المقالة

كَنْزُ التَّكَاتُفِ والتَّعَـاوُنِ الخَـلاَّقِ

(1)

مَا زِلْتُ أتذكَّرُ كَلِمَاتِ أَحَدِ مُعَلِّمِينَا الأَفَاضِلِ فِي المَرْحَلَةِ الإِعْدَادِيَّةِ، حِينَ كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يُبسِّطَ لِعُقُولِنَا الصَّغِيرَةِ آنَذَاكَ صُـورَةَ المُجْتَمَعِ الإِسْـلاَمِيِّ المُتَكَامِـلِ وَالمُتَمَاسِـكِ بِكُلِّ أَفْـرَادِهِ وَشَرَائِحِهِـمْ وَانْتِمَاءَاتِهِمْ، حيَثُ ذَكَرَ لَنَا (بِمَا مَعْنَاهُ): “أَنَّ كُلَّ أفرَادِ المُجتمَعِ مُهِمِّينَ جِـدّاً كُـلٌّ فِي مَكَـانِهِ، وَكُلٌّ فِي مَجَالِهِ، مِنَ الطَّبِيبِ وَالمُهندِسِ، إِلَى الطَّيَّارِ وَالمُحَامِي وَالمُعَلِّم، وُصُولاً إِلَى المِهَنِيينَ وَالحِرَفِيينَ وَغَيْرِهِمْ، فَلاَ يَقُومُ المُجْتَمَعُ وَتَسْتَمِرُّ الحَيَاةُ فِيهِ إِلاَّ بِكُلِّ هَؤُلاَءِ جَمِيعاً بِدُونِ اسْتِثنَاءٍ”، أَدْرَكْنَا فِيمَا بَعْدُ كَمْ كَانَ مُعلِّمُنَا مُحِقّاً؛ لأنَّهُ قرَّبَ لَنَا صُورة المُجتمع السَّلِيمِ المُتماسِكِ، الذِي لاَ يُقْصِي وَلاَ يَمْتَهِنُ أَحَداً لِمُجَرَّدِ وَظِيفَتِهِ، أَوْ طَبَقَتِهِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، فَالكُلُّ سَـوَاسِيَّةٌ، وَالكُلُّ يُسَاهِمُونَ فِي تَنْمِيَةِ المُجْتَمَعِ، بِتَعَـاوُنٍ، وَمَحَبَّةٍ، وَتَرَاحُـمٍ، وَطَلَبٍ لِلْكَسْبِ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ، مِصْدَاقاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَتَعَـاوَنُوا عَـلَى الْبِرِّ وَالتَّقْـوَى وَلاَ تَعَـاوَنُـوا عَـلَى الإِثْـمِ وَالْعُـدْوَانِ وَاتَّقُــوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَـدِيـدُ الْعِـقَابِ”. {سُـورَةُ المَائِدَةِ: مِنَ الآيَةِ 3}. وَلِقَـوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَـانِ يَشُـدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً”. (رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسـلِم). وَرَوَيَا أَيْضاً أَنَّهُ عَـلَيْهِ الصَّـلاَةُ وَالسَّـلاَمُ قَـالَ: “مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِـمْ وَتَرَاحُمِهِـمْ وَتَعَاطُفِهِـمْ مَثَل الجَسَـدِ إِذَا اشتَكَى مِنْهُ عُـضْـوٌ تَـدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَـدِ بِالسَّهَـرِ وَالحُمَّى”. فَالمُؤْمِنُونَ يَشْتَرِكُونَ فِي الآمَـالِ وَالآلاَمِ، مِنْ خِـلاَلِ إِحْسَاسِهِـمْ بِبَعْضِهِم البَعْـض، فَيَتَرَاحَمُـونَ وَيَتَعَـاوَنُونَ عَلَى الخَيْرِ وَالمَعْـرُوفِ.

(2)

فِي كِتَابِهِ الشَّهِير “العَـادَات السَّبْع للنَّاسِ الأكثر فَعَـالِيَّة: دُرُوسٌ فعَّالةٌ في عمليَّة التغيير الشَّخْصِيِّ” يَعْتَبِرُ الكاتبُ والخَبِيرُ الدَّولِيُّ (الأمريكي) فِي التَّطْوِيرِ الذَّاتِيِّ: ستيفـن آر. كـوفي Stephen R. Covey (1932-2012) التَّكَاتُفَ وَالتَّعَـاوُنَ الخَـلاَّق مِنْ أَهَـمِّ العَادَاتِ التِي تَجْعَلُ الإِنْسَانَ فَعَّالاً فِي حَيَاتِهِ، وَيَرَى كوفي أَنَّ: التَّكَاتُفَ يُقْصَدُ بِهِ أَنَّ الكُلَّ أَعْظَـمُ مِنْ مَجْمُوعِ الأَجْـزَاءِ. أَيْ أَنَّ العِلاَقَةَ التِي تَرْبِطُ بَيْنَ الأَجزَاءِ وَبَعْضِهَا هِيَ جُزْءٌ فِي حَـدِّ ذَاتِهِ. وَهُـوَ لَيْسَ جُـزْءاً فَقَطْ بَلْ هُوَ أَهَـمُّ مُحَفِّزٍ، وَأَهَـمُّ عَامِلٍ مُعَـزِّزٍ لِلْقُـوَّةِ. وَجَوْهَـرُ التَّكَاتُفِ هُـوَ تَقْدِيرُ الفُرُوقِ، وَاحْتِرَامُهَا، وَبِنَاءُ مَوَاطِنِ القُـوَّةِ فِي الفَرْدِ لِتَعْوِيضِ مَوَاطِنِ الضُّعْفِ. بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُوجَد إِنْسَانٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيشَ لِوَحْدِهِ مُنْعَـزِلاً عن النَّاسِ، دُونَ أنْ يُسَاعِـدَ الآخَرِينَ فِيمَا يَسْتَطِيعُهُ، وَيَسْتَفِيدُ في ذَاتِ الوَقْتِ مِنْ مُسَاعَدَتِهِـمْ لَهُ كُلٌّ فِي مَجَالِهِ. وَمِنْ خِلاَلِ التَّكَاتُفِ يُمْكِنُ تَعْـزِيزُ رُوحِ فَرِيقِ العَمَلِ، وَتَنْمِيَةِ القُدْرَاتِ الإِبْدَاعِيَّةِ مَعَ الأَشْخَاصِ الآخَـرِينَ، وَهَذَا أَحَـدُ أَهَمِّ أُسُسِ قُـوَّةِ اليَابَانِيينَ فِي مَجَالِ العَمَـلِ، التِي جَعَلَتْ مِنَ اليَابَانِ قُـوَّةً اقْتِصَادِيَّةً كُبْرَى فِي العَالَمِ. فَبَعْدَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ كَانَ هَذَا البَلَدُ مُدَمَّراً تَمَاماً، وَبِتَحْدِيدِ الأَهْـدَافِ، وَتَضَافُرِ وَتَكَاتُفِ الجُهُـودِ بَيْنَ القَادَةِ الحُكُومِيينَ وَالصِّنَاعِيينَ وَقَادَةِ المُجْتَمَعِ التَّرْبَوِيِّ تَمَّ وَضْعُ خُطَطٍ إسْتَرَاتِيجِيَّةٍ لِتَوْحِيدِ المُجْتَمَـعِ، وَتَحْقِيقِ الكَرَامَةِ الوَطَنِيَّةِ، وَالازْدِهَـارِ الاقْتِصَادِيِّ، وَبِالفِعْـلِ أَصْبَحَتِ اليَابَانُ اليَوْمَ مِنْ أَوَائِلِ دُوَلِ العَالَـمِ فِي إِنْتَاجِ السَّيَّارَاتِ، وَالإلكترُونيَّاتِ وَالكمبيوتر وَغَيْرِهَا، بِسَبَبِ تَحْدِيدِ الأَهْـدَافِ، وَالرُّؤْيَةِ الوَاضِحَةِ، وَالتَّكَاتُفِ وَالتَّعَاوُنِ البَنَّاءِ بِكُلِّ قُـوَّةٍ لِتَحْقِيقِهَا عَلَى أَرْضِ الوَاقِـعِ.

(3)

المَهَاتْمَا غَاندِي(1869-1948) زَعِيمٌ وَطَنِيٌّ هنديٌّ، وَمُصْلِحٌ اجْتِمَاعِيٌّ، وَمُبْتَكِرُ وَرَائِدُ “فَلْسَفَةِ اللاَعُنْفِ” فِي الحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ. لُقِّبَ بِالمَهَاتْمَا أَي “النَّفْس العَظِيمَة”، وَتَمَتَّعَ بِاحْتِرَامٍ بَالِغٍ عَمِيقٍ فِي الهِنْدِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ أَباً لِلشَّعْبِ الهِنْدِيِّ. يَرَى غاندي أنَّ وَظِيفَةَ اللاَعُنْفِ تَذْكِيرُ الطَّرَفِ الآخَرِ بِمَسْؤُولِيَّتِهِ بِوَاسِطَة ِالمُقَاوَمَةِ السَّلْبِيَّةِ كَالمُقَاطَعَةِ وَالاعْتِصَامِ، وَعِنْدَهَا سَيُضْطَرُّ الخَصْمُ إِلَى الشُّعُـورِ بِمَسْؤُولِيَّتِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وَهُنَا يُمْكِنُ التَّحَاوُرُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، لِتَوْضِيحِ الخَطَأ، وَمُحَاوَلَةِ إِقْنَاعِ الطَّرَفِ المُخْطِئِ بِالصَّوَابِ، وَهَذَا الحِـوَارُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْلُقَ مُنَاخاً مِنَ المَوْضُوعِيَّةِ، وَأَنْ يُقَرِّبَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، مِنْ أَجْـلِ اسْتِعَـادَةِ الحَقِيقَةِ الضَّائِعَـةِ، لأَنَّ مَنْ يَرُدُّ عَلَى الشَّـرِّ بِالخَيْرِ يَكُـونُ كَمَنْ مَلَكَ العَـالَمَ. ويَشْتَرِطُ غاندي لِنَجَاحِ فلسفة أو سِيَاسَةِ اللاعُـنف تَمَتُّعَ الخَصْـمِ بِبَقِيَّةٍ مِنْ ضَمِيرٍ وَحُـرِّيَّةٍ تُمَكِّنُهُ فِي النِّهَـايَةِ مِنْ فَتْـحِ حِـوَارٍ مَوْضُـوعِيٍّ مَـعَ الطَّـرَفِ الآخَـرِ.

ولغاندي كلمةٌ جيِّدةٌ حَوْلَ التكاتُف وَهِيَ قَوْلُهُ: “يَجِبُ أنْ يُصْبِحَ الاعْتِمَادُ المُتَبَادَلُ نَامُوساً لِحَيَاةِ الإِنْسَانِ، تَمَاماً مِثْلَ الاعْتِمَادِ عَلَى النَّفْسِ، فَالإِنْسَانُ كَائِنٌ اجْتِمَاعِيٌّ”. (وَمِنَ المَعَانِي العَدِيدَةِ لِكَلِمَةِ النامُوس فِي اللغَةِ العَرَبِيَّةِ: القانُـونُ أو الشَّـرِيعَـةُ)، أي أنَّ التَّعَـاوُنَ بَيْنَ النَّاسِ وَالاعْتِمَادِ المُتبَادَلِ يَنبَغِي أنْ يكُونَ بِمَثَابَةِ قانُونٍ  لِحَيَاةِ الإِنْسَـانِ، يَنْسِجـمُ مَعَ فِطْـرَتِهِ، (كَـوْنَهُ كائِنٌ اجْتِمَاعِيٌّ بِالأَسَـاسِ)، وَلأَنَّهُ رَكِيزَةٌ مِنْ رَكَائِزِ بِنَاءِ الدُّوَلِ، وَتَحْقِيقِ النُّمُـوٍّ الاقْتِصَادِيِّ، وَتَجَاوُزِ الأَزْمَـاتِ. ولكنْ رُغْمَ الطابع السِّلميِّ لأفكار ودعـوات غاندي إلاَّ أنَّهَا على ما يبدُو لم تَرُقْ لبعض الفئات في المُجتَمَعِ الهنديِّ آنذاك، فتمَّ في 30 يناير 1948 اغتيالُ المهاتما غاندي بِإِطْلاَقِ الرَّصَاصِ عَلَيْهِ فتُوفِّيَ عَنْ عُمْـرٍ يُنَاهِـزُ تسعة وسبعين عَاماً.

فَمَا أَحْوَجَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَاوُنِ الخَلاَّقِ وَالحِـوَارِ الرَّشِيدِ وَنَبْذِ الخِلاَفَاتِ وَالأَحْقَادِ لِبِنَاءِ دَوْلَتِنَا الجَدِيدَةِ، وَتَحْقِيقِ السَّعَـادَةِ وَالرَّفَـاهِ وَالتَّقَـدُّمِ، فَاجْتِمَاعُ السَّـوَاعِـدِ القَـوِيَّةِ يَبْنِي الوَطَـنَ، وَاجْتِمَاعُ القُلُـوبِ الطَّيِّبَةِ يُخَفِّفُ المِحَـنَ، وَلِلهِ دَرُّ الشاعـر إبراهيم اليازجي (1847-1906) الذِي قَـالَ يَـوْماً:

      فَشَمِّـرُوا وَأَنْهَضُــوا لِلأَمْــــرِ وَابْتَـدِرُوا           مِنْ دَهْــرِكُـمْ فُـرْصَةً ضَـنَّتْ بِهَا الحُقَـبُ

      لاَ تَبْتَغُـــوا بِالمُـنَى فَـــوْزاً لأَنْفُـسِكُــــمْ            لاَ يَصْـدُقُ الفَــوْزُ مَا لَـمْ يَصْـدُقِ الطَّلـَبُ 

    خَلُّوا التَّعَصُّـبَ عَنْكُمْ  وَاسْتَوُوا  عُصَبَاً           عَـلَى  الوِئَـامِ  وَدَفْــعِ  الظُّـلْـمِ   تَعْتَصِـبُ

     لأَنْتُــــمُ  الفِـئَـةُ الكُثْـرَى وَكَـــــمْ  فِــئَـةٍ             قَلِيلَـةٍ  تَـمَّ  إِذْ  ضَـمَّـتْ  لَـهَـا   الغَـلَـــبُ

   وَمَــــنْ  يَـعِــشْ  يَـرَ  وَالأَيَّــامُ  مُـقْبِلَـةٌ           يَلُـوحُ لِلْمَــرْءِ  فِي أَحْـدَاثِهَـــا  العَـجَـــبُ

 

مقالات ذات علاقة

سيميوطيقيا ليبية

سالم العوكلي

أغنية الحرمان

إبراهيم حميدان

بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان 10 ديسمبر 2006 دعوة إلى إقامة منظمات حقوقية

بشير الأصيبعي

اترك تعليق