النقد

قـراءةٌ في مجمُوعة(شـواطئ الغُـربة) للقاص الليبي: خالد خميس السحاتي

سعـدية بلگـارح (المغـرب)

غلاف المجموعة القصصية شواطئ الغربة.
غلاف المجموعة القصصية شواطئ الغربة.

بدأت القصَّةُ القصيرةُ في الوطن العـربيِّ في مطلع القرن العشرين، مُتأثِّرةً بالقصَّة القصيرة في الأدب الغربيِّ.. وتطوَّرت كتابتُها منْ حيثُ البناء، السَّرد، والفكرة، والحبكة، منْ صياغةٍ رُومانسيَّةٍ إلى تصويرٍ للواقع بتأزُّماته المُختلفة، فرحه أو كدره.. ولعلَّ انعكاس الثورات العربيَّة الأخيرة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، على الأدب العربيِّ بصفةٍ عامَّةٍ، وخاصة القصة القصيرة والقصيرة جدا؛ لاستطاعتهما التقاط الحدث بدقَّةٍ مُتناهيةٍ في التَّركيز والتَّكْثيف والإنارة، كُلُّ ذلك أعطاهُ تلك الصبغة القاتمة التي بدت طاغيةً بشكلٍ كبيرٍ عَلَيْهِ، حتَّى كادت تتوحَّد المواضيعُ والثيماتُ في وقتٍ من الأوقــات، وإن اختلفت الأنســاقُ..  

وعلى غرار هذا النهج المُتطوِّر تناول الكاتبُ القاصُّ د.خالد السحاتي مجمُوعته الجديدة “شواطئ الغُـربة” بحرصٍ شديدٍ؛ حتَّى لا يقع في هذا الاجترار، مجمُوعةٌ تختزلُ عتبتُها الرَّئيسيَّةُ (العُنْوانُ)، صُور الشَّتات والضَّياع والاغتراب، فالغُربةُ هي شتاتٌ وعُزْلةٌ، وبُعْدٌ وضياعٌ، ومُعاناةٌ نفسيَّةٌ أكثر منها مادِّيَّة، وكلمةُ (شواطئ) تختزلُ محطَّاتٍ مُتعدَّدة لحالات الاغتراب والتَّشظِّي.. منْ هُنا يرسمُ الكاتبُ لسَرْدِيَّاتِهِ متاهاتٍ شديدة العُمق والتَّشابُك، بحرفيَّة قلمٍ خبر سراديب السَّرْدِ وأبْجديَّاتِهِ، ليجعل قارئهُ مُتأمِّلاً بعنايةٍ وحرصٍ شديدين لمتُون قصصه وفلسفتها..

“شواطئ الغُربة” مجمُوعةٌ منْ ثلاث وثلاثين نصّاً سرديّاً، يجمعُ منْ حيثُ النَّوع بين قصصٍ قصيرةٍ أو أقاصيص وقصص قصيرة جدّاً، سنامُها الوطنُ، ودثارُها الحُزْنُ والقلقُ والتَّشظِّي. النُّصُوصُ صيغت بلُغةٍ سلسةٍ تصلُ إلى المُتلقِّي دُونَ عَنَاءٍ، لتقِرَّ في نَفْسِهِ وَقْراً قويّاً، راسماً بِهَا تراجيديا عَمِيقَةُ الأَثَرِ..

كُلُّنَا ذَاكَ الوَطَـنُ، ذَاكَ الجُرْحُ وَذَاكَ التَّشَرْذُمُ الذِي حَرَّكَ بِعُنْفٍ، هُدُوءَ وَسَكِينَةَ الوَطَنِ العَـرَبِيِّ، وَحَاوَلَ التَّمثيل بِخَارِطَتِهِ ووحْدَتِه أيَّما تَمْثِيلٍ..

وأنت كقارئٍ، تتناولُ المجمُوعة هذه، تستشعـرُ صقيع الاغتراب داخل الذَّات السَّاردة، التي تعكسُ، بكُلِّ جماليَّة اللغة السَّرديَّة ومُرُونتها، التي وظَّفها الكاتبُ بمهارته ودربته في الكتابة السَّرديَّة، المُعاناةُ التي يتخبَّطُ فيها المُجتمعُ منْ هواجس و فُرقةٍ وقلقٍ..

وفي ظـلِّ هيمنة الأدب المُبْتذل تُعـدُّ مجْمُوعةُ (شواطئ الغُربة) قفزةً نوعيَّةً في عالم القصَّة القصيرة، التي تعتمدُ على بُنْية الدلالة بين المنطُوق وغير المنطُوق.. الذي يستشفُّهُ ذكاءُ القــارئ منْ خلفيَّات النُّصُوصِ..

* “سيكولوجيَّةُ” النُّصُوص في (شـواطئ الغُـربة):

وبما أنَّ القصَّة القصيرة هي جنسٌ أدبيٌّ يَعِيشُ حركة التَّطوُّر والبَحْثِ عَنْ أساليب غَيْرُ مَعْهُودَةٍ وفنِّيَّات كتابةٍ بنوعٍ من التَّكثيف قد يضعُها في خانة رواية بأحداثٍ وشُخُوصٍ وزمكنةٍ تسيرُ وِفْقَ نَهْجٍ مُعيَّنٍ، مُتسم باقتضابٍ يحدُّ من الوصف المُطلق للأحداث والشُّخُوص والزَّمان والمكان، الذي هُو في الرِّواية،  ليُحْكم قبضتهُ على  كُلِّ هذه المُكوِّنات، ويُقلِّصُها في حدثٍ واحدٍ، وموضُوعٍ واحدٍ في القصَّة القصيرة، فجاءت القصصُ في مجمُوعة “شواطئ الغُـربة” تلبيةً لانعتاق الذَّات السَّـاردة التي تسْكُنُ الكاتب للتَّخلُّص منْ أحْمَالٍ تنُوءُ بِهَا.. وَلَعَلَّ نَصَّ: “لعْنَة الكَلِمَاتِ” أَوْجَزَ المُعَانَاةَ التِي كَانَ ينُوءُ بحَمْلِهَا الوَطَنُ، فِي هَيْمَنَةِ حُقْبةٍ سياسيَّةٍ مُعيَّنةٍ، يُمْنَعُ فيها التَّعْبيرُ عن الرَّأيِّ بحُـرِّيَّةٍ، كما كان شَأْنُ باقي الأوطان العربيَّة، في تاريخٍ منْ تاريخها، تُجرِّمُ حُرِّيَّةُ التَّعْبير.. وقد أوْدَى النَّصُّ بِشَخَصْيَّتِهِ المُتَمَرِّدَةِ، التِي حَاوَلَت مُجَرَّدَ التَّفْكِيرِ فِي التَّغْيير إلى الإعدام، وهي أقسى العُقُوبات الكَوْنِيَّةِ..

القاص خالد السحاتي
القاص خالد السحاتي

النَّصُّ الذي اختار لَهُ الكَاتِبُ عُنْوَانَ: “لعنة الكلمات”، والذي كُتِبَ سنة 2009م، والذي سبقت كتابتُهُ اندلاع ما يُسمَّى بالرَّبيع العـربيِّ، بسنةٍ أو سنتين، كان بمثابة نظرةٍ استشرافيَّةٍ لأحداثٍ تحقَّقت بعد ذلك، وتخميناً صائباً من الكاتب لامتلاكه رُؤيةً عميقةً وبصيرةً مُدْرِكَةً للسِّيناريُوهات المُتقلِّبة، والتي ضمَّنها نُصُوصهُ بهدف تشارُك رُؤاهُ مع المُتلقِّي، وتوثيق الأزمة  وما  ترتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ كُسُورٍ إنسانيَّةٍ ثُمَّ اقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ وغـيرهـــا.

أمَّا في نصِّ “شواطئ الغُربة”: صوغٌ شاعريٌّ جميلٌ: “هربت الحُرُوفُ والكلماتُ والأرقامُ من النَّافذة”، ولك كقارئٍ أنْ تتصوَّر ذلك بكُلِّ جماليَّةٍ، وفنِّيَّة التصوُّر والمُشاركة في بناء الحدث..

وفي “ضجيج الصَّمْتِ” هذا البوَّابةُ التِي هِيَ في حدِّ ذاتها نصٌّ مُستقلٌّ بذاته، بمُحسِّناته البلاغيَّة، وقُدْرته على اختزال المشهد الدَّراميِّ للحدث، حيثُ نعيشُ مع الكاتب دوَّامة حياةٍ، في رحلةٍ مُمتدَّةٍ بين الصَّمْتِ والسَّراب، قوامُها الضَّجيجُ والصُّراخُ، وحلقةٌ من مُعاناةٍ لا مُتناهيةٍ.

وفي نصِّ “انتظار”: استهلالُ الكاتب نصّه بكلمة (القمر) يمنحُ القارئ اطمئناناً حالماً، تُضْفِي عليه كلماتُ “الحديقة” و”الليل” شيئاً من الرُّومانسيَّة السَّاحرة، ليصدمنا بنهايةٍ غَيْرَ مُتوقَّعةٍ، كُلُّها يأسٌ وقُنُوطٌ.. بحنكةٍ ومهارةٍ بليغين..

في نصِّ “ندم”: استثمارٌ تصويريٌّ لكُلِّ هذا الشَّتات والبُؤس داخل الوطن، الذي تكالبت عليه قوى الظُّلْم؛ كي تُضْعِفهُ.. الوطنُ الكبيرُ الذي يعيشُ نزاعاتٍ قاسيةٍ، ومخاضاتٍ غاشمةٍ تُهيمنُ على حواف السَّلام.. حيثُ الكلمةُ الأخيرة للدَّبَّابة تُمزِّقُ جسد الحُرِّيَّة والوحدة، وتُغْـرِقُهُ في بُؤرٍ من التَّفرقة والتَّشـرذُم..

لكن بعد كُلِّ هذه المُعطيات القاتمة للذَّات السَّاردة التي اعتمدها الكاتبُ بإتقانِ، يُلقي بنا في غُضُون المُجتمع خارج الذَّات هذه المرَّة، في نصِّ “أقنعة”، ليعْبُر بنا على صُورةٍ قدْ تتكرَّرُ في مُجتمعاتنا العربيَّة، حين تغيبُ العفَّةُ، ويسُـودُ الانتقـامُ..

* الشَّاعـريَّةُ في مجمُوعة (شـواطئ الغُـربة):

وأنا أُمْعِنُ القراءة في المجمُوعة التي بين أيدينا “شواطئُ الغُـربة”، تَبَادَرَ إِلَيَّ  قَوْلُ أَحَدِ النُّقَّادِ الغَرْبيينَ: “كُـلُّ قصيدةٍ هي في بَعْضِ الدَّرَجَاتِ قِصَّةٌ”. ويقُولُ جان إيف تادييه واصفاً أسلُوبَ هذا الصِّنْفِ من القصَّة: “إنَّ المَرْءَ لا يُدْرِكُ أنَّ قصَّةً من القِصَصِ تُوسَمُ بميسم الشِّعْرِ إلاَّ إِذَا انْطلق من دراسة اللُّغَةِ، فَلاَ مفهُومُ الشَّخْصيَّاتِ، ولا مفهُومُ الزَّمان والمَكَانِ، ولا مفهُومُ بُنْيَةِ القِصَةِ تُعَدُّ شُرُوطاً كَافِيَةً لِذَلِكَ، أمَّا التَّكْثِيفُ والإِيقَاعُ والمُوسيقى والصُّوَر فَلاَ تَغِيبُ أَبَداً.. فَهِيَ تَصِلُ إلى حدِّ خَلْقِ انْطباعٍ بَأَنَّكَ تُقْبِلُ على هذه القصص وكأنَّمَا تقرأُ قصائد نثريَّةً طويلةً”.

 يكتُبُ لنا القاصُّ خالد السحاتي نُصُوصاً هي لوحاتٌ مُتلاحقةٌ، مُتخلِّصاً فيها منْ كُلِّ حَشْوٍ سرديٍّ، بتكثيفٍ زاد النُّصُوصَ اتِّساعـاً في الرُّؤية والتَّصـوُّر.

ووصَفْتُ البُنية على أنَّها “دلاليَّةٌ” لأنَّهَا تُعبِّرُ عنْ حُقبةٍ غيَّرتْ مصائر شُعُوبٍ وسياساتٍ لا يُدْركُها إلاَّ منْ خبر الأحداث، إمَّا عاشها، أو قَـرَأَ عَنْهَا، وهذا لا يحتاجُ المنطُوقُ منها ليقبض عَلَيْهَا.. وإمَّا دلالاتٌ منطُوقةٌ في سياق الفكرة أو في عناصر أُخْرَى تتطلَّبُ التَّأمُّل والانصهار لِتَصِلَ إلى ذروتِهَــا..

ولعلَّ أحداث الثوَّرات الرَّبيعيَّة المُضْطرمة في بداية القرن الواحد والعشرين، والتي باءت في العديد من الدُّول بالفشل، هي السَّبَبُ الرَّئيسيُّ في هذه المُعاناة، التي تحوَّلت انطلاقتها منْ فَرْحَةٍ عَارِمَةٍ وَأَمَلٍ في التَّخلُّص من كابُوس الماضي، والانتقال إلى مرحلةٍ كُلُّها استقرارٌ وحُرِّيَّةٌ وأمانٌ، إلى شرذمةٍ، وانقسامٍ، وحُرُوبٍ، ومآسٍ تتخبَّطُ فيها هذه الشُّعُوبُ، وتعيشُ شرَّ ما كانت تتوقَّعُ، ولعلَّ ليبيا موطنُ كاتبنا، واليمنُ والشَّامُ ودُولٌ أُخْرَى، أنْكى ما ترتب على تلك الأحداث من تشظٍّ مُنهِكٍ، فكان لهذه المُؤثِّرات المُباشرة أو غير المُباشرة عميقُ الأثر في ديباجة الكتابة الأدبيَّة عامَّةً والسَّرديَّةً خاصَّةً..

وختاماً، أقتبسُ لبلد المُختار بيتاً منْ قصيدتي “بنُو العرب”، تماهياً مع إهداء القاصِّ الدكتور خالد السحاتي (إلى بلده ليبيا: أرض البطولات والأمجاد)، الذي افتتح به مجمُوعـته الجميلة:

نســـــورٌ ضـــــوارٍ تُخِيفُ البُغـــــاثَ & تُثِيرُ الصَّلِيـــلَ بِسَيْفٍ وغِـمْـــــــــــــد…

مقالات ذات علاقة

الأبعاد الثقافية للنسق الرمزي وتركيب المعنى في نص إبراهيم الكوني

المشرف العام

عبدالله القويرى.. سيرة صاحب الكلمة

أحمد الفيتوري

قراءة نقدية في قصة العجوزان للقاص المبدع: محمد المسلاتي

إبتسام صفر

اترك تعليق