شخصيات

كل يوم شخصية ليبية مشرقة (14).. الشيخ عبد اللطيف الشويرف

الشيخ عبداللطيف الشويرف
الشيخ عبداللطيف الشويرف

ولدت عام 1931م في بيتنا بالمدينة القديمة، محلة البلدية، زنقة الحليب غير النافذة المتفرعة عن شارع جامع الدروج الذي يصل سوق الترك بشارع قوس الصرارعي. ونشأت بحمد الله في أسرة متدينة، فكان أبي -رحمه الله-حافظا للقرآن الكريم، وكان مما تشنّفت به أذناي منذ نعومة أظفاري صوت تلاوته وهو يدور في وسط البيت، وكان مواظباً على صلاة الصبح في المسجد مع الجماعة، وكان يجمع أفراد العائلة بعد طلوع الشمس ليقرأ الوظيفة الزّرّوقيّة وهم يردّدون ما يقول، ولا تزال بعض صيغ تلك الوظيفة عالقة بذهني حتى الآن. وكان ملازما لقراءة ورده اليوميّ من (دلائل الخيرات) ، وكان كل الكبار في البيت يصلّون، فنشأت على الصّلاة بتأثير هذه القدوة الحسنة.

التحقت وأنا صغير بكتّاب الشيخ مختار حورية القريب من بيتنا، وفيه تعلّمت القراءة والكتابة وأحكام التّلاوة، ولم يقطعني عنه إلاّ قيام الحرب العالمية الثانية التي كانت إيطاليا المحتلّة لبلادنا طرفاً فيها بجانب المحور، وقد شرّدت هذه الحرب أهل طرابلس، واضطرتهم إلى الفرار بأرواحهم من هول الغارات والموت النازل من القنابل، وعطلت الحياة في المدينة تعطيلاً كاملاً، وأصابت كل شيء بالشلل، وكانت سنوات قاسية شديدة تجرع الليبيون مرارتها، وعانوا ويلاتها، وعادت عليهم بالجوع والمرض والفقر والتشرد وحرمان أبنائهم من التعليم، وكان فرار أسرتنا إلى غريان، ومنيت هنالك بجانب قسوة الغربة والحرب بوفاة أبي، ثم وفاة أخي محمد الذي كان يعولنا بعد وفاة أبي، وهو أخي الوحيد، وكان يحفظ القرآن الكريم، وسبقني إلى كتّاب الشيخ مختار حورية – رحمه الله- بمراحل.

وعدنا إلى طرابلس تحت وطأة الحاجة، وضيق ذات اليد، وكانت الغارات على أشدها ليلاً ونهاراً، وكان الموت يتربص بالعدد القليل الباقي في المدينة في أي لحظة، وزاد من فظاعة المأساة ضالة القوت، وصعوبة الحصول على ما يسدّ الرمق، ثم هجمة الحشرات من قمل وبقّ وذباب وبرغوث الباحثة هي أيضاً عن الغذاء فلا تجده إلاّ في امتصاص الدماء الباقية في عروق البشر. وفي هذه الظروف البائسة التي تحالف فيها البلاء النازل من السماء مع البلاء الواقع في الأرض- عانت والدتي الكثير، وتحملت ما لا تتحمله الجبال من أجل توفير الحد الأدنى من لقمة العيش لي ولأخواتي الأربع، وكانت تحرم نفسها وتبيت جائعة مضحّية في سبيلنا.

التحقت بالمدرسة المركزية الابتدائية عقب دخول القوات البريطانية البلاد سنة 1943م، وأهلني إتقاني القراءة والكتابة وشيئاً من الحساب لانتسابي إلى الصف الثالث، وكان مدرسنا الأستاذ عمر الباروني -رحمه الله- الذي استمر مدرساً لنا حتى نهاية السنة الخامسة، وهي آخر سنوات المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت. وقد بذل الأستاذ الباروني جهدا كبيراً في تعليمنا، وكنا على استعداد ذهني وسني لاستيعاب ما يزودنا به من علم، إضافة إلى الرغبة الصادقة والتعطش الشديد الذي كان من أثر ظمإ الحرب الماديّ والمعنويّ، ولا أبالغ إذا قلت: إن ما حصلنا عليه في السنوات الثلاث الأخيرة من المدرسة الابتدائية يفوق كثيراً ما يحصل عليه المتخرج في المرحلة الثانوية الآن؛ إذ كان الأستاذ الباروني يخصنا في بيته بدروس خصوصية مجاناً، وعلمنا الجبر وشيئاً من الهندسة النّظرية، وأذكر أني كنت أحل المسائل ذات الدرجة الأولى والدرجة الثانية من المعادلات الجبرية، وكنت مشغوفاً في ذلك الوقت بالرياضيات، وأقضي معظم وقتي في حل مسائلها الصعبة، وكنت إذا أعجزتني مسألة لجأت إلى الأستاذ الباروني فأعانني على تذليل الصعب، فكان بذلك -رحمه الله- أحد الرجال الذين أدين لهم بالفضل عليّ في تكويني العلميّ، وأحمل لهم التقدير والاعتراف بالجميل، والثناء العاطر، والذكرى الطيبة.

بعد حصولي على الشهادة الابتدائية عام 1945م التحقت بأول مدرسة ثانوية في طرابلس عام 1946م حيث لم تكن في ذلك الوقت المرحلة الإعدادية، وكانت هذه المدرسة بمحلة الظهرة في مكان المدرسة الإسلامية العليا زمن الاحتلال الإيطالي، ونجحت في السنة الأولى وانتقلت إلى السّنة الثانية، وفي صيف هذه السنة تقدمت إلى امتحان المعلمين الذي كان يعقد كل سنة، وكان الناجح في هذا الامتحان يمنح دبلوماً يخوله الحق في أن يعين مدرساً رسمياً، وكان امتحاناً صعباً لعدم وجود منهج لمفردات مواده من اللغلة العربية والرياضيات والدين والتاريخ والجغرافيا، وقد نجحت في هذا الامتحان بفضل الله ثم بفضل الحصيلة العلمية المكونة لديّ، وما تلقيته في اللغة العربية على يد الشيخ عمر الجنزوري -رحمه الله- الذي التحقت بدروسه عام 1946م، وما تعلمته في الرياضيات على يد الأستاذ عمر الباروني، رحمه الله.

تقدّمت بعد نجاحي في امتحان المعلمين بطلب تعييني مدرّساً ابتدائيّاً، حيث وصلت حالتنا الاقتصادية إلى طريق مسدود كما يقولون، وبلغ الجهد من والدتي مبلغاً لم يعد يتحمله قلبي الغض، وانقطعت تحت وطأة الظروف الصعبة عن دراستي في المدرسة الثانوية على الرغم من أني كنت مُعفىً من دفع رسوم الدراسة لفقري، وعُينت معلماً بمدرسة الظهرة الابتدائية، وعمري إذ ذلك ستة عشر عاما وربما كنت أصغر معلم في ذلك الوقت. بدأتْ صلتي بالشيخ عمر الجنزوري -رحمه الله- عام 1946م كما قلتُ، ودرست عليه النحو الواضح، وقطر الندى، وشذور الذهب، وأقرب المسالك في الفقه المالكي، وكنت أطالع له دروسه في مدرسة أحمد باشا، ثم في معهد مالك بن أنس، ودروسه في الفقه أو في التفسير والحديث والوعظ والإرشاد في شهر رمضان، وكان ما استفدته من علم ولغة وأدب وفقه من مذكرات الشيخ عمر، ومناقشاتي معه وأسئلتي له – أكثر مما استفدته من دراسة الكتب عليه، وهو لذلك أحد الرجال الذين أدين لهم بالفضل في تكويني العلمي بعد الله.

بقيت في التعليم بمدرسة الظهرة الابتدائية حتى عام 1953م حيث قدّمت استقالتي متطلعاً إلى مجال أرحب وأدعى إلى تحقيق طموحي الشبابي في التقدم، وتحسين وضعي الاقتصادي خاصة بعد أن تزوجت عام 1952م، وازداد عبء المسؤولية على عاتقي، ولم أبقَ عاطلاً بلا عمل سوى عشرين يوماً؛ إذ فتح الله لي بابين للعمل: أحدهما في نظارة المالية بعد أن نجحت في امتحان مسابقة أجرته النظارة لاختيار عدد محدود من الموظفين لديها، وكان ترتيبي في النجاح الأول على مئات تقدموا للامتحان، وساعدني على هذا التفوق حصيلتي السابقة من الرياضيات، وتمرسي بحل المسائل بالمعادلات الجبرية، إذ كانت الأسئلة بطبيعة الحال رياضيةً. والباب الآخر هو المجلس التشريعي لولاية طرابلس الغرب الذي يُفتتح لأول مرّة عام 1953م، وكان في بداية تأسيسه محتاجاً إلى موظفين لإدارته، واخترتُ المجلس التشريعي، وعُيّنت فيه محرّراً لمضابط جلساته بدرجة أعلى من درجة التعليم، وبقيت فيه عشر سنوات، تدرّجت خلالها بين وظائفه حتى وصلت إلى أعلى وظيفة إدارية فيه، وهي السكرتير العام.

وكان يؤم لجان المجلس التشريعي وجلساته كبار القانونيين المصريين التابعين لإدارة التشريع والقضايا بنظارة العدل، وكنتُ أسمع وأقرأ آراء هؤلاء القانونيين وردودهم على الأسئلة والاستفسارات، وكنت أقوم بكتابة المحاضر والتقارير، والمذكرات، فتكوّن لي بذلك رصيد لا بأس به من الثقافة القانونية والتمرس بصيغ اللوائح والقوانين، وكانت فترة عملي في المجلس التشريعي خصبة ثريّة توفرت لي خلالها الخبرة الإدارية، والقدرة على كتابة الرسائل والتقارير والمذكرات وغيرها، وكان لذلك أثر إيجابيّ كبيرٌ فيما استقبلت بعد ذلك من مناصب أو ما ألّفته من كتبٍ.

في أثناء عملي الوظيفي الرسمي كنت أواصل تعليمي وتثقيفي الذاتي، وكنت أشارك في الندوات واللقاءات الفكرية، والمحاضرات التي كانت تنظّم في نادي الاتحاد عندما كانت النوادي الرياضية تهتمّ برياضة الفكر، بجانب اهتمامها برياضة البدن، وتمرّن عضلات الثقافة كما تمرن عضلات الجسم. وقد تعلمنا في برامج اللجنة الثقافية بنادي الاتحاد المداخلاتِ والنّقاش وتبادل الآراء، وكانت تحدث مشادات تصل إلى الحدة في موضوعات تعليم المرأة والسفور ومشكلات الزواج وغيرها، ولا أنسى دور النادي الثقافي الذي كان يرأسه الشيخ عبد السلام خليل -رحمه الله- وكان موقعه في شارع قوس الصرارعي بالمدينة القديمة، فقد كان هذا النادي ساحة ثقافية مميزة، وكان رئيسه من الرّوّاد الذين وضعوا اللبنات الأولى لنهضتنا الثقافية الحديثة، ومن القلائل الذين جاهدوا- على الرغم من قلة الإمكانات- من أجل إخراج البلاد من ظلمة الجهل التي كانت سادرة فيها بسبب الاحتلال الإيطالي الغاشم، وعهد الإدارة البريطانية الحالك.

وفي عام 1958م أعاد الأستاذ على الديب -رحمه الله -إصدارَ جريدته الأسبوعيّة المشهورة (اللّيبيّ) فاستدعاني إلى مكتبه في ميدان الشّهداء، وعرض عليّ أن أكون محرّراً في جريدته فاعتذرت إليه بأنّي لم أخضْ أيّ تجربة صحفيّة في السّابق، وليس لي عهد بعمل الصّحافة، فأجابني بأنّه لمس استعدادي للكتابة من خلال تحريري لمضابط جلسات المجلس التّشريعي الذي كان رئيساً له في دورته الأولى، وأنه معجبٌ بأسلوبي وقدرتي على صياغة الأفكار بشكل واضح ومشوّق، وقبلتُ لأنّه أثار في نفسي رغبة كامنة في الكتابة خارج النّطاق الإداريّ المحدود، وبحثاً عن مجال أوسع للتّعبير والتّنفيس عن شحنات الأفكار والخواطر التي تدجّ بها نفوس الشّباب في ذلك الوقت. بقيت مشكلة وهي أنّني موظّف، وقانونُ الخدمةِ المدنيّة يمنع الموظفَ من الكتابة في الصّحف وبخاصةٍ ما يتعلّق بالأمور السّياسيّة ونقد الحكومة والجهات الرسميّة، وذلّل الأستاذ هذه المشكلة بأن أختفيَ وراء اسمٍ مستعار أو تترك كتاباتي بلا اسم باعتبارها صادرة من الجريدة نفسها.

وبدأت الكتابة في جريدة (اللّيبي) وفتح لي الرّجل قلبه وجريدته وشجّعني مادّياً ومعنويّاً حيث كان يعطيني مكافأة شهريّة قدرها عشرون ديناراً، وكتبت اليوميّات والخاطرة والنّقد الاجتماعيّ والتّعليق، ثم عهد إليّ بكتابة افتتاحيّات الجريدة وهي أهمّ ما فيها، والمعبّرة عن اتّجاهها وأفكارها، وكنت في تلك المرحلة كشأن الشّباب الوطنيّ المعبّأ بالرّوح النّضالية، والمشاعر الوطنيّة، والرّغبة العارمة في التّطور والخروج من التخلّف، وممتلئاً غضباً وضيقاً من القواعد العسكريّة الأجنبيّة في بلادنا، ومن المعاهدات البريطانيّة والأمريكيّة التي كانت أغلالاً في أعناقنا وخنقاً لحرّيتنا وإهداراً لمعنى الاستقلال والسّيادة، وكنتُ أقرأ الافتتاحيّة بعد إعدادها على الأستاذ عليّ، وأعرض عليه أن يحذف منها ما يشاء، أو يعدّل ما قد يعرّضه للمساءلة أو الأذى أو إقفال الجريدة؛ لأنّه صاحبُ الجريدة، والمسؤول عن كلّ حرفٍ يُكتَب فيها، ولكنّه كان يصرّ على ألا يحذف شيئاً من الافتتاحيّة، ويتحمّل كلّ المسؤولية لإيمانه بكلّ ما كتبته وقناعته التامة به، وحرصه على أن يُقالَ، ويبلغ من يعنيهم الكلام، وهي شجاعةٌ كان يتحلّى بها الأستاذ علي الدّيب، رحمه الله.

وظللت أكتب في جريدة (الليبي) ثلاثة أعوام، من 1958م إلى 1960م، حيث أُقفلت الجريدة التي كانت تنفد أعدادها بعد سويعات من صدورها كل خميس، وكان الشعب ينتظرها بلهفة؛ لأنها كانت تعبر عن ضميره وتعكس همومه، وكانت هذه الجريدة بالنسبة إليّ مدرسةً عظيمة تعلّمتُ فيها الكثير فاستقام فيها قلمي، وسلس أسلوبي، واتسعت آفاق تفكيري، ونما فيها رصيدي من المشاعر والأحاسيس والتوعية بالقضايا الوطنية واكتسبت فيها مراناً وخبرة لم أكتسبها في أي مجال آخر خضته في حياتي، وأنا أدين بهذا الفضل للأستاذ على الديب الذي كان شاعراً وأديباً وقانونياً، وكان رجلاً شهماً على قلّة في الرجال ذوي الشهامة. بعد إقفال جريدة (الليبي) كتبتُ في جرائد: (الرائد والطليعة والحرية) وكان لي باب ثابت تحت عنوان: (مع النّاس) في مجلة (طرابلس الغرب) التي كان يرأس تحريرها الأستاذ محمد الشاوش، رحمه الله.

بدأتُ الكتابة للإذاعة منذ إنشائها عام 1957م في مبناها المتواضع في شارع الزاوية، وواصلت الكتابة لها بعد انتقالها إلى مقرّها في شارع الشطّ، وتنوعت كتاباتي للإذاعة من الحديث الصباحي، وعلى هامش التلاوة، والمسلسلات التمثيلية، والتعليق السياسي، والخواطر، والبرامج اللغوية، ومن البرامج الإذاعية التي أعتزّ بها (إلى الأمام) الذي كان يذاع بعد ظهر كل يوم جمعة، وكان له صداه الواسع، ومستمعوه، واستمر ستة عشر عاماً متواصلةً حتى قطعه أحد مديري الإذاعة عام 1976م وبرنامج (قصة وآية) وهو مسلسلات تمثيلية تذاع على امتداد ليالي شهر رمضان، وبدأ مسيرته من عام 1958م ولا يزال مستمراً حتى الآن، وقد سلخ من عمره أربعة وخمسين عاماً بلا انقطاع، ولا أعتقد أن برنامجاً آخر طال نَفَسه، وامتدّت به الحياة كل هذه المدّة، ومن البرامج التي أعتزّ بها برنامج (لغتنا العربية) وصنوه (لسان العرب) وهو أيضاً مما طال عمره واستمرّ أكثر من عشرين سنة، وكان للبرنامج الصباحي (مع كتاب الله) أثر خاصّ في نفسي، وكنت أكتبه بروحٍ وانفعال لا أستطيع تصويرهما بالكلمات، وقد حدثني بعض الأصدقاء أنه كان يحس عند الاستماع إليه بإحساس روحاني يجعله يتمنى ألا تنتهي الحلقة بقولي المعتاد: (وللحديث صلة)، واستمرّ ثلاث سنوات متواصلة إلى أن أمر بوقفه مدير الإذاعة الذي كان قد أُقفِل برنامج (إلى الأمام) على يديه. أمّا الإذاعة المرئية فلم أقدم لها سوى برنامج (لغة القرآن الكريم) وبرنامج (مناسك الحجّ والعمرة) وبعض المقابلات. وفي الخارج سجلت أحاديث مرئية لتلفزيون أبو ظبي، وأحاديث مسموعة لإذاعة دبي.

عُينت في عام 1963م وزيراً للأنباء والإرشاد في حكومة الدكتور محيي الدين فكيني، وأحبّ أن أترك الآخرين يتحدثون عن عملي في الوزارة وما طرأ على الخطاب الإعلامي فيها من تحوّل وتطور واهتمام كبير بالقضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين. وقد قرأت لبعض أدبائنا وكتابنا شهادةً تملؤني فخراً واعتزازاً بما قدّمته في فترة الوزارة القصيرة، ومن أبرز ما أفتخر به ترخيصي بإصدار جريدة (البلاغ) للأستاذ علي وريث -رحمه الله- وجريدة (الشعب) للأستاذ علي مصطفى المصراتي أمدّ الله في عمره، ومتعه بوافر الصحة والعافية.

وكنت ناويا الترخيص بجرائد أخرى لبعض المواطنين الشرفاء لولا أنّ الحكومة استقالت احتجاجاً على قمع مظاهرات الطّلبة، وقتل بعضهم في حوادث يناير الدامية سنة 1964م، والذين عاشوا تلك الفترة يعرفون مدى الصعوبة البالغة التي تصل إلى درجة الاستحالة في إصدار تراخيص لجرائد وطنية ولعناصر معروفة بنضالها ومقاومتها للقواعد الأجنبية، ويدركون أن الإقدام على هذه الخطوة يعدّ في تلك الظروف مغامرة جريئة قد تطيح بصاحبها، وتنظمه في قائمة المغضوب عليهم. ومن الاعتراف بالجميل أن أنوّه هنا بموقف رئيس الحكومة الدّكتور محيي الدين فكيني -رحمه الله- فقد ساعدني ووقف بجانبي وأيدني في اتخاذ الخطوة التي أقدمت عليها، وهو يعلم يقيناً أنها ستحسب عليه من قبل المتربصين به دوائر السوء، والمنتظرين فرصة الوشاية به لدى من بأيديهم زمام الحكم في ذلك الوقت.

في عام 1965م خضت الانتخابات للمجلس النيابي عن دائرة المدينة القديمة ضمن الجبهة الوطنية التي كانت تضمّ الأستاذ علي وريث -رحمه الله- والشيخ محمود صبحي، والأستاذ علي مصطفى المصراتي، والأستاذ بشير المغيربي -رحمه الله- وغيرهم، وقد أقدمت حكومة حسين مازق التي أجرت الانتخابات على جريمة بشعة فزوّرت الانتخابات بطريقة بدائية غبيّة هي تكسير صناديقنا وإفراغ ما فيها من بطاقات الانتخاب، وصبّها في صندوق المرشح الآخر المتّفق عليه، وتولى كبر هذه الجريمة وزير الداخليّة فاضل الأمير بالتنسيق مع رئيسه حسين مازق حيث خطط لها وأشرف بنفسه على تنفيذها ومتابعتها، وهنأ الذين تشوهت أيديهم بارتكابها من رجال الأمن كما أفادت ذلك شهادةُ الشهود في محاكمات الثورة.

عينت في سنة 1965م رئيساً للجنة العليا لرعاية الفنون والآداب في عهد وزير الإعلام والثّقافة الأستاذ خليفة التليسي -رحمه الله- وأنجزت في فترة رئاستي للجنة المذكورة إصدار الكتاب الشّهري، وإحياء ذكريات شعراء ليبيا الكبار من أمثال أحمد رفيق المهدوي وأحمد الشّارف، وأقمت لكلّ من هذين الشاعرين الكبيرين تمثالاً رأسيّاً من الجبس نفذهما الفنان الليبي علي قانه. كنت من المؤسسين لجمعية الفكر التي كان لها مقرّ متواضع في شارع البلدية بطرابلس، وكانت تتحرك بإمكانات أكثر تواضعاً، وترأستها في فترة من الفترات، وقامت هذه الجمعية في مرحلة نشأتها الأولى بنشاط لا بأس به، فأسست مكتبة، ونظمت مواسم للمحاضرات والندوات، واستضافت للمحاضرة فيها عدة شخصيات زائرة من أمثال الأستاذ الكبير مالك بن نبي -رحمه الله- ثم أصاب هذه الجمعية الوهن، وأوشكت على السقوط عدة مرات، ولم تُجدِ الإسعافات المستعجلة التي قام بها بعض الغيورين في إعادة العافية إليها فماتت ولحقت بغيرها من المؤسسات الثقافية الأهلية التي سبقتها إلى عالم الفناء كالنادي الأدبي الذي أسسه الأستاذ الشاعر أحمد الفقيه حسن -رحمه الله- والنادي الثقافي الذي أسسه الشيخ عبد السلام خليل، رحمه الله.

ونلاحظ أن المؤسسات الثقافية الأهلية في بلادنا على قلتها لا تعمر طويلاً، ولا تبقى حتى تكوّن لنفسها جذورا ترسخها في التربة الثقافية، وتجعل فيها تقليدا اجتماعياً ثابتاً ومتجدّداً، وقادراً على التواصل والاستمرار، بخلاف النوادي الرياضية التي تجاوز عمر بعضها الستين سنة، ولا تزال في شرخ شبابها تحرز البطولات، ويتسلمها جيل بعد جيل، وتتكاثر بشكل عجيب حتى ليكاد يكون في كل شارع نادٍ رياضيّ، ويرجع ذلك إلى أسباب من أهمها أن بلادنا حديثة عهد بالثقافة، وعاشت عهوداً مظلمة من الجهل والتخلّف، ولم تتكوّن فيها بعدُ بيئة ثقافية عريضة تشجع المؤسسات الثقافية الأهلية، وتحميها وتجد لها الأنصار والداعمين كما هو الشأن في مصر وتونس ولبنان وغيرها، ولذلك يتحمّل المثقفون عندنا – على قلتهم في ذلك الوقت- جزءاً من مسؤولية موت المؤسسات الثقافية الأهلية، فقد تخلّوا عنها، وبخلوا بدفع الاشتراكات التي توفّر لها الدماء التي تحركها، وقاطعها الكثيرون منهم ولم يعرفوا طريقهم إليها، وسقطت أمامهم كما تسقط النخلة التي نخر جوفها السوس، ولم يحرك سقوطها فيهم ساكناً، ولم يستشعروا الفراغ الذي خلفته وراءها ولا الثغرة التي أحدثتها في جدار الحياة الثقافية. يضاف إلى ذلك أن المؤسسات الثقافية الأهلية القليلة لم تحظَ باهتمام الجانب الرسمي ولم تنل عشر معشار ما نالته النوادي الرياضية المدللة من الرعاية والحدب والدعم المادّيّ، والتشجيع الذي فاق كل تصوّر، وبذلك اجتمع على المؤسسات الثقافية الأهلية القليلة عقوقان، وتنكّر لها راعيان، وانقطع عنها مددان، فانتهت غير مأسوف عليها من الذين لا يقيمون للثقافة وزناً، ولا للفكر اعتباراً. وذهبت هذه المؤسسات ولم ترثها مؤسسات مماثلة، كأن فقر الدم الذي كانت تعانيه قد سبّب لها عقماً، أو لم يتح لها الوقت الكافي لكي تنمو ويكتمل شبابها، ويشتدّ عودها، وتكون فتية قادرة على الإنجاب.

بعد عودة (البلاغ) إلى الصدور في عهد الثورة، اشتركتُ في تحريرها، ثمّ تفرّغت لها بعد وفاة الأستاذ علي وريث، ثمّ أصبحتُ رئيساً لتحريرها. وفي عام 1974م صدر قرار بتأميم الصحافة، وتلقينا من منفذي قرار التأميم رسائل غاية في الجفاف بإقالتنا، وقطع صلتنا بالجريدة، وكأن ما بذلته أسرة (البلاغ) -وعلى رأسها مؤسسها الأستاذ علي وريث- من جهود وعرق وعصارة فكرة ومعاناة سهر لا يستحق من منفذي قرار التأميم كلمة شكر أو الحدّ الأدنى من المجاملة المتعارف عليها في الرسائل، ولكن يبدو أن خلق الوفاء أصبح عملة نادرة في هذا الزمن الرديء الذي لا يقدَّر فيه العاملون، ووسّدت فيه الأمور إلى غير أهلها، وتسلّق موجة الصحافة غير القادرين على السباحة في بحرها. وعلى الرغم من سوء الطريقة التي أخرجنا بها من (البلاغ) وافتقارها إلى أبسط قواعد الأدب واللياقة وتقاليد الإدارة فالذي يعزينا أن (البلاغ) قد دخلت تاريخ الصحافة الليبية من أوسع أبوابه، واحتلت أشرف ميادينه، وكانت من أنصع الصحف الليبية وجهاً، وأنظفها ذمّة ويداً، وأكثرها التزاماً بالخطّ الوطني ومبادئ العروبة والإسلام، وأوفرها حظّاً من الشعبية وذيوع الصيت، وإن شمت الشامتون، ونفس عن حقدهم الحاقدون. كنت من المؤسسين لجمعية الدعوة الإسلامية، وأتشرّف بأني أحد الموقعين على قانونها، وكنت عضواً بمجلس إدارتها الأول الذي كان يرأسه فضيلة الشيخ محمود صبحي، كما ساهمت في إنشاء كلية الدعوة الإسلامية، وشاركت في صياغة قانونها مع الأستاذ كمال المنتصر، رحمه الله.

أنا الآن متقاعد، وعضو في مجمع اللغة العربية اللّيبيّ، والمستشار الثقافي للهيئة المشتركة لتأسيس الثقافة الإسلامية، ومدرس مادّة البلاغة في كلية الدعوة الإسلامية، ومتعاون مع مكتب الإعلام والنشر بجمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ومع الهيئة العامة للأوقاف وشؤون الزكاة. ألّفت الأجزاء الأربعة من كتاب (التدريبات اللغوية) المقرر على سنوات الكلية الأربع، وكتاب (تصحيحات لغوية)، وكتاب (نماذج وصور)، وكتابين في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه كانا مقرّرين على السنتين الثالثة والرابعة في المرحلة الثانوية التخصصية، وكتاب (دليل الحج والعمرة)، وشاركت في تأليف الأجزاء الستة من كتاب (تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها)، وفي ذهني مشروعات كتب بدأت في تأليفِ بعضها، وأنوي كتابتها إن كان في العمر بقيّة، ومنّ الله عليّ بالصحة والعافية. لي أربعة أبناء وبنتان كلهم متزوجون، وهم بحمد الله بارون بي وبوالدتهم، وأسعد لحظاتي تلك التي يلوذ بي فيها أحفادي وحفيداتي، وأداعبهم وألاطفهم وأدخل السرور في قلوبهم، وأسمع ضجيجهم وصخبهم كأنه موسيقى عذبة تشنّف أذني، وكيف لا وهم قرّة عيني، وبهجة فؤادي، وأنس حياتي، وسلوتي في هذه السنّ التي قارب قطارها أن يصل بي إلى محطّة الثّمانين إن قدّر الله لي أن أصل إلى هذه المحطّة.

أعظم ما خرجت به في حياتي، ويملأ قلبي رضاً وطمأنينةً وأمناً حفظي للقرآن الكريم برواية قالون عن نافع، فهو ذخري وكنزي وربيع قلبي ونور عيني، وأدعو الله أن يديمَ نعمته عليّ، ويميتني ولساني رطبٌ بتلاوته، ويجعله شفيعاً لي يوم يُدعى كلّ أناس بإمامهم.

الخميس 18 من شهر رمضان – الموافق 23/06/2016م – طرابلس / ليبيا

_______________________
المصادر:

– موقع الشيخ عبد اللطيف أحمد الشويرف.
– موقع شخصيات ليبية… صوت ليبيا.
– فيس بوك موقع كشف المستور

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

ملف خاص عن القاص الراحل .. خالد شلابي

محمد القدافي مسعود

رحل الماجري وحضر الشعر

المشرف العام

السيرة الذاتية لمحمد عبدالهادي تعيد كتابة تاريخ المسرح الليبي

أسماء بن سعيد

اترك تعليق