قصة

كلاب

محمد ربيع

جارتي الهولندية ـ مارخا ـ تدوس بإصبعها على جرس شقتي مرات متتالية ومتواصلة كأنها مستعجلة – هلبة -، بالكاد وضعت نعلي في قدماي حتى صمّت أذناي بالجرس، جارتي المسنّة مارخا سمعها ثقيل، لذلك لا تدرك فداحة الإزعاج الذي تسببه لي كلما أرادت الاستنجاد بي وهي التي بقت لوحدها بعد أن غادرها أولادها إلى أعشاشهم، وكانت هي ولا تزال تغمرني بهداياها في عيد ميلاد سيدنا المسيح وعيد رأس السنة الجديدة.

من مجموعة ( الإنسان المعاصر ) 150 × 300 cm زيت على قماش 2009. (من أعمال التشكيلي علي المنتصر)

بالكاد فتحت الباب حتى سبقها استنجادها بي وهي تكاد تجهش بالبكاء ” لم أعد أعرف ماذا أفعل يا موهمد، علّي أن أسافر إلى ابنتي في الشمال قبل حلول الظلا م و أنا لا أستطيع قيادة سيارتي في هذا الطقس المثّلج المتزحلق، سأستقل القطار بعد ساعة ولن أستطع أن اترك كلبي لوحده في البيت ، أضافت وهي تعلل لي خصائل كلبها جاكي ” جاكي لطيف ومرح و لن يزعجك، كل ما عليك فعله أن تخرجه في الصباح إلى تلك المساحة الخضراء يشم أنفاسا من الهواء ويتبول تم تعيده إلى غرفته، ستجد في المطبخ كل آكله “، وافقت أنا على مضض فمدّت لي بمفتاح شقتها قبل أن توصيني بالخروج مع جاكي مرة في الصباح وأخرى قبل غياب الشمس، سمعتها وهي تعطيني بظهرها و تتجه نحو مصعد العمارة تقول ” أنت أحسن جار في العالم.

في الصباح تذكرت جاكي، فتحت الشقة فوجدته يلوي بذيله عند الباب من الداخل، وضعت رأسه في حلقة معدنية يخرج منها خيطا كمقود وترافقنا أنا وجاكي إلي مساحة خضراء يتجمع فيها كل كلاب المنطقة مصحوبين بأصحابهم، لم أنتبه عندما فلت رأس جاكي من الحلقة المعدنية وذهب إلى كلب آخر كانت تصطحبه فتاة، ناديته باسمه لكنه كان قد وصل إلى الكلب الآخر وتشاجر معه، أسرعت خطاي واعتذرت للفتاة عما بدر من جاكي، قالت وهي تبتسم ” لا بآس نحن نعرف جاكي هو دائما هكذا يتشاقى “، من خلال تلك الكلمات القليلة التي تبادلتها معها اكتشفت جمالها، وجه أبيض مدور ومنّمش وقامة ممشوقة ولباقة في الحديث حسدتها عليها، اكتشفت مباشرة إن كل أصحاب الكلاب هنا معارف وينادون حتى كلاب بعضهم بأسمائهم الصريحة، أعدت الحلقة المعدنية في رأس جاكي، أنا أيضا ينتظرني عملي وودعت جاكلين، هكذا ذكرت لي اسمها وهي تمد لي بأصابعها إلي لقاء المساء رفقة جاري الكلب جاكي.

في بيت جارتي مارخا وجدت أصنافا متعددة من الأكل المخصص ل جاكي حتى احترت أي صنفا أقدمه له، وجدت علبة مرسوما عليها كلب قدمتها له في أحد الصحون التي يستعملها وغادرت.

ظهيرة اليوم التالي رّن جرس هاتفي فوجدت جارتي مارخا على الخط تسأل عن أحوال جاكي، قلت لها هو بخير وكنت قد رافقته هذا الصباح في جولة كما أوصيتني، وسأخرج معه أيضا هذا المساء بعد قليل، شكرتني كثيرا و اعتذرت لي لأنها ستبقى يومين آخرين مع ابنتها في الشمال، قلت لها أبقي مع ابنتك كما يحلو لك لا تهتمي بأمر جاكي.

أنا الآن رأسي مشغول بجاكلين أكثر من جاكي وجارتي مارخا، خاصة وانه في المساء عندما التقيتها كنا قد تعرفنا أكثر، وأبدت جاكلين إعجابها بي وبسرعة اندماجي في المجتمع الهولندي والحديث معها بلغة هولندية ـ موش مكّسرة ـ، لقد كان تأخير جارتي مارخا لموعد عودتها من الشمال قد منحنا فرصة حتى وصلت علاقتنا إلي تبادل أرقام الهواتف، قلت لجاكلين غدا ستعود جارتي ولن تشاهديني ثانية برفقة جاكي، قالت لي ” هل سجّلت رقم هاتفي ؟ قلت لها سأتصل بك مع نهاية عطلة الأسبوع وغادرت.

رفعت جاكلين السماعة من الطرف الآخر، سمعت صوتها الدافئ الذي لم تعد تخطئه آذني، قلت لها أرجو أنني لم أزعجك ؟، قالت على العكس كنت أنتظر مكالمتك، تواعدنا على اللقاء بعد ساعة في مطعم ـ دى بيرخ ـ وسط المدينة، وقفت تحت الدوش لأغتسل، لبست ملابس نظيفة ورششت شيء من عطر فهرنهايت الفرنسي على رقبتي وحول معطفي الشتوي وركبت على البشكليت إلى المطعم و ـ ألوي واشبح لقدام ـ.

وجدت جاكلين قد جمعت معلومات كثيرة عن ليبيا كما عرفت من هدرزتها فيما بعد، و تابعت بفضولها مجموعة مقالات وصورا ومقاطع فيديو على النت كلها تخص ليبيا، كان الجو دافئا حميميا داخل المطعم و نتفات الثلج تقع ببطء على وجه الارض والنادل يقف على طاولتنا ينتظرنا نقرر ماذا سنأكل ؟.

 كان الظلام قد حل عندما انتهينا من الأكل وهي تحكي لي عن صحراء ليبيا ومعالم تاسيلي و أكاكوس، قلت هذا ليس وقته يا جاكلين، هزت كتفيها بغنج وسحبت خصلات شعرها الناعم بين أصابعها إلى الخلف وقالت لي ” تكلم أنت، مددت يدي إلي أصابعها وضممت رأسها إلى صدري و وشوشت لها في أذنها ” هذا مش وقت أكاكوس يا جاكلين.

ذات مرة قالت لي ستذهب معي إلي بيتنا، أريدك أن تتعرف على أبي و أمي، وافقت وذهبت في الموعد أحمل معي باقة ورد، تبادلنا الزيارات والسهرات والطلعات حتى صرنا رفاق درب.

كنت كل تلك الفترة قد انقطعت عن الاتصال بأصدقائي، غبت عنهم كثيرا حتى جاءت مناسبة التقينا فيها في بيتي وجاءت جاكلين كالعادة بقامتها الممشوقة تسبقها رائحة عطرـ شانيل ـ وهي تحمل باقة ورد بين يديها، عرّفتها على أصدقائي، انسجمت جاكلين مع هدرزة أصدقائي الذين في معظمهم يتعاطون القلم ويتحدثون اللغة الهولندية بوضوح، أحب السهر والسمر معهم، هم أيضا يعترفون بذلك، حكاياتهم اللطيفة تضفي كثيرا من الطاقة في جسدي المغترب، ضحكنا تلك الليلة كأننا لم نضحك في حياتنا، سحب صديقي الفنان التشكيلي عباس أذني إلى فمه وقال لي ” كيف تعّرفت على هذه الفتاة الجميلة ؟، قلت له ” والله صدقني يا عباس معرفة كلاب.

مقالات ذات علاقة

الصاحب!

عبدالله الماي

فـزعُ الكوابيس

خالد السحاتي

حـكاية جـورب

محمد الأصفر

اترك تعليق