حوارات

لقاء وحوار مع عميد الأدب العربي طه حسين

حاوره الأديب /علي مصطفى المصراتي

المصراتي مع الدكتور طه حسين أثناء إجراء الحوار معه في منزله

العبقرية لا تتكرر.

هناك في مجالات الفكر والعطاء عباقرة وقد تختلف ملامحهم ومجالات إبداعهم ولكن في عبارة موجزة العبقري هو الذي لا يتكرر نسيج وحده قد تختلف الملامح وعبقريات التكوين والأداء ولكن تبقى العبقرية شيئ لا يقبل التكرار وإن كانت معاصرة أو ميدان يجمع بين أهل الفكر والفن والعلم والسياسة ولكن هناك مميزات خاصة وطابع خاص لكل منهم وهؤلاء المبدعون، هؤلاء الرواد هم وجه مصر حقيقة مصر معدن أصيل هؤلاء علامة المرحلة دلالة على خصوبة الفكر العربي الحديث.
في مقدمة هذه الأسماء في طليعة الرواد، طه حسين اسم حفر مجده بكل صبر وإيمان، مع الموهبة والإستعداد والإخلاص لرسالة الفكر، طه حسين الدكتور الذي شغل الناس وملأ الدنيا.

هو الآن في مشارف عمره ! تجاوز الثمانين ولكن سمعه ما أحتاج إلى ترجمان هل من سبيل إلى لقياه والحوار معه والإنصات إليه، أمازال ذلك الصوت الكرواني واللهجة ذات الإيقاع الموسيقي والنبرة الفصيحة المعبرة والإبتسامة الحُلوة والمصدر الرحب لتلامذته، أنا مشتاق إلى لقياه والجلوس إليه سويعة من زمن، هي لحظات خصبة في رحاب أستاذي الدكتور طه حسين الذي كنت أتردد على منزله في الزمالك وأنا طالب صغير أهفو للأدب وأتطلع إلى عالم الفن قبل أن تجرّفني قضية بلدي وموطني ليبيا في خضم السياسة، قبل عشرين عامًا ونيِّفًا شغلتني شواغل عن لقاه وتطورت أحوال وأحوال لابد أن يكون في الكتاب الذي أعده في هذه الأيام حوار ولقاء معه.

قالوا إنه يعتذر عن لقاء الناس ! قالوا إنه عاتب على كثير من طلابه ومن أصدقائه اللذين هجروه ولم يسألوا عنه وأهل الأدب أشد الناس حساسية ورقة شعورًت، وقالوا أن الطبيب منعه من لقاء الناس وهو مقعد في بيته لا يتحرك لسانه إلا بعسر وبطء وتأسفت وتأثرت لما سمعت، ولكن لماذا لا أخاطبه رأسًا، واستلمت الهاتف وأدرت القرص582818
آلو….أهلاً
منزل أستاذنا الدكتور طه حسين
نعم..
نريد موعدًا مع الدكتور..
من سيادتك..
علي مصطفى المصراتي الكاتب الليبي.
لحظة أكلمه هو في السرير …ملازم السرير..
ومرت لحظات مشحونة بترقب الموعد وإشفاقًا على أستاذنا الكبير تراه نسي الاسم منذ عشرين عامًا لم أجتمع معه ؟! تراه يعتذر كما اعتذر للكثيرين من الناس..هل وطأة المرض تسمح باللقاء والحوار ؟!
آلو…يا أستاذ حاضر الدكتور يرحب بكم في انتظارك اليوم السادسة مساءً..
وتذكرت ارتباطي بالجلسة المسائية يوم الإثنين.
عفوًا لو تكرم أستاذنا أن يحدد الموعد غدًا لأن اليوم عندنا جلسة في مجلس الأمة الإتحادي…
ومضت لحظات كنت لا أستطيع أن أتغيّب عن المجلس لأنه يناقش (قانون المحكمة الدستورية) وكنت لا أريد أن يفلت لقاء وحوار مع أستاذنا..
ومضت لحظات ويعود صوت السكرتير محددًا موعد الدكتور طه غدًا الثلاثاء 8 مايو في المنزل…السيارة تتوجه إلى منطقة الهرم شارع حلمية الهرم محطة مدكور الشارع الجانبي مترب غير منسق.
لكن الفيلا التي أطلق عليها الدكتور (رامتان) اسم عربي قح، هادئة جميلة من طابقين .
كان السكرتير في الإنتظار في الصالة…ذوق فرنسي أنيق لمسات فنية في مدخل الحديقة الصغيرة ذات الزهور وفي الأثاث واللوحات والمكتبة التي انتظرت فيها لحظات جو فيه عبق العلم وأريج الأدب وصمت هدوء يبعث على التأمل والتفكير…رفوف من الكتب مجلدة منسقة وأول ما يطالعك في الصالة المصحف الكريم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه …مصحف كبير وضع مفتوحًا على قاعدة جميلة هي أول ما يقع عليه نظرك وأنت تدلف إلى الصالون..
وغاب السكرتير لحظات صعد بعض الدرج ثم عاد لنصعد معه الطابق الثاني حيث كان يجلس الدكتور طه حسين على مقعد كبير من الجلد وقد غطى رجليه ببطانية ومد يده مرحبًا بالسلام أب شفوق عالم أديب غير متجهم ولا كشر والإبتسامة الحُلوة ولكن الشيخوخة تزحف والسن يتقدم والمرض يشتد ومع ذلك صفاء الذهن وطلاقة لسان وقوة ذاكرة ورحابة صدر هو ينبوع يتدفق ثروة لهذه الأمة….لا يستطيع الوقوف هذا المناضل العملاق الذي وقف صامدًا في وجه الأعاصير والزوابع.. !

وقد قال الأقدمون في الصراع بين العبقرية والزمن أن الزمان أو التراب يأكل لسان ابن الشلوبين وخطرت في ذهني الكلمة عن ابن الشلوبين وأنا أسلم على أستاذنا الدكتور طه حسين العبقري الذي يصارع الزمن والشيخوخة، ولكن الحمد لله ها هو أستاذنا قوي العزيمة جبار الإرادة ما زالت تصل إلى آذاننا منه الكلمة العربية الفصيحة ذات الترنيمة الموسيقية.

الكلمة من شفتيه لها عطر وعبق وتأثير يرحب هاشًّا في حنان أبوي، والأسئلة تتزاحم في خاطري وأشفق من الإكثار عليه ولكن الأسئلة تتوالى والرجل كريم واسع الصدر ولكن الطبيب يشير إليه بعدم الإكثار من الكلام والسكرتير ألح أن يكون اللقاء والحوار دقائق معدودة فقد رفض الدكتور لقاء الإذاعة والتلفزيون والصحافة بل وأستاذ جامعي يريد أن يعد عنه رسالة.

إنه كرم من أستاذنا يُشكر عليه، في الحائط صورة المرأة التي وقفت معه شريكة حياته هذه السيدة التي لا تظهر ولا تقابل الناس الزوار ولكنها ربة بيت وسيدة يُكن لها كل الحب ولكن له القداسة…صورة في الصالون معها أيام الشباب.

اليوم الثلاثاء 8 مايو 1972م الساعة الثانية عشرة، وكيف نبدأ والرجل محدد الجوانب مدرسة متكاملة هل تكفي ساعة ساعتان ولقاء أهل الفكر لابد أن يكون فرصة لتشرك الناس معك في هذا اللقاء لا نريد هذا الحوار أن يذهب فسجلناه وهو يشعر بحاسته القوية بحركة التسجيل الصغير فلا يحتج ولا يرتج كما احتج وعاند صديقنا توفيق الحكيم، بل استرسل أستاذنا في حديثه وأجاب بكل صراحة وموضوعية وصدق في نبرات حُلوة وصوت موسيقيّ وأداء لا يتكرر وذاكرة عجيبة تستشهد بالكلمات والمواقف إلى درجة النقد الذاتي في صراحة.

وسألت الدكتور وأنا أمد إليه يدي بالسلام
كيف حال الصحة ؟
ورد الأستاذ الدكتور في صوت واضحة نبراته مؤثرة عباراته وتهدج قائلاً : الحمد لله تقدم في السن..وأردفها بضحكة أزاحت نبرات اليأس وخففت من حدة التأثر ..
والدكتور طه من ملامحه الصوتية النبرة الواضحة والنغمة الموسيقية طابع في الأسلوب وطابع في الأداء والإلقاء يحفل بالكلمة في مكانها وبالحرف أيضًا في تنسيقه وتنغيمه.
وكرر الأستاذ الدكتور نغمة الحمد وكلمة الشكر والحمد وكان لابد أن أمهد للدخول في الموضوع وإلقاء الأسئلة وإجراء الحوار، وإن كان الطبيب قد شدد على عدم الإطالة والسكرتير قد أكد أيضًا في الاختصار والاختزال في الوقت والكلمات ولكنها فرصة الكاتب وكرم الدكتور وسعة صدره جلعنا نضرب عن إلحاح الطبيب وتوسلات السكرتير.

الحمد لله صحتكم طيبة وانتاجكم طيب متوافر أنا تشرفت بزيارتكم منذ حوالي عشرين عامًا وبين سنة 1949م قدمت لكم كتابًا كنت مازلت طالبًا وتكرمتم لتقديم مقدمة له وكنت أتردد عليكم والمقدمة هي التي دفعتني إلى الأدب العربي المعاصر والقديم.

وأنصت الدكتور جيدًا ثم قال : الحمد لله أذكر ذلك الحمد لله
وكنت سيدي الدكتور أيامها في طريقكم إلى مؤتمر المستشرقين بآسيا عام 1949م
موش في آسيا في أوروبا
وبعد عودتكم كتبتم لي كلمة مازلت أحتفظ بها وبها أعتز
بارك الله فيكم
وطلب الدكتور القهوة وجاءت على عجل وقدم علبة الدخان وهو مازال يدخن ولكن اعتذرنا عن الدخان واحتسينا القهوة قبل أن نلقي بالأسئلة المتلاحقة وأزحت لحظة الصمت قائلاً:

والآن أنا بصدد إصدار كتاب (لقاء وحوار)
وأرهف أذنيه وهو يردد
لقاء وحوار هذا عنوان كتابكم الجديد ؟!

نعم لقاء وحوار مع جاك بيرك وبلاشير وهوثكه الألمانية وألبيرتو مورافيا وشخصيات ومجموعة من الشرق والغرب وسأل:
لقيت كل هؤلاء ؟
وتحاورت معهم وبودي حاجة ولو لمحة يسيرة حتى لا يخلو هذا الكتاب من لقاؤ ولو يسير مع أستاذنا الكبير الذي هو قمة الأدب العربي بلا منازع.
ومتى يصدر كتابكم هذا ؟
في هذا العام وقد أكملت منه حوالي خمسة عشر فصلاً وبودي من مصر لقاء وحوار معكم…
وأجاب الدكتور في نبرة هادئة وبتعاطف الأستاذ وحبه لطلابه قال :
سأسافر لأوروبا قريبًا إذا أمكن تأجيل هذه المقدمة بعد العودة.
ويبدو أن الأستاذ الدكتور فهم أننا نطالب مقدمة للكتاب وهو الأستاذ المشجع العطفوف على طلابه..
وخفت أن تفوت فرصة الحوار واللقاء وها هو يستعد للسفر إلى أوروبا وقلت:
أنا أقصد أسئلة توجه إلى سيادتكم بضعة أسئلة وتجيبون عنها الآن هذا ما أقصد..
حتى لا يكون الكتاب خاليًا من الدكتور طه حسين في لقاء وحوار …أسئلة عابرة..
وقبل أن يعتذر أو يؤجل الجواب إلى حين سفره..
قلت السؤال الأول:

سيادتكم لكم انتاجكم الغزير في الأدب العربي وفي النقد والسيرة وفي الترجمة الذاتية والأدب السياسي إن صح التعبير والصحافة الفكرية أي الكتب بها تعتز ؟ أو أكبر اعتزازًا ؟
وجاء الجواب من الدكتور في إيجاز ونبرة واعتزاز.
على هامش السيرة .
لقد كان الدارسون يظنون أن ألصق الكتب به نفسيًا هو (الأيام) ولكن هل تقدم العمر بالكتّاب والأدباء يجعل كتب التصوف والسيرة أشد إلتصاقًا بالنفس وأقرب إلى القلب والأجدر بالإشادة والإشارة قد يكون هذا ولا أكثر عليه في تبرير الإشارة ومضامين ما وراء هذا الإعتزاز فهامش السيرة كتاب جهد وفن وإبداع ومواد من الحقائق والسيرة.
وآخر إنتاج تشتغلون به الآن أو يشغلكم ؟
لاشيئ !

قالها كلمة في نبرة النفي غير القاطع واستدركها قائلاً:
وإنما هي القراءة فقط.
ما أعظم هذا الرجل عميد الأدب مازال يقرأ طالع فوق الثمانين ويقرأ بنهم ويستمع بشغف ويستمتع بروائع الفن والأدب ! إن في هذه الكلمة درس لنا ولكل أجيالنا إنه جواب منه يدفع إلى سؤال منا !

أستاذنا الدكتور على ذكر القراءة ألا تؤكدون أن بعض شبابنا المعاصر إنتاجه الفج سببه عدم قراءتهم المتواصلة ؟
وفرك الدكتور يديه في انفعال هادىء وهو يقول:
لا شك أكيد قد تعبت في الإلحاح على الشباب في أن يقرأ ولكنه مشغول بالسينما وغير ذلك فهو لا يقرأ !
أذكر أني حاورت صديقي يوسف إدريس في أنكم وجهتموه إلى الفصحى فأبى إلا أن يتوجه إلى العامية ما رأيكم ؟يوسف إدريس هو أراه أضاع نفسه ! العامية ليست شيئًا يذكر وكل ما يكتب بغير اللغة الفصحى.
أستاذنا إن أهل الشمال الإفريقي والعالم الإسلامي يعانون من هذه الظاهرة ظاهرة العامية ما يعانون ؟
وجاءت نبرات الدكتور في حرارة الدفاع عن الفصحى قائلاً :
كل هذا مصدره الكسل إن الشباب لا يدرسون اللغة الفصحى كما ينبغي ورأيهم أن يتحرروا ولذلك يحبوا أن يكتبوا بالعامية كما يشاؤون فليكتبوا فلن يقرأ لهم أحد.
وهذا يدفعنا إلى سؤال عن المشكلة أو رأس المشكلة هل تعتقد أستاذنا أن علماء اللغة المعاصرين هم المقصرون ! أم الشباب المعاصر هو المقصر أم كلاهما مشترك في التقصير ؟
التعليم قبل كل شيئ تعليم اللغة العربية في المدارس وفي الجامعات فيه تقصير شنيع .
وعلى ذكر التعليم أنتم تنبأتم لمستقبل مصر في (مستقبل الثقافة) هل ترون رؤية جديدة للمستقبل الثقافي في مصر بعد هذه المراحل ؟
وأجاب الدكتور طه في تأكيد قاطع.
لازلت عندي رأيي لأني أعتقد أن الحق سينتصر ولا أحب أن أعتقد أن مصر تنهار إلى هذا الحد .
أنا أسأل سيدي الأستاذ عن مستقبل الثقافة والتعليم تنأبتم بأشياء وكنتم من أوائل الثوار علميًا حيث طالبتم بتعميم التعليم وبانفتاح مصر على الثقافات المختلفة، الآن بعد هذه المراحل هل لكم رأي في مستقبل الثقافة ؟
وأجاب الدكتور طه جوابًا خاطفًا موجزًا .
لا…بل نفس الرأي القديم.
أستاذنا لو أتيح لكم أن تختاروا كتابًا من الأدب العربي القديم أي كتاب تختارونه من منابع الفكر التي يعتز بها أدبنا القديم ؟
والله…أنا أحب من العرب القدامى الجاحظ، وكل ما كتب الجاحظ من كتب وهي كثيرة والمبرد وقد كتب (الكامل) في الأدب واللغة وكُتّابًا آخرين كذلك في ذلك العصر، ومن الشعراء أحب أبا العلاء المعري وأحب من شعراء العصر الإسلامي جرير والفرزدق والأخطل وعمر بن أبي ربيعة وشعراء العصر العباسي الأول أبا نواس ومسلم بن الوليد-صريح الغواني- له شعر جيد جدًا ولكن حبي للشعر العربي في القرن الرابع يضعف وخصوصًا المتنبي لا أحبه.
وأخذ الدكتور يسرد أسماء الشعراء اللذين أعجب بهم وأحبهم لم يكن شيئًا من هذا غريبًا ولا داع للتساؤل لكن عندما أشار إلى عدم حبه للمتنبي كان هذا موطن تعجب منا ودافعًا للسؤال !
أستاذنا الدكتور لا تحب المتنبي ! مع أنكم كتبتم لنا شيئًا عظيمًا عن المتنبي ؟
آه..كتبت كتابًا من جزأين.
أذكر هذا وأنا طالب قرأته وأظنه في العيد الألفي للمتنبي أو شيئ من هذا القبيل في إحدى مهرجاناته فما هي مآخذكم على الشاعر المتنبي وقد ملأ الدنيا وشغل الناس ؟
والله هو متكلف وكثير الاعتداء على الشعراء السابقين وعلى الفلاسفة أيضًا.
تقصد اعتداءً فكريًا يقتبس أفكارًا وهذا يدفعنا إلى سؤال عن الاقتباس والسرقة والتأثر وأعني أنت لا ترى المتنبي مجددًا ؟
مثلاً (المعري) تأثر بفلاسفة العرب وبتراجم الفلسفة اليونانية ولكنه لم يسرق شيئًا.
أبو العلاء المعري لم يسرق لأنه مجدد…
نعم هو مجدد…جدد كثيرًا في الشعر وفي النثر في النثر كتب رسالة الغفران يقول ناس كثيرون أن (دانت) تأثر بها وأنا لا أعتقد هذا لأن (دانت) لم يعرف العربية.
أستاذنا الدكتور لكن إن لم يكن(دانت)قد تأثر بها فقد سبقه المعري في الفكرة فهو إبداع ! لقد حاول أحد المستشرقين الإيطاليين ولعلكم تعرفونه هو أستاذ في جامعة بالرمو بصقلية أحد تلامذتكم.
من هو ؟
الدكتور ريزنتانو وهو تلميذ لكم تربى في الإسكندرية يدرس الأدب العربي في صقلية تحاورت معه بشأن تأثير الأدب العربي في الأدب الإيطالي وموضوع (دانت) والمعري..
ولئلا يتسرب الحديث إلى أنحاء أخرى عدت أسأل الدكتور طه عن أشياء تتعلق به وتتصل بملامح حياته الفكرية.
أستاذنا الفاضل الكبير أنتم راضون عن رسالتكم الأدبية التي ساهمتم بها لخلق هذا الجيل ولكن ماهي المآخذ التي تراها على بعض من اللذين أسهموا معكم من المعاصرين ؟
وكان الجواب…صورة من التواضع الذي ينم عن خلق كريم
والله شوف أما أنا فلا أرضى مطلقًا عن عمل من الأعمال لأني أعتقد دائمًا أن ما أعمله لا يبلغ ما كنت أنتظر أو ما كنت أرجو أعمالي لا أرضى بها مطلقًا.
أستاذنا هذا تواضع العلماء !
وأجاب وهو يبتسم في هدوء.
والله ليس تواضعًا وإنما هو الحق هو اعتقاد .
وقلت له وأنا أضحك.
نحن نستعمل حق(الفيتو) في هذا …هذا شيئ نحن نرفضه…
وضحك الدكتور من هذا وهو يُصرّ على رفضه الرضا عن أعماله بشكل يؤكد تواضع العلماء وقلت :
هي شيمة العلماء أو النوابغ أو هو دافع الطموح إلى أن يبدع الفنان أكثر مما أعطى.
وفي نبرة حنان أبوي قال:
بارك الله فيكم.
أستاذنا الفاضل أنتم تطالعون الآن أي كتاب في هذا الأسبوع ؟
الأغاني .
هي عودة للأغاني هل في قراءتكم لهذا بعد سنوات طويلة من قراءاتكم الأولى اكتشفتم فيه شيئًا عند أبي الفرج الأصفهاني ؟
وأجاب..
لا لسه !
يقال إن كتاب أبي فرج الأصفهاني كتب على نسق موسيقي وفيه أنغام وبعض من أصدقائنا الفنانين يحاولون اكتشاف شيئ من هذا القبيل ؟
وجاء رد الدكتور طه في نغمة فيها تناسق الكلمات.
لا كتاب الأغاني كتب ليصور تاريخ الغناء في العصر العباسي وهو من هذا يروي شعرًا يقول :غنى فيه فلان …ويذكر طريقة الغناء وطبعًا هي الطرق القديمة التي كانت معروفة عند العباسيين والتي لا نكاد نعرفها الآن.
قلت:
طبيعي لا نعرفها لأنها لم تسجل بنوتة أو بمسجل؟
لم تسجل أو سجلت ولم نرها هو الأغاني سجل ما استطاع إنما تسجيل لا يكفي غنى فيه فلان ويصف الصوت الذي غنى فيه ولكن لا يكفي.
أستاذنا الفاضل ما رأيكم في ربط الفكر المعاصر بتراثنا العربي الإسلامي هناك حملة من إخواننا بعض اللذين لم يطلعوا على هذا التراث فما هي نصيحتكم للمشتغلين بالتراث؟
وارتفع صوت الدكتور طه حسين وهو يؤكد في حرارة قائلاً :
لا معنى لأديب عربي إذا لم يتقن الأدب القديم، كل من يريد أن يكون أديبًا في اللغة العربية يجب عليه أن يتقن الأدب العربي القديم.
أستاذنا…ومن الأدب العربي المعاصر بمن تأثرتم في تكوينكم الفكري في العشرينات وما قبلها ؟
لا أذكر أني تأثرت إلا برجل واحد…كان أستاذًا لي في الأدب وهو الشيخ”سيد المرصفي” الذي قرأ لنا كتاب( الكامل) وديوان(الحماسة) وقرأ لنا شيئًا من (أمالي) أبي علي القالي.
وتطرق الحديث مرة أخرى إلى أبي العلاء المعري الذي لا يهدأ الدكتور طه من الحديث عنه والعودة إليه.
وقلت للدكتور هناك مخطوط لأبي العلاء لم ينشر بالمغرب وأرجو لفت الدارسين إليه بتصويره وتحقيقه.
.ورحب سائلاً عن عنوانه ومكانه
وتحدثنا عن ابن طفيل ورسائله وأرجوزته ثم لابد من أسئلة للعودة إلى الأدباء المعاصرين للدكتور طه وعن صراعه ومعاركه وأسأل الدكتور:
ما رأيكم لو سمحتم في الأستاذ عباس محمود العقاد ؟
ومرت لحظات صمت كان الرجل العملاق يريد أن يكرم بالتحية والإكبار للأديب العملاق وفي نبرة وفاء واعتراف قال الدكتور طه حسين متحدثًا عن العقاد :
كاتب متقن وأديب يمتاز بشيئ لم يمتز به الكثيرون وهو أنه أولاً علم نفسه لم يتعلم في مدرسة ولا في حلقة من حلقات الدراسة في الأزهر مثلاً ولكنه علم نفسه ووصل إلى درجة قلما يصل إليها المعاصرون له.
قلت نستطيع أن نطلق عليه(عصامي) الثقافة ؟
ما في شك ما في شك !
ولكن لابد من سؤال آخر ونحن نذكر العقاد في رحاب الدكتور طه لابد من سؤال كنت أريد أن أخفيه ولكن بادرت به قائلاً:
أستاذنا لكن هناك رأي لسيادتكم يتعلق بالعقاد هو أن عبقريته جعلها بأسلوب صعب على الطلبة أظن هذا هو السبب؟
وعندما استمع إلى هذا السؤال ضحك وفرك يديه ثم أجاب قائلاً:
الواقع أنه عندما يكتب عن شخص من الأشخاص كما كتب عن عمر وعن أبي بكر وهكذا…لا يكاد يفهم وأذكر أني قلت مرة أني قرأت ما كتب العقاد عن عمر فلم أفهم وكان معنا أنيس منصور الذي يكتب في (الأخبار) ودافع عنه لأنه كان تلميذه إنما الواقع أن العقاد كان إذا كتب عن الأشخاص تفلسف فلسفة اجتهادية، هناك منهج قد يعيبه البعض عيب اللذين يلجأون إلى فن الترجمة يطبق نظريات علم النفس الحديث على شخصيات قديمة.
هل ترى المنهج أو هذا الأسلوب سيادتكم ؟
وفي اختصار شديد أجاب..
لا ..لا.
هل ترى القصة المعاصرة مثمرة…متطورة ؟
أحيانًا فيه ناس كسبوا أشياء لا بأس بها ولكنهم سكتوا.
مثل من ؟
مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي، كتبوا قصصًا لا بأس بها ولكنهم انتهوا إلى الصمت.
وكان الجواب قابلاً لسؤال آخر..فمازال نجيب محفوظ يواصل الإنتاج ولم يصب بداء الصمت لكن آثرت أن يكون السؤال عن موقف الدكتور من نقده القديم لبعض الكتاب القدامى وسألت..
في شبابكم كتبتم عن المنفلوطي وشوقي هل غيرتم نظريتكم أو رأيكم في إنتاجهم ؟
وبأسلوب الاعتراف والنقد الذاتي قال الدكتور طه حسين.
أنا لا أذكر أن ما كتبته عن المنفلوطي كان فيه شيئ من السخف.
قلت عفوًا قد يكون هناك تعبير آخر..بدل هذه العبارة مثلاً شيئ من التحامل …
ولكن أصرّ الدكتور طه على أن ما كتبه عن المنفلوطي كان فيه شيئ من السخف ثم أردف قائلاً :
لأني كنت كل ما أخذته على المنفلوطي أن هذه الكلمة أو تلك ليست في المعجم.
لاشك أن هذا كان تأثرًا بأسلوب النقد القديم.
تأثرًا بالنقد القديم ولذلك أنا أستحي من نقدي للمنفلوطي.
وترى المنفلوطي أدى شيئًا للأدب ؟
لاشك …أدى شيئًا.
وماذا عن شوقي وموقفكم منه ؟
شوقي كان كثير الأخذ من القدماء بديل المعارضات آه…آهو مثلاً الله أكبر هذا أعجب العجب.
يا خالد الترك جدد خالد العرب.
أخذها شوقي من قصيدة أبي تمام
السيف أصدق إنباء من الكتب..في حده الحد بين الجد واللعب
تقرأ القصيدة لأبي تمام ثم تقرأ قصيدة شوقي تراه قد اعتمد على الشعر القديم على أبي تمام.
هل تعدون جزءًا آخر للأيام غير ما نشر في بيروت ؟
تقصد مذكرات…المذكرات التي نشرت في بيروت كنت أتمنى أن ينشرالكتاب هنا في مصر ويكون عنوانه الجزء الثالث من الأيام ثم بعد ذلك أتمنى أن أكتب الجزء الرابع إنما ليس بيدي السن تقدم والصحة (ثم صمت الدكتور طه متأثرًا بعد تهدج صوته)
صحتك بخير أعطاك الله العافية.
أنت يا دكتور طه لست ملكًا لمصر وحدها بل أنت ثروة وملك للفكر العربي والإنساني..
وخرج من صمته وتأثره قائلاً :
أنا مدين للأدب العربي كله ولذا فأنا خادم العرب جميعًا .
دكتور طه أنت من اللذين مهدوا للثورات في المنطقة العربية بلا جدال والثورة التي يفجرها الأحرار يمهد لها المفكرون…توجد قابلية للثورة بدافع الفكر ؟
لا شك في هذا…
أنت تعلم أن كتبك كانت تُهرب في العهد الإستعماري إلى بلدان شمال إفريقيا حيث يتلهف عليها الناس كخط عربي فكري…هذه بذور للثورة في تلك البلدان.
وابتسم وهو يقول…الحمد لله الحمد لله.
أستاذنا ما هو دور الأدب بعد تفجر هذه الحركات في المنطقة ؟
والله..أنا مع الأسف الشديد أعتقد أن الأدب خصوصًا في الشرق الأدنى في مصر وسوريا ويمكن في العراق أيضًا جامد شيئًا ما لا نشاط حقيقي ولا تعمق لشيء مع تقدم الزمن شبابنا لا يقرأ وإذا لم الناس لم ينتجوا.
وعلى ذكر القراءة أنا أذكر محاضرة حضرتها لكم وأنا طالب عندما علقتم على ما أنتج توفيق الحكيم(أوديب) وعندما كان يمثلها (جورج أبيض) في تلك الآونة وسيادتكم كنتم كتبتم عن (أوديب) كتابة جيدة وقلتم في ختام محاضرتكم في نادي الخرجيين عام 1949م(إن توفيق الحكيم في حاجة إلى أن يقرأ ويقرأ ويقرأ)أما زلتم عند هذا الرأي أم تراه قرأ ؟
مازلت …مازلت وإن كان هو كتب لي رسالة يشتمني فيها.
لا بأس شتم الأدباء لا ضير منه ماذا قال توفيق الحكيم عنكم؟
يقول في رسالته شاتمًا لي أنا أقرأ أكثر منك وأعرف أكثر منك وأنا أحسن العلم بالفلسفة أحسن منك(وضحك الدكتور).
هذه مناوشات الأدباء فيها حب خلفية حب.
والله أنا نشرت كتابه ولم أرد عليه.
أين نشرت هذه الرسالة التي شتمكم فيها توفيق الحكيم؟
في (جرنال) كان يصدر زمان اسمه(الإستقلال).
أنتم خضتم المعارك السياسية هل ترون أن الصراع السياسي يعرقل أحيانًا وفرة الانتاج للفنان أم هي ضريبة لابد منها ؟
الصراع السياسي لابد منه والفنان يستطيع أن يكتب في السياسة ويكتب في غير السياسة إنما أحيانًا فيه ناس يخصصون أنفسهم للسياسة فيكون ما يكتبونه في السياسة أدبًا، مثلاً لطفي السيد كتب أشياء في غاية الجمال وكلها سياسي في (الجريدة) والغريب أنه لم يؤلف كتابًا إنما ترجم من كتب أرسطوطاليس، وطبعًا ليست شيئًا لأنه ترجمها من اللغة الفرنسية لا من اليونانية.
وهذا يا أستاذنا الكبير يذكرنا بالشخصيات التي تنتج تلامذة ومدارس ولا تنتج كتبًا ؟
مثلاً مصطفى عبد الرازق كانت كتبه أقل من المستوى العظيم الذي كان فيه من الفكر والإبداع وأيضًا جمال الدين الأفغاني انتاجه ومؤلفاته أقل من مدرسته مثلاً …
إنما سيادتكم خلقتم مدرسة وأنتجتم وجمعتم بين الجنسين.
بارك الله فيكم.
والعلماء دفعوا ضريبة الصراع…صراع ابن حنبل صراع هؤلاء الفقهاء الأوائل صورة من الصراع السياسي المعتزلة أهل السنة وأهل الفكر لا يمكن عزلهم عن الصراع.
وما رأيكم في ابن الراوندي مثلاً ؟
لا شك أن ابن الراوندي انحرف شوية عن الإسلام، نحن ننظر إليه من زاوية الصراع لا من زاوية الانحراف والخروج.
أستاذنا لا أرهقكم كثيرًا إنما أود السؤال الأخير بيت الشعر الذي تترنم به الآن أو يختلج في صدرك هذه الآونة ؟
وأنشد الدكتور طه حسين في صوت عذب وإيقاع جميل ونبرة فصيحة هذه الأبيات الطوال وما أحببت أن أقطع نشوة الإسترسال والانسجام على هذه الأبيات التي سجلتها بصوته.
خبرك الواشون إن لن أحبكم
بلى دستور الله ذات المحارم
أصد وما الصد الذي تعلمينه
شفاء لنا إلا اجتراح العلاقم
حياء وبقيا إن تشيع نميمه
بنا وبكم أف لأهل النمائم
وإن دما لو تعلمين جنيته
كعر الثنايا واضحات الملاعم
ولكن لعمر الله ما طل مسلمًا
إليه بالراغبات اللهازم
إذا هن ساقطن الحديث كأنه
سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
رمينا فاقصدن القلوب فلم نجد
دما مائرا إلا جوى في الحيازم.
لمن هذه الأبيات التي تعجبكم وتتمثلون بها الآن ؟
لا أذكر هي في كتاب (الكامل) للمبرد وما أظن أنه ذكر الشاعر.
وما هي نصيحتكم لشبابنا المعاصر في ليبيا الثورة ؟
دائمًا أنا أنصح الشباب بالقراءة..القراءة في الأدب القديم العربي وفي الأدب الحديث ولاسيما باللغات الأجنبية…الأدب العربي والأوروبي..
شكرًا …وأعطاك الله العافية.
بارك الله فيكم.

مقالات ذات علاقة

الشاعر الكبير لطفي عبد اللطيف في آخر حواراته

المشرف العام

عبدالباسط أبوبكر: على القصيدة أن تواجه الرصاص

محمد الأصفر

أحمد عقيلة: لا أتصوّر ليبيا إلا موحدة

محمد الأصفر

اترك تعليق