قصة

قـفصٌ فـارغ


مهداة إلى صديقة طفولتي…

لطيفة محمد شقليلة

صور لأيام مازالت ذكراها معنا…

 

 

قبالة بوابة الدخول الضخمة المشرعة دوماً للبحر .. بوابة أخرى مماثلة .. تطل على حديقة معهد المعلمين الداخلية .. تمتد في المسافة بين البوابتين مساحة شاسعة للعب .. يقسمها إلى نصفين متساويين باب واسع مفتوح على الدوام .. يحيط به إطار خشبي ثلاثي الإضلاع، مقسم إلى مربعات من الزجاج غير المصقول .. تنفذ من خلال تموجات سطوحه المحدبة، أشعة الشمس، فتتلون بقع البلاط .. بمواشير مبهجة.. تتبعثر بين جنبة الباب الغائب بانتزاعه منذ زمن مضىٍ، والواصل بين ضفتي الجدار ..

على يمين الداخلين من البوابة البحرية باب صغير مغلق يفضي المرور بمحاذاته إلى مساحة المربع حيث ينمو الدرج الصاعد إلى بيتنا تضيئه نافذة لا تفتح قط .. منغلقة المزاليج بسبب تراكم الطلاءات المتعاقبة عليها.. ثمة غرفة أخرى تقع إلى يمين الصاعدين.. بابها بارتفاع أعلى الدرج الهابط .. سقفها وينحسر بتدرج درجاته .. حتى يقترب بمسافة شبر من الأرضية .. مظلمة ومخيفة لالتصاق الدخان بجدرانها عندما اندلعت منها ألسنة النار ذات زمن .. فأغلقت بأقفال غير محكمة .. وظلت لغزاً مكملاً لأسباب الحريق.. أو لفاعله !.. واتفقنا على تسميتها بـ(دار الحريقة).!!..

عندما يصعد أحدٌ ما الدرج .. يُسمع لنعله صوت مميز .. بسبب ما تحدثه خارطة خطواتنا الصاعدة.. المحملة بحبات من رمال الشاطئ .. العالقة بأقدامنا المبلولة، فتترك أثراً بعد جفافها، وتحدث خشخشة للأحذية والنعال تعلن عن قدومهم أو مغادرتهم..

وحده “عمي محمد” بأناقته المفرطة .. ووسامته الواضحة .. يصعد الدرج دونما يُسمع.. يحفظ توازنه برشاقة خطواته .. المرتكزة على طرف حذائه المدبب اللامع الأنيق ..

نحاول دوماً تقليده .. إذ كيف يتسنى له ذلك؟ .. إلا أننا نتساقط إثر المحاولة  ضاحكين .. فطفولتنا تخشى سؤاله.. كلما وصل بسيارته المجنحة الصفراء عائداً من الإذاعة.. متأبطاً بكراته الممغنطة.. لنسمع بدورانها صوته الهادئ ..ومن أغنياتها كلماته.

حجرة الاستقبال لديه هي عالم يزدحم بصحف محلية.. مع خلط من نسخ مكررة لمجلتي (الإذاعة وليبيا الحديثة) .. وتسرق انتباهنا الرسومات الطفولية البهيجة المضحكة في مجلات (روز اليوسف وصباح الخير) بكاريكاتور فنانيها .. ولا نلتفت للبقية.. إلا إذا ما نشرت الأولى صورته أو لاحتفائنا بالثانية .. عندما نشرت صورة لنا .. نقتسم المقعد الأخير من الصف الأول الابتدائي في مدرسة (بوتشيني).. رغم أنه لا يبدو من ملامحنا في عتمة الصورة شيء لكن وضوح وجوه زميلاتنا الجالسات في المقاعد الأمامية .. وحدها الدالة علينا !..

فوق مقاعده الجلدية الداكنة الزرقة.. ذات الحواف الخشبية.. التي تجعل من تقوسها على الجانبين.. قوائم أربعة تنسكب تجاه الأرض .. من الارتفاع الذي تتدلى له أرجلنا، ونحن نتصفح المجلات المتناثرة .. أسفل سقف الطاولة الصغيرة ذات السطح اللامع.. الذي يعمل كقاعدة لما يشغل لفائف التبغ.. التي تنتهي بعد حين في مطفأتين جانبيتين.

تطل النافذة المفرطة الاستطالة على البحر .. والشمس الغاربة تغير من مساحات تلوينها للجدار السماوي.. بما ينفذ من مواشير ضوئها الوافد تجاه الجدار المقابل.. حيث أرفف الكتب الثقيلة.. المزينة الحواف بالجلد الأحمر.. المتلألئة بحروفها المذهبة.. وكأنها تحرس الباب يتوسط الجدار.. بأرفف أخرى مماثلة شكلاً ومحتوى في الجانب الآخر..

في أقصى اليسار.. قبالة أفق البحر.. حيث أبعد نقطة تصلها الشمس الهاربة.. حينما يهبط المساء.. وتكتسي السماء بشحوب، تشي به السحابات المنطفئة.. وعندما تكف نسمات العشية عن الانسياب بهدوء.. ينزوي الشاعر عادة، يصوغ قصائده.. محاطاً ببكراته، وجهازه الغريب فوق طاولة هي أقرب إلى مائدة الطعام..

يلاطفنا الشاعر بما يسجله لنا من لقاءات.. يسألنا فيها عن هوايتنا وأمنياتنا الطفولية، وأحلامنا المقبلة.. ثم يسترجع تسجيله.. لنتضاحك بجذل ونحن نسمع أصواتنا تنبعث عبر دوران بكرة الشريط الداكن الدائري الكبير.. حتى يحين موعد نومنا المبكر.. فنودعه لوحدته الخالقة ككل ليلة.

ذات صباح .. مع بداية لهونا اليومي، دبت خطوات تكبرنا.. قادمة من البوابة القبلية تجاه البوابة البحرية.. إلا أنها لم تعبرها.. بل توقفت وشرعت في فتح مغاليق الباب الجانبي.. حدث مدهش هو لإشباع الفضول الطفولي النهم.. لمعرفة الإجابة عما تحويه الغرفة؟.. وعن أيةِ “غولةٍ” سيُفرج ؟.. وما نوع الكائنات الغامضة الغريبة التي تصنعها الخيالات المجنحة، بما نسمعه من صغار أقاربنا الزائرين.. والتي لا نجاهر لأحد بها.. حتى لا نوصف بالجبن، إذا ما استدعى أمرٌ ما مرورنا بمحاذاة الباب بعد المغيب.. علت أصوات الطرقات وتكتكت.. فعجلت بخطواتنا الهابطة.. وتحطم الأقفال أوقف فضولنا المترقب في لهفة للتطلع عما عساه يكون وراء الباب ذي الإغلاق المديد؟..

لحظات وانفرج ظلام دامس ولجه أحدهم لفتح نافذة مفرطة الاستطالة.. لينشر عبرها خيوط الضوء.. تطرد العطن بصعوبة.. وتحت الإضاءة الإضافية بفتح النافذة الثانية.. انكشف مخزن للكراسي وأكوامٍ من البطاطين الرمادية والشراشف البيضاء والوسائد الملونة.. وخزانات حديدية ومقاعد مدرسية.. إلى غير ذلك مما تزدحم به فصول وعنابر نوم المعلمين المستقبليين.

فضول شره.. تملكنا عما يريد هؤلاء الرجال أن يصنعوا بما غنموا من المخزن المُشرع؟.. ولكن سريعاً ما انتقلت المحتويات إلى المخازن الأخرى .. عبر البوابة القبلية.. وظل تظاهرنا الكاذب باللعب أمام الدرجات الأربع يفضحنا كمشهد مغاير يدعونا لنرقبه عن قرب.. حتى فرغت المساحة مما ازدحمت به.. وبقيت بعض من الأثاثات.. حينما اقترب خفق خطوات خالتي “وريدة” مختلطة بقرقعة سلطها المعدني.. وخشخشة بقايا قيود استبعادها.. وهي تقبض على عصا تتقاطع في طرفها السفلي.. بأخرى بيضاوية الشكل ومصقولة، تستعين بها في تنظيف البلاط بخيش كان ذات يومٍ شوالاً للسكر !..

دمدمت.. ورشت الماء.. نفضت ولملمت.. عصرت الخيش.. تجذب أطراف رداءها كلما انزلق إلى جانبيها في حركتها النصف دائرية، وهي تمسح الأرض.. حتى تغير لون الماء في السطل.. فانصرفت عائدة من حيث جاءت.. بتباطؤ يثقل حذائها المطاطي الأسود، ويقلل من الصوت الناتج عما شابه من البلل.. لحظات وأعاد الرجلين ما تبقي من محتويات الغرفة ثم أقفلاها، ففرغ المكان من الأشياء والناس ..

لا ندر تحديداً متى سكن الغريب تلك الغرفة ؟..

لكننا صباح يوم الجمعة رأيناه.. رجلاً ضخم القد.. منتفخ الصدر كالشراع.. مندلق البطن.. صامتاً، يرفل في قفطان مخطط بطول قامته.. تطوق رأسه طاقية بخطوط دائرية .. كان زيه غريباً لأننا لم نألف رجلاً يرتدي قفطاناًَ كالنساء.. لكن سمته المهيب، لا يسمح لنا بمحاولة الابتسام.. فما بالك بالضحك !..

في المساء يرافق الغريب قفص للعصافير.. يصحبه معه أينما ذهب.. يتسلى بمراقبته.. يتجول به ..يعرِّضه للهواء والشمس في حديقة معهد المعلمين، حيث يعلو صوتها المغرد.. منتشية بالدفء.. متذمرة من الحسد للعصافير الحرة الطليقة.. بينما يتلهى هو بمحتوى علبته الفضية المستطيلة.. ليصنع منها لفافة حول مسحوق التبغ.. ثم ينزع عوداً من صفوف رقاقات الثقاب المتوجة بعمامات فخمة من الكبريت الأحمر القاني، ويوقد شرارة الاشتعال من الشريط البني الخشن أسفلها.. ثم ينفث دخانه.. وصمته أيضا ..!

بحذر اقتربنا منه.. بحذر أكبر ابتسم لنا.. حاول أن يكون ودوداً.. لكن تجهمه يتنافى وتساؤلاته للتعارف.. لم نستطع الاقتراب منه، حتى في كل المرات التي تلت لقاءنا الأول به ..

في الصباح يعتمر “عمى حمزة” -وهذا اسمه- عمامته البيضاء.. يطوق بها طاقيته الحمراء.. يلبس قفطاناً أسوداً.. تبدو من ثنيتة التحتية ذلذل حواف ثيابه الغريبة.. وبحذاء لامع يزرع خطواته.. بين فصول الطلبة والحديقة وردهة المطعم.. إلى أن يعود إلى غرفته أسفل الدرج.. بعد سماع قرع جرس الانصراف من المطعم.. يلقي تحيته بلهجة مصرية يتحدث بها، ممزوجة بلغة عربية فصيحة .. ويلج غرفته المسقوفة بأرضية غرفة الاستقبال في بيت “عمي محمد”، ويغلقها خلفه.. ولا يغادرها إلا حين موعد نزهة قفص عصافيره اليومي.

نفيق عقب الاستيقاظ الصباحي الضاج في بيتنا.. بسبب تأهب تلاميذه للحاق بمقاعد الدرس .. فيرشفون على عجل أكواب الشاي الصغيرة مع الخبز.. ويحدثون مع أصوات أحذيتهم في هبوطهم الدرج، جلبة تشي بالتأخير عن موعد طابور الصباح.. فتشرع البوابات للمغادرة.. ثم تغلق تاركة وراءها الهدوء والصمت

نتمطى.. نزيح ببطء ستائر أجفان النوم.. كي نتمتع بصباح لا يستعجلنا القفز، من الدفء إلي وطء الأرضية الرخامية المغلفة بثلج خفي.. ندثر أجسادنا بالمعاطف.. وندفئ بالشاي والحليب داخلنا.. يتنزه معنا الخبز في تجوالنا الصباحي.. حيث الباب المغلوق بغير إحكام.. الذي يختفي وراءه “عمى حمزة”، بأنفاسه المندلقة من شق الباب الموارب..

ولِيُسرِّب إليه خفق أقدامنا المتأنية فيشرع لها الغريب بوابته.. ويبدو واقفاً بالقفطان المخطط والطاقية الصغيرة المسقوفة من القماش ذاته.. فيسد بجسده إطار بابه فلا يترك مساحة.. تتلصص منها عيوننا الباحثة عن قفص عصافيره.. بما تفضحه من صوتها المنفلت… نبادله تحية الصباح، ثم يلتفت متجهاً نحوها.. يحادثها بلطف.. يمنحها إفطارها بزيادة من كيس الحبوب.. وبملء آنية الماء الناقصة.. يحمل القفص بحنان حتى الردهة.. وهو يسحب كرسيه الوحيد ليجلس القفص عليه !..

نحيط به.. بالريش الملون مبهورين بالرفرفة والالتفاتات.. بالتغاريد الرقيقة العذبة.. نتلهى بالمراقبة ولا نشعر بمرور الوقت.. حتى تقتطعه يد الغريب.. وهي تمد لنا بيضاً مسلوقاً.. يصنع به جسراً للتواصل.. تدعمه أمي بأطباق مغمّمَة عند الظهيرة تفوح بالتوابل.. ومثقلة بحزن خفي تجاه الغريب الوحيد.. الذي يبتسم بفرح ظاهر يكشف جوعه الأسري.. ثم يغلق بابه ليزيد بدانة !..

يغيب.. كما نغيب حتى المساء ..

حين يلوح من خلال النافذة العلوية..

القفطان الوحيد بمحتواه المتثاقل..

وهو يسير بمحاذاة شط البحر ..

بينما الريح ترفرف بأطراف ثوبه..

تلتصق به.. تظهر تكور بطنه المندلق.. ولا تطح بطاقيته

نتسابق في النزول ..

يلفحنا الريح بإثارة الفوضى..

بتغيير اتجاه انسياب شعورنا الناعمة، فنتلفت وفقاً لاتجاهاتها..

تُطيّرُ أطراف ثيابنا.. وتُطيّرنا..

نثبت أقدامنا الصغيرة في رمال الشط والريح تزحزحنا.. تجرجرنا ..

تطيح بنا .. نتضاحك.. فتتبعثر ضحكاتنا فوق رمال لعقتها التموجات الكبيرة..

وألقت عليها حمولتها من الأصداف والحصى والزجاج الملون ..

تضج بنا أجواء الفرح ..

ونحن نراقب “عمى حمزة ” يسير في اتجاه معاكس للريح.لرسول البحر الهائج.. بينما هو ثابت في خطوه..

فقط.. تصطفق جوانب ثوبه الفضفاض.. كأجنحة النوارس الوحيد ..

ينشر حزنه حوله ..

وينثر صمته في التراب ..

ونظراته الغائمة في الفضاء ..

ثم يُودِعُ أحلامه عند الأفق ..

وآثار أقدامه في الرمل المبلول..

يخلفه عميقاً وراء جثته المتحركة بتثاقل..

على امتداد الشط.. وهو يقفل عائداً من الطريق المرصوف..

صوب غرفته الوحيدة .. ناسياً آثار أقدامه في اتجاه واحد!.

لا أتذكر كم من الوقت أمضاه “عمى حمزة” في غرفته التي لا يزوره فيها أحدٌ قط.. ولا أتذكر عنه غير صباح ضاج.. وهلع .. تنبئ به الأصوات المختلطة وخطوات الأقدام المتزاحمة أمام البوابة البحرية الضخمة.. حينما نهرتني أمي وأنا أهم بفتح الشباك المفرط الطول للغرفة التي نبيت فيها.. المطلة على البحر.. محذرة من الخروج بحزم وتوعد غير معهود منها.. انسحبتُ سراً لغرفة أخوتي في نهاية الممر.. وتلصصت من نافذتهم لأرى سيارة الإسعاف.. تفتح فاها وتبتلع جثة “عمى حمزة” الضخمة وهي مغطاة ببطانيته الداكنة.. المتبقية من محتويات المخزن سابقاً.. ثم أُغلق الباب.. وغابت السيارة الثقيلة بحمولتها في المنعطف.. تاركة صوت محركها يغالب هدير الموج الغاضب.. إلى أن غلبه.. وغاب..

كانت علامات الأسف والحزن تغلف وجوه الكبار.. مع ما يتساقط في آذاننا الصغيرة .. بأنه وجد ميتاً في غرفته عندما تأخر عن حصته في الفصل، وبأنه لا أحد يعرف سبب وفاته .

(ماذا عن قفص عصافيره ..؟)

تساءلت ؟.. ولم ينتبه أحد !.. وربما لم يسمعني أحد ليجيبني!.. وربما لم أقله بصوت مسموع!.. لكنني كنت على ثقة بأن “عمي حمزة” لم يمت قضاءً وقدراً.. بل قتلته عصافير وحدته ..

وأُغلقت دار ” عمي حمزة ” مرةً أخرى.. وبقى له في ذاكرتي قفصاً فارغا!..

مقالات ذات علاقة

البـديــــل

صلاح عجينة

هذا هو الشعر

محمد الزنتاني

من قصص طوفان درنة

عبدالعزيز الزني

اترك تعليق