من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

قصة مقطوعة الرأس

 Mohammad_Esharif (4)

يوم عطلته حاول أن يتأخر في الخروج من الفراش،لكن ضجيج الأولاد جعل ضغط دمه يرتفع ـ تمطى وتثاءب وقفز في الهواء، تجاهل زوجته التي حاولت بحركة من ساقها أن تعيده،دخل الحمام ـ مرت يده على جبينه ـ تعثرت ـ فتح صندوق اشيائه اليومية ـ فكر لو يعود إلي النوم ثانية ـ أطبق على الشفرة فكي الآلة الصغيرة بقوة ـ منذ سنوات وهو ينوي استبدالها بموسى حلاقة،يحس عندما يضع الشفرة بين القطعتين المعدنيتين كان مقصلة تطبق على عنقه،لم يجد الفرشاة،لم يسأل،عثر عليها بصندوق النفايات،تسارعت دقات قلبه،بلل وجهه بالصابون،أحس ببعض الانتعاش،ألغى تنظيف أسنانه،وجد الفرشاة مقسمة إلى ثلاث قطع،تساءل لماذا تزوجت ؟ أحس بدبيب،التفت،طفلته الصغرى ترنو إليه بعين واحدة،أخفت بقية وججها خلف الجدار،تمنى لو يبتسم،لكن الذي حدث أنه رماها بقطعة الصابون،أختفت كفرخ أرنب بري،احتقر نفسه،دفع الباب بقدمه،أحس بكرات الدم الحمراء تنفجر،خرج،في المطبخ كعادتها دائماً تركت له كوب الحليب على الرخامة،دفعه بحلقه،اشعل سيجارة،آمتص دخانها بشراهة،عاد إلى حجرته،المشط وفرشاة الشعر والبنطلون والقميص والجاكتة وربطة العنق والجورب والحذاء بالترتيب،تمنى لو تقوم زوجته بتلميع حذائه،سيتيح له هذا رؤيتها تركع تحت قدميه،سيفكر حينذاك في لمس كتلة الشعر الغزيرة المتدلية أبداً على الجبين،ستنزلق يده على خدها،ستحس هي برعشة،تضغط خذها على كف يده،يرفع الدقن الصغير إليه، يضمه بين أصابعه،يضغط عليه،يصنع من شفتيها حبة كرز،ستمد عنقها،تستسلم العينيان،تنفذ إليه رائحة النهدين،يقبلها أول الأمر برقة،يتذوق،ثم يلتهم حبة الكزر دفعة واحدة،ينقلب على السرير تتبعه،اللعنة على تلك الأفلام الملونة.تطلع نحو الحجرة الأخرى، عادت إلي النوم ثانية،لو تواصل نومها،سيحاول أن يبتسم في وجه جاره.التقط مفتاح السيارة،نفس الطريق ـ محمود ثم سالم ـ ثم منصور ـ ثم الهادي ومفتاح بالترتيب أيضاً ـ قبل أن يختفي عاد ـ (تبيش حاجة) ؟ هو يعرف الجواب ويتوقعه،ومع ذلك عليه أن يردده كلما أشرقت الشمس ( ما فيش حاجة ) للمرة الآلف تساءل ..لماذا تزوجت ؟ سينظر في مؤشر البنزين قبل أن يدفع بالمفتاح وسيلعن جاره والظروف،انتظر دقائق قبل أن ينبعث الدفء في المحرك،تمنى مرة لو يشتري دراجة ثلاثية العجلات .

توقف أمام كشك الصحف،رمى بها على المقعد المجاور..عناوينها دائماً شاحبة وغريبة .

…………………………………………………………….

خطب الزعماء العرب تطبع على اسطوانات وتوزع مجاناً

…………………………………………………………….

أطفا المحرك ـ مغرم بقراءة مثل هذه العناوين . دفع بالسيارة في الطريق الذي بدا مزدحماً لأول مرة ـ عندما وقف أمام السوق نسي أغلب الأشياء سيعود إلى البيت ويقتل الملل بمعركة دموية،فكر لو كنت ذلك الجندي الذي حلق بطائرته فوق هيروشيما منذ ربع قرن … يقولون : إن البيضة بخمسة قروش ـ غدا يصبح رأس الإنسان بقرش واحد.إختار ركناً قصياً بالمقهى ـ أشعل السيجارة العاشرة ـ هناك في الركن المقابل ـ الوجه في لون الطريق ـ العينان ذبابتان تلتصقان بالوجوه ـ اليدان قطعتا خشب مطوبتان ـ الجو مغبق برائحة سجن قديم . تذكر جاليليو .

شفتاك تتحركان ماذا قلت ؟

لا شيء ـ قلت : أن المصائب لا تأتي فراداً

ماذا تعني ؟

أعني أنها تأتي مثل قبضة الملاكم ؟

عامل المقهى يقف بعيداً ، أقترب . هل طلبت شياً أخر ؟

أفكر فقط ـ ملامحه تغري بالحديث لكن له اذنان تحتويان دبيب النمل .

نهض ـ شعر بتقلص في بطنه ـ فك ازرار بنطلونه ـ تبول على أرضية المقهى … تذكر متحف الشمع … قرر أن يمارس رياضة المشي ـ ترك السيارة بمنتصف الطريق . ابتسم له شرطي المرور ، لن يذوب الجليد. لم يكن واقعياً ذلك الكاتب الذي اذاب الجليد في ألف صفحة ـ تساءل لماذا يقف الناس عند الإشارة الحمراء ويمرون عند الإشارة الخضراء بينما يتاهبون عند الإشارة الصفراء ؟ توقف عندما أصبح البحر ملء وجهه ـ رأى فيلادلفيا ـ ويوسف باشا ـ انتفض ، هل سيعود يخفى السلاح بين طيات الكتاب ؟ فاضت عيناه بدموع القهر .

دقت ساعة الميدان ـ دقة واحدة بعد المائة ـ تذكر موعده .

وجد نفسه يواجه بوابة حديدية ضخمة تذكر ما قراه عن الباستيل ـ رسم صليباً معقوفاً عليها . قبل أن يخفق قلبه خفقة أخرى ـ تلقى ضربة على رأسه غاب بعدها عن الوعي .

واجه مئات العيون ، اكتشف أنه معلق من قدميه ـ أحس وكان قذيفة تمزقه ، تداخلت الألون في عينيه.عندما أفاق اكتشف أنه وسط الميدان الكبير ـ مطروحاً على بطنه ـ نهض ـ ليس من إنسان هناك ـ استطلع الأزقة والشوارع . دخان كثيف يكاد يخنقه انطفات مصابيح الميدان . كان يداً أطفاتها دفعة واحدة .

أندفع يجري على غير هدى ـ توقف ـ خيل إليه أنه يسمع خطوات أخرى غير خطواته ـ ثقيلة ـ احتمى باحدى الزوايا ـ اقتربت الخطوات ـ اهتزت الأرض تحت قدميه كأنه جرار يسحق الطريق ـ انطلقت رصاصة ـ أقدام ثقيلة تملأ المكان ـ تهاوت أعمدة النور .

_________________________________

من المجموعة القصصية ” الأقدام العارية ” صدرت سنة 1976

مقالات ذات علاقة

مَن يعدل ميلها؟

عبدالرحمن جماعة

قلماي ولعنة الكوندودي

المشرف العام

عودك رنان

هدى القرقني

اترك تعليق