفه؟ ليفعل به كل ذلك؟!، وسيصل باستنتاجه مباشرة، أن الذي فاعل، ليس بقطٍ جائع، كما هي الصورة الذهنية النمطية الشائعة عن القطط التي تهاجم أحواض السمك لكي تلتهمها. لا. بالتأكيد ليس من حطم الإناء. قطٍ جائعٍ؛ وإلا فإنه كان قد التهم السمكة بأكملها، أو أن أثآراً لأقدامه قد بقت ظاهرة. إذن من هو الفاعل؟. عند هذه النقطة سوف يقف المتلقي حائراً، أمام هذه الأسئلة، دون إجابة شافية. ويتعين عليه أن يتوقف عن السير في هذا النهج من التفكير، وطرح مثل هذه الأسئلة المباشرة. بل عليه أن يغير، نهجِ تفكيره، وقراءته للحدث. وينظر إلى المسألة من منظور آخر، يكون مغايراً. لكن ثمة سبيل للوصول إلى معرفة شيء مبدئي حول اللوحة، تركه الفنان على حائط صفحته العامة، في موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك. يوم أن كتب يقول: “إنه احتضار كل ما هو جميل في حياتنا. إنها لحظة الفقد المؤلم بانكسار “إناء الحياة” وتناثر قطرات الماء، والزجاج المهشم على سطحٍ رمادي. إنه الاحساس العميق المؤلم بضياع الأشياء الجميلة والاقتراب من حافة الموت.” ثم تابع يقول: ” إنها من أعمالي التي مثلت انعطافاً كبيراً في مسيرتي الفنية.” وختم مشيراً “العمل قديم من فترة الثمانينات الكئيبة.” بالفعل، فهذه اللوحة في رأيي تمثل تحولاً في إنتاج التليسي الإبداعي، وتمثل أيضاً حدثاً إدرامياً تراجيدياً بامتياز.  

   لقد سهلت الأسطر، التي كتبها الفنان حول لوحته، معلقاً وموضحاً – لزوار صفحته الفيسبوكية – مغزى الرسالة ومضمونها الفكري، الذي كان يعنيه من وراء رسمه لهذه السمكة الهالكة. والذي، ربما، لا يكون مفهوماً لدى المتلقي العادي، الذي يفتقد إلى ثقافة بصرية.

   في رأيي أيضاً، تُعد هذه اللوحة شاهداً، على لحظة حاسمة، من ضياع أملٍ في حياةٍ، كان الفنان ينشدها، إنها ترميزٍ لتحطم قيمة – ليست مادية –  بل إنها معنوية ونفسية… وأزعم أن مسألة الفن بالنسبة إليه، كانت تشكل نقطة جوهرية في هذه المسألة، إنها مسألة، حياةٍ، وطموحٍ وبلوغ إبداعٍ فني،  كان الفنان دائماً ينشده ويسعى إلى تحقيقها، لكن واقع الحال آنذاك، حال دون بلوغه وإنجازه. فعندما يقول التليسي: “إنها لحظة الفقد المؤلم، بانكسار “إناء الحياة”… إنه الاحساس العميق المؤلم بضياع الأشياء الجميلة والاقتراب من حافة الموت.” فهذا يعني – صراحة–  أنه كان يشعر بفقد أشياء ثمينة بالنسبة إليه. إنها بمثابة صرخة تعبر عن وجعٍ، جراء ألمٍ يتجرعه، من وراء حادثة وقعت له، أو فقدان شيء عزيز على نفسه، بدأ يشعر أنه يرحله عنه، يبتعد، بعيداً عنه. فهو الذي يؤكد على ذلك بقوله: “العمل قديم من فترة الثمانينات الكئيبة”. بالفعل. إنها الكآبة التي مثلتها تلك الحقبة من التاريخ، وأثرت آنذاك على جيل كامل من الشباب الطامح إلى حياةٍ أفضل في بلادنا.

   اللوحة رمزية بامتياز، لكنها تنتمي إلى ما اصطلح عليه في الفن الحديث، بالواقعية المعاصرة، وهي جملة من الأساليب الفنية، التي تمظهرت في ثوب واقعي، ظهرت ضمن توجهات (ما بعد الحداثة) في الولايات المتحدة الأمريكية منتصف ستينيات القرن المنصرم.

 فسمكة الزينة، في اللوحة، هي رمزٍ، بما تحمله من خصائص تعكس الجمال، والرقة، والرهافة، والوداعة، والبهجة. وهي ذات الخصائص التي تعكسها قيم الفن، وروح الفنان (المرهفة). لاسيما إذا ما علمنا أن سمكة الزينة، ترمز أيضاً في علم تفسير الأحلام، إلى بشائر تحقيق الأماني والرغبات الكامنة. إما الإناء، فهو بمثابة الحياة والمحيط والأسري والاجتماعي بأكمله، الذي يعيش فيه ومعه الفنان، ذلك الكائن الذي يأبى التنميط.

   إننا إزاء لوحة تحمل وجع وألم وصدمة وتجربة مرّة، ربما يكون قد مرّ بها الفنان ذاته، أوصلته إلى حافة الموت، إلا أنه لم يكن يريد أن يفصح عنها للملأ. ولذا فهو لم يشر – في لوحته – إلى من كان وراء هذه الحادثة، وظل الفاعل مجهولاً أمامنا. إلا إذا ما تتبعنا الخيط الرفيع الذي تركه لنا الفنان في تعليقه، ليصلنا إلى معرفة ما كان وراء هذه الفاجعة. الفنان كان لقد أشار إلى (عقد الثمانينيات) ووصفه بالكئيب. وهو وصفٍ لم يأتِ به اعتباطاً، بل إنه كان مقصوداً.

 إذن ثمة كآبة أشار إليها، وهي في رأيي، كآبة كان الفنان يعيشها في داخله, هي في اعتقادي، من جنت على حياته وإبداعه. فبالرغم مما يظهره من روح الدعابة والمرح أمام الملأ. إلا أنه كان يخفي في داخله  كآبة قاتلة، لم يرد الإفصاح عنها أبداً، حتى لأولئك المحيطين به. كانت تظهر فقط في بعض لوحاته، منها على سبيل المثال: لوحة (الطائرة الورقية والسماء) التي رسمها في المنتصف الأول من عقد التسعينيات، وتصور سماء على هيئة ورقة، تحاول طائرة ورقية، اختراقها، ولكن دون فائدة. فالسماء مسدودة أمامها. هي صورة بلاغية عن معنى انسداد الأفق، أمام حلم الطفولة، إنه شعورٍ بانسداد الفضاءات الواسعة. ثم لوحته (الأجنحة والفضاء) التي رسمها سنة 2006، ويظهر فيها عصفور صغير، مجروح ومنهك، ملقى بجانب نافذة زجاجية، حاول أن يخترقها للخروج إلى فضاء أرحب، ولكنه وقع سجيناً، خلف نافذة مؤصدة. ولا أنسى هنا، أن أشير إلى لوحته الرائعة (كنوز الصحراء) التي رسمها سنة 2005 تقريباً وتظهر فيها الصحراء على هيئة باباً مغلقاً، ومحكماً بسلسلة وقفل حديدي، بينما في مقدمة اللوحة، من الجهة اليمنى ثمة فرشاتان تحلقان، هما كناية عن معنى (الفن والقيم الجمالية)، وفي الجانب الأيسر من اللوحة ثمة قطعة حلي تقليدية، مصنوعة من الفضة ملقاة في الفضاء، ترمز للحرفية والصناعات اليدوية. وهي أشياء تتناقض – بطبيعة الحال – مع حياة الصحراء، وحياة البداوة والأقوام المرتحلة.

    لقد عبر التليسي في أكثر من مناسبة عن إحباطه ويأسه من الحياة، التي لم توفه حقه، باعتباره إنساناً مبدعاً ومثقفاً. لقد كتب ذات مساء من فبراير سنة 2015 على صفحته في الفيسبوك يقول: ” أنا أقاوم الموت، ولو لم أفعل لمتُ منذ سنين طويلة، وآخر تجاربي مع الموت، الغرق في مياه البحر، والحوادث التي اجتنبتها، وسم الأفاعي، والرصاص الذي أطلق علي في كرنيش طرابلس… لكني الآن مستكين لفكر الموت…”.  لم يكن الراحل مرعي التليسي بهذا التشاؤم والإحباط يوم أن عرفته منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، لكن يأساً وإحباطاً غريباً، بدأ يتسرب رويداً رويداً إلى روحه منذ منتصف عقد التسعينيات. لقد وقفنا عاجزين حياله، ولم نفلح في انتشاله منه وانقاذه.

مقالات ذات علاقة

بوق محمد الأصفر

خديجة زعبية

هل لدينا شعراء؟… (قراءة في شعر أبي عائشة الأندلسي)

عائشة إبراهيم

رجل بأسره يـمشي وحيداً.. للشاعر الليبي مفتاح العماري

سالم العوكلي

اترك تعليق