طيوب عربية قراءات

قلب النجيب ودم العاصفة

إبراهيم علي إبراهيم – السودان

غلاف الديوان

منذ صدور ديوانه الأول ” تعاويذ علي شرفات الليل ” 1971م والثاني ” ضد الإحباط ” 1977م حتى ديوانه الجديد ” دم العاصفة ” مسافة زمنية هي رحلة عمر الشاعر مع الشعر , حدث فها تطور هائل في قصيدته الحداثية , وظلت جذوة الشعر متقدة في روح الشاعر محمد نجيب محمد علي .. وصفه الأديب القامة عبد القدوس الخاتم بأنه تميز بإمتلاكه ناصية المنطقة الحرة الواقعة بين ملكوت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وفيها يطارد أرانب خياله الذهبية طفلا لا يلوي علي شيء , وإن تكسرت تحت قدميه أواني اللغة الفخارية , أو تبعثر جرانيت التماثيل القاموسية المقدسة . وهكذا كانت قراءة عبد القدوس أكثر عمقا , فقد خبرنا حياة النجيب مع الشعر – نحن مجموعة أصدقائة الذين كانوا يجمعون قصاصات قصائده المتناثرة في أرجاء البيت .. , في أخطر منعطفاتها .. , يحيا للشعر وبالشعر ليعلن عن تميزه .. معتدا بروح الشاعر المتمرد فيه .. , وكان أوان الهدأة يعلن عن مقته للشعر الذي ينحرف بحياة الانسان .. , وكان يحذرني من قراءة اّرثر رامبو كما يقول أضر بمجموع المبدعين السودانيين .. , بينما كان اّرثر رامبو اّخر ينهض من بين يديه .

مضى النجيب إلي قصيدة حداثية موشاة بتجاربة الذاتية .. قصيدة عامرة بالإيقاع والموسيقي الداخلية وهي قنديل الشعر والشاعر وهو يطارد ملاوعته ولا تكتفي بالرقص وإنما تراقص القاريء .. إقرأ عزيزي القاري إلزا حتي تشاركنا الرأي : أما ترين كيف ناح بي دمي وكيف صاح بي فمي .. وكيف كيف كيف يا حبيبتي تهزني , تجزني , مقاطع الغناء .. فجأة تثور يا حبيبتي وفجأة تجزر ياحبيبتي وفجأة أعود واحدا.

كما أتيت واحدا وواحدا أسيرفي صراط خيبتي إلي مداخل المحن أجن قبل أن أجن جاء ديوان ” دم العاصفة ” معبرا عن مراحل مختلفة في سيرة النجيب مع الشعر ومعبرا عن هذه السنوات التي أنقطع فيها الشاعر عن المطبعة , وهي تراتيل حداثوية ثرية , مكثفة اللغة المنتقاة بدقة , وقصيدة نجيب ترقي إلي أن تكون في ريادة شعر الحداثة في المنطقة العربية , ولكن جيل السبعينات والثمانيات ظلم وأستأثر جيل الستينات بكل الكعكة بدءا من الثقافة وحتي السياسة .. مثلما جبل البعض علي ترديد ذلك .. , إذ أن جيل الستينات صار يدور حول نفسه ” وحيدا ” تحت الاضواء وكأنما عازة توقفت عن الإنجاب .. ولكن النجيب وصل إلي المربد العراقي والجزائر والقاهرة .. وبلاد عربية أخري عبر مبدعيها وشعراءها رحلته مع الشعر .

مضينا مع النجيب في مرحلة المخاض العسير أيام الطلب , والشعر يتطوح به .. , عجزنا عن تطويعه ” فأورثه الفقر ” كما يقول في مقدمة ديوانه .. , فقد كان ثريا , فأبتلع الشعر ثراءه .. وكذا صار القلب يقتات علي المسكنات – يا رعاه المولي – مثلما الأبنودي الذي كان ينادي قلبه : ” ياقلب ياكلب ” .

الشاعر”محمد نجيب محمد علي”

اتصل به الكاتب الكبيرنجيب محفوظ يكمل المقوله : ” ارمي قلبك للكلاب نحن عاوزينك أنت !! ألم يقل النجيب لطبيبته : ” أذكريني كلما أدخل لغرفة الإنعاش شاعر أستقبلته في مطار القاهره نهاية أغسطس الماضي .. و انتزعت منه علبة السجائر ” بحركة إنقلابية ” ” بالقوة ” .. , فقال لي وهو يحدق في : ” مازلت عاقلا ” !! قضينا جانبا من ليلة وضحاها .. انتزعتنا سوناتا إبنته وهند زوجتي وقالتا حان موعد الوداع .. , أنا إلي داخل بطن الطائر.. لمنفاي الأمريكي .. وكان هو يدخل إلي مغارة الأطباء الذين لا يتركون الجسد حتي يمزقونه , فأجري النجيب جراحة سريعة.

غرفتي كانت مليحة .. ويد البنت الفرس جست النبض .. ولاصت كفها في بطن كفي ثم قالت : خد نفس .. كانت الشمس تناديني .. وكان الاصدقاء يوصدون الحزن عني .. ويغرقون الجرح في ثلج التمني .. ويمدون إلي القلب أباريق الدماء .. كنت باليقظة أغفو .. كان ضوء الشعر يسري .. في شرايين الإبر قصيدة ” تداعيات في غرفة الانعاش ” كتبها في أول زيارة للنجيب لغرفة الانعاش قبل قرابة العشر سنوات حينما بدأ القلب مشاغباته , وهي من أروع ما كتب , فقد أندغمت مع حالة القلب وإغماءاته .. وأجواء المستشفي .. ولم يكن الشعر غائبا وإنما معلق بين مع أجهزة التنفس .. صعودا وهبوطا .. الغيبوبة واليقظة .. يتطوح مع الشعر ويشاغبة بعبارة الطبيبة الجميلة : ” خد نفس ” !! يا للسخرية .. ” خد نفس ” .. مثله مثل أمل دنقل حينما أستيقظ من أغماءة ووجد الأبنودي أمامه وقال له : ” أوعي تكون بتضحك علي وأنا معلق في الفضاء مع أرمسترونج .. !!

جعل الشاعر من الغيبوبة شرفة يطل منها بعد إمقشاعها علي الحياة الدنيا .. , ويقول انه كان علي مقعد ” يعلو علي سرر الغيوم ” .. , وكان يرقب ” الموج الجبل ” .. , ويدعو الموت للإنتظار حتي يحمل قيثارته .. , مثلما تحدي محمود درويش الموت في بسالة وسخرية وهو يطالبه بأن لا ” يجلس علي العتبات مثل جابي الضرائب ” وطالبه بأن يكون ” قويا .. كامل الضربات ” . ولكن النجيب تفاعل معه برفق وبكل الوثوق .. وتابعه برفق وهدوء وهو يحصي كل صغيرة حتي ” الاّهة والحزن في عيون الأصدقاء ” الذين عادوه : ” .. كلما يدخل زائر .. أري الحزن بعينيه يبوح وأري الاّهة في الصوت تلوح .. وأري دفق المشاعر وكأني بالمعزين أتوا قبل الرحيل وكأني أسمع الاّن العويل .. وهنا يختلط الواقع بالخيال : هل تري ان الشعر- الذي حمله معه في مشاغبات القلب – قد أنتصر علي الغيبوبة , أم أن سكان غرفة الإنعاش يملكون القدرة علي الأختيار .. ؟ إنها النفس البشرية التي تدرك ان الرحلة مؤقته وان اللعبة قد تنتهي بين لحظة وأخري .. , ولكنها تراوغ , مثلما يراوغ الشاعر قصيدته التي تفر من بين يديه ولا يملك إلا أن يلاحقها .. , ونفس الشاعر ترنو دوما للدهشة .. والمفاجئة .. وتجديد الحياة , حتي أوان مداعبة لعبة الموت له .

أيقظتني كف تلك البنت من اّخر عمري فأيقنت بأني لست أدري أأنا الاّن بشط العالم الاّخر أحيا أم تراني هاربا من بطن قبري ما الذي أيقظ في صوتي الغناء ولماذا يا طبيبي تزحم الجسم بأثقال الدواء، ديوان دم العاصفة صادر عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر . كتاب الخرطوم يقع في 109 صفحة من القطع الصغير.

مقالات ذات علاقة

الرسالة التاسعة والخمسين: الشياطين تؤزّني أزّاً لأخذك دفعة واحدة دون مقدمات

فراس حج محمد (فلسطين)

تأملات في رواية “الكوكب الدري” للكاتبة جيهان سعد الدين.

سالم الحريك

الراحلون الصامتون

المشرف العام

اترك تعليق