النقد

قراءة في أشعار السوسي الإنسانية

 

( كما أن الخيال يجسِّم صورةَ الأشياءِ غيرِ المعروفةِ فإنَّ يراعَ الشاعرِ يحيلُهَا إلى أشكالٍ ، ويمنحُ الأشياءَ الشفيفةَ حيَّزاً محدوداً ويحملُ لها أسماءَ ) ـ شكسبير.

الشاعرُ المرحوم حسن السوسي لا يُقرأَ وإنما يُعَاشُ فيما يكتبُ ؛ فلغتُهُ الشعريَّةُ مصفَّاةٌ ومركَّزةٌ ، وقصائدُهُ في غايَةِ الجودةِ .. فهي شديدةُ الحساسيَّةِ والرقَّةِ والالتزامِ ، أيضاً شديدةُ الشفافيَّةِ ، فصورُهُ وأخيلَتُهُ الشعريَّةُ المنتقاةُ بذكاءِ الحاذقِ ، وكلماتُهُ التي اعتنقَتِ الحبَّ .. حبَّ الناسِ ، وحبَّ الوطنِ ، حبَّ الجمال وحبَّ الحياةِ ، وحبَّ المرأةِ ، والأصدقاءِ ، فكلماتُهُ ـ دائماً ـ تسحرُ القلبَ وتربكُ نبضاتِهِ.

لقد عاشَ السوسي بالحبِّ .. يترصَّدُهُ ويبتغيهِ ؛ كما وصفه الشاعرُ جمعه الفاخري في دراسته النقدية حوله وحملت عنوان : ( السوسي قلب العاشق المدمن ) في مجلة الجليس ، العدد ( الخامس  ) قال عنه 🙁 إنه يصحو عاشقاً .. ينفضُ قلبَهُ ..يتنفَّسُ حباً عميقاً ليطمئنَّ أنه لا يزالُ على قيدِ الحبَّ ..قيدِ الحيَاةِ الجميلةِ ..قبلَ أن يمضيَ أنيقاً متعطَّراً مترصدَّاً حباً جديداً ..متربَّصاً بمعانٍ عصَّيةٍ  متحيِّناً القصائد الفارهة المليئة .. يمدَّ لها قلباً مملوءاً بالنورِ ليسقطها في شغافِهَ ، لإنتاجَها ولهاً ودهشة).

 وبما أنه أزهرياً فتوجُّهُهُ الشعريُّ صوفيٌّ ملتزمٌ ؛ إلاَّ أنَّ روحَهُ ووجدانَهُ وكلماتِهِ تفيضُ بالحبِّ تنهلُ من معينِ الحبِّ الذي لا ينضبُ ، فقد تركَ في معاصريه وصغارِ المثقفينَ الذين افتتنوا بشعرهِ  أثراً بالغاً ، فكانَ لشعرِهِ وقصائدِهِ كما الحدائقُ ملأَت كلَّ القلوبِ المتعبةِ بعطرٍ فوَّاحٍ ، شذا ه الشعري العاطرِ ملحمةٌ أسطوريَّةٌ من الحبِّ والجمالِ والدفءِ والتعابيرِ العميقةِ ، والألقِ الوجدانيِّ ، ولعل الكاتبة تهاني دربى لم تخطئ حين نعتته بـ ( شيخ الشباب ) في مقالها (اختفاء الصدى) المنشور في مجلة الفصول الأربعة ، عدد 64 ،65 سنة 93 م . في الملف الخاص بـ (شاعر الغزل الخجول) وهو شاعرنا الراحل الكبير ، حين قالت: ( إنَّ قلبَهُ مازال شاباً في الوقت الذي يتوقع أن يكون فيه هرماً لا يحق له أن يغزو أحلامهن الورديَّة ، وهو صاحب هذا الشعر الوردي الذي يظهره شاباً يافعاً قادراً على تحقيق أحلامهن ).

فقد أتقن الصناعة الشعرية الرومانسية بجدارة ، وأهتم بأحكام اللفظ والمعنى والموسيقى ، مستغلاً براعته الفنية لإيضاح أسمى اللحظات الإنسانية الرائعة ، فقد سجَّل لنا الأحاسيس والمشاعر ببراعة مرموقة ومميزه  .. ومما تجدر الإشارة إليه كذلك ، أن تصويره كان واقعياً تماماً في معظم أشعاره ، ولقد اعتنى بالمعنى ، مستخدماً عبقريته الفذَّة في تصوير الجمال البهي فطار على جناح الرومانسيَّة بكلماتٍ فريدةٍ في غاية الروعة ، فهو شاعر متقنٌ للغةِ الشعرِ ، ولغةُ الكتابةِ والتعبيرِ ، وهو حرفيٌّ ماهرٌ ، أدار شعرَهُ حولَ شتى مظاهرِ الجمالِ والحبِّ والحياةِ والوطنِ فأبدع في وصفها جميعها ، فصوَّره الشعرية تكتنفها آمالٍ وأحلامٍ تُبرزُ جلياً إنساناً حسَّاساً معتزاً بأصلِهِ ، متشبِّثاً بتقاليدِهِ وعقائدِه الدينيَّةِ .

-إحساسه العالي بالجمال ، ولغته الثريَّة التي طوَّعها بتصرف أخيلته فطاقته الإبداعية المقتدرة تخلق تكويناته الإبداعية الجمالية .. ترسم لنا توهج الفرح وعند قراءه أو سماع قصائده تحلم باكتشاف الجمال و الدهشة للشاعر أسطوري فقد أشعل النار في جليد القلوب ، وتغنَّى للطفل وبالرغيف والربيع ، بل ولكوكب الشرق أم كثلوم ، فشاعرُنا الكبير أتحفَنَا بآلاف الصورِ والجملِ والكلماتِ المنتقاةِ بذكاءٍ وحنكةٍ ، فهو شاعرٌ مرهفُ الحسِّ يتفيَّأُ غابةَ مشاعرٍ وارفةً ، شاعرٌ مزجَ الشعرَ بذاتِهِ فكانَ منَ القلائلِ الذين استطاعوا بحكمة أن يجعلوا منَ الشعرِ منارةً مضيئةً في سماءِ الشعرِ والشعراء ،  لغته قادرة على جذب الوجدان ، فهي تنطقُ بالحنانِ ،  والحب .

والسوسي خصبُ الإنتاجِ الأدبيِّ الجميلِ ، رائعُ الأسلوبِ والأدوات ، وقد وفَّقَ عبر مسيرته الشعريَّة الطويلة الحافلة بالعطاء الشعريِّ الغزير توفيقاً يدعو للإعجابِ والدهشةِ ، ففي شعره الكثير المثير حرارةُ تعبيرٍ ، وصدقٌ في المشاعرِ ، وأحلامهُ المجنَّحةُ الشفَّافة المرهفة تمنحه تأشيرةَ دخولٍ إلى كلِّ القلوبِ العاشقةِ للجمالِ .. المنفعلة به وله ..

أسلوبه الواضح والبسيط الخالي من الطلاسم والعقد ،  والعمق في المعاني ، والانفعال بالموضوعات ، والفصاحة والبلاغة والتعابير والصور العذبة في الموسيقى الرنانة .

فمثلاًَ:  في نص (ابنتي ) داخل النص مفاتيح مغاليق جمال هذا النص الإنساني له إيقاع الوعي واللاوعي في عظماته حيث يشدك ويجعلك أو بمعنى آخر يجعل القاري أو المستمع إليه تسكنه قوه خفية تبهره في حرف النداء المكرر في الشطر الأول ( يا دُميتي _ ثم يا بسمة العمر _ ثم  يا نشوةَ ) .

يا دُميتي ، يا بسمة العمرِ      يا نشوة الإحساسِ ، والفكر

في هذا البيت أجاد السوسي انتقاء هذه الصورة التي تضئ لنا أبعاد ومفاصل النص ، بدءً من التقاط اللحظة الرائعة للطفولة إلى ابتسامة العمر ، إلى المشاعر في تناسق جميل ، ونغم عذب .. هذه الصورة الجميلة للطفولة جعلنا الشاعر نعانق فيها طفولتنا التي أسند إليها الشاعر ( الدمية) ، ومن خلالها ندرك فيض الحنان لدى الشاعر ، وعطفه وشدَّة حساسيَّته ، وأيضاً رقة قلبه ، تدل على تمكِّن الشاعر من أداوته الشعرية  واللغوية لتحملنا إلى آفاق أكثر عطفاً وصدقا ، ونبلاً ،

وأما في البيت التالي : فقد كان عنصر  التكرار هاماً للغوص في الأعماق ، مع المحافظة على الهدوء اللازم للتصوير التعبيري مع استخدام النماذج الطبيعية النداء (  يا زهرتي ) له أثره في ذلك العمق فينا .

كل هذه الخصائص ساعدت على إظهار جمال الكلمات بمعانيها واتفان نسجها وترتيبها بكل تفاصليها المنوعة ..

لها أثرها في التوجيه الفني الشعري لرسم تلك المشاعر الأبوية الساكنة فيه وفينا ، ولتستشفَّ فيه حسَّهُ المرهفَ الذي لازمه في كلماته المنسجمة والمترابطة في نسق الكلم والصور:

يا زهرة ، ملأتْ مَحَاسُنَها  عَيني ، وأنعشَ طيبُهَا صَدْري

هنا تنفذ كلماته إلى صميم المتلقي لتهز أعماقة في هدوءٍ ورفقٍ يستنطق الإلهام والإحساسَّ الداخليَّ المستكنَّ في أعماق كل الآباء؛  فنقاء هذه الصورة ، وعذوبة وسلاسة المعنى وعمقه تدخلك  فضاءات عالم من البساطة والجمال زاخراً بالمعاني الراقية ، ثم يصف ابنته بالجمال حيث يقول:

للهِ ، ما أحلاَك ، عابثَةً   لا تَعْبئين َ، بكلَِّ ما يَجْرِي

كَفَراشةِ البُسْتَانِ حَائِمَةٌ     في الحقلِ ، من زهرٍ إلى زهرِ

تَثبينَ مِنْ كَتفي إلى صَدري    أو تسكنِينَ هُنَاكَ  في حِجْرِي

فالرؤيا لدى الشاعرِ رؤى أبوية في أن يتمنَّى أن يرى ابنتَهُ كبيرةً فهي حبيبة عمره ، كما يصفها في البيت التالي:

فَمَتَى أراكِ ،حَبيبةَ الْعُمْرِ      تثِبين مِنْ خمسٍ إلى عشرِ

صوتُهُ الشعريُّ الرصينُ ـ غالباً ـ ما يكونُ أقربَ إلى التصوَّفِ ، محافظٌ على القيم التراثية ، وهذه المحافظة لا تتنافي مع الحاجة إلي الإحساس بالانتماء الإنساني ، وقصائده لم تخلُ من الحماسة له في أشعاره ، ودائماً يستحضر مشاعره الإنسانية ، ويستنفر همته العاطفية من خلال استدعاء ماضيه الزاهر لإسقاطه على حاضرِهِ .

كما يظهر اهتمامه بالمرأة بشكل كبير ، فهي تتبُّوأ في شعره مكانة خاصة جداً ، فلا عجب إذن أن نرى إمكانية رسم معالم شخصيته وتكوينه من خلال مشاعرهِ ورهيف عواطفه وأحاسيسه ، كما أن أفق خياله الذي يفيض بالسحر والروعة والجمال الذي فيملأنا بالدهشة والانبهار بما يتخللها من مضمون وموسيقى ، وبمَّ أن الاتجاه الرومانسي الذي عكس سيكولوجيته ووجدانيته .

ويبدو أن الصلات العميقة والقوية الحميمة يسودها الود والتجارب الإنسانية يستشف عواطفه القوية التي تحرك خياله فيعبر عنها بصدق .. والصدق دائماً هو أهم سلوك يعكس القيم الإنسانية الحقيقة لأي أدب فهو يرفع من قدر الشعر ، ومن الذوق المعاصر .

حسن السوسي شاعر أسلوبه مستقيم واضح لا اعوجاج فيه ، عواطفه الإنسانية الجيَّاشة يدركها أو يحس صدقها كل الناس  ، يقول عنه الدكتور عبد الجواد عباس في دراسته بمجلة الفصول الأربعة حملت عنوان ” قراءات في الحب من ديوان الفراشة ” ص180 ( إن اتجاه شاعرنا للحب هو اتجاه طبيعي ، وإحساس إنساني نبيل بأن يعيش الحب شاباً في أعماقه ، وإن الكهولة المزعومة ليست السبب في عدم تعاطيه الحب ، وإنما السبب عقائدياً محضاً فسواءً أكان صاحب الحب فقيهاً أو متديناً أو  ورعاً أو داعراً فاجراً فهو إذا مس قلباً صرعه وأذله ).

 لقد كنتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمَّةٍ        إذا شئْتُ لمساً للثريا لمستُهَا

أتتني سهامٌ من لحاظٍ فأرشقَتْ     بقلبي، ولو أستطيع رداً رددتُهَا .

ولعلَّ الشاعر يبسِّط عوالمه الشعرية بمفردات يتخيَّرها ، ويفتح مكامن أسرارها رهفٌ وعمق التجربة ، ولأنه متجدِّد دائماً ، كما ورد في دراسة عنه للشاعر علي الخرم نشرت بمجلة الفصول الأربعة في نفس العدد ص 184 بعنوان ” إضاءات حول الشاعر حسن السوسي وقصصه الشعرية ” بأن الشاعر لا تتسرَّب الرتابة إلى عالمه لأنه يجدد دائماً ما يستثير الدهشة ، ولأنه يلمح دائماً ما يدل على أن قدراً من براءة الحياة قد استعصى عن الاندثار ، وفي هذه الخلفية نستطيع أن نتذوَّق عذوبة ورقة الحب الإنساني في شعره وأن المرأة التي تلوح من بعيد وليست المرأة التي تجلس قريباً منها بحيث تشعر حرارة أنفاسها المرأة عنده مثل إله وثني لا يمس وهذا توجه صوفي.

خلاصة القول إن الشعر عند السوسي طبيعي يتمثل الإنسانية ، وثمة صور رائعة في عذوبتها ووصفها وأيضاً في دلالتها وفي تناسق وتماسك بنيانها وفي جمالياتها “

 ولعل هذا سرّ ما نراه في شعره من سمو العواطف وحبٍّ للحياة والفرح ..شعره واضح توهب له القدرة علي رؤية الأشياء الجميلة فيطرب لها طرباً يحملنا أو بمعنى آخر يجبرنا على التغنِّي بالحب وبالجمال والحياة

____________________

المراجع:

– مجلة الجليس العدد الخامس سنه

– مجلة الفصول الأربعة العدد64-65 سنه 93م

– أعتذر وللأسف الشديد لم أجد له أي دراسة أدبية بالجامعة عمر المختار .

مقالات ذات علاقة

دراسة لبعض جماليات القصة القصيرة.. قصة الكاغط محمد النعاس أنموذجا [1]

عبدالحكيم المالكي

رواية عن مأساة الزّنوج في بنغازي العهدين العثمانيّ والإيطاليّ

المشرف العام

بين العامية والفصحى وتداخل الأجناس الأدبية (أفاطِمَ مَهْلاً) قصة أم رواية؟

المشرف العام

2 تعليقات

محمد 23 أغسطس, 2013 at 15:57

اشكرك اختي على هذه الوقفات الطيبة لشاعر لطالما تردد صداه في ربوع الوطن الحبيب .. ومزيد من التقدم لك في دراسات قادمة

رد
محمد 23 أغسطس, 2013 at 16:00

اتمنى التواصل معك اختي وتصلني كتاباتك وبخاصة الشعر الشعراء الليبيبن

رد

اترك تعليق