قصة

فخامة الفراغ


زرت بيت عمتي بعد الظهيرة للاطمئنان عن صحتها، جلبت معي جهاز قياس ضغط الدم لأقيس ضغطها كما في كل زيارة أقوم بها لأحد أرحامي، كانت العمة قد ذهبت لموعد ضربته مع طبيب آخر من خارج العائلة، ستظل تشكو له وتئن أمامه حتى يتحول شخصاً من العائلة دون أن تبرأ هي من ذلك الوجع الغامض في بدنها الذي يبادل مابين مواضعه ويتنكر كل مرة في شكل.

وجدت زوجها وأولادها في البيت، الأولاد يؤدون فروضهم المدرسية بينما زوجها العقيد المتقاعد يشاهد التلفزيون(تذاع فيه أغنية وطنية جديدة لنانسي عجرم عن الشخابيط) وقد عدل عن ذلك عند مجيء طالباًً مني تحرير رسالة للقائد العام للقوات المسلحة المؤقتة، كما لو أن الأغنية أثارت حفيظة وطنية لديه أوشكت على الفتور بالتقاعد.

قال مبيناً دوافعه لأن أكتب له أنا الخطاب الأكثر أهمية في حياته، بأن الخط الواضح يزيد الحق وضوحاً وأنا خطي جيد وصياغاتي اللغوية جميلة، كأنما لم يرد الاعتراف بالضعف الذي يعانيه أبناءه في القراءة والكتابة وعززته على الدوام نتائجهم الدراسية.

لكن فيما قاله العقيد المتقاعد عن خطي إنصاف لمثابرة مستترة انتهت بي لكلية الطب، وأن هذا الخط الحسن الذي قيل بأنه يزيد الحق وضوحاً، ليس سوى حصيلة أعوام من الكتابة والقراءة أفنيت خلالها الآلاف من الأقلام والأوراق التي كان يشتريها أبي لي ولأخوتي، وعلى الرغم من أن أبانا لم يكن موظفاً ميسوراً إلا أنّه مكننا من التعليم باقتعاده أرصفة المدينة العريقة واعتراض المارة بمبيعاته المعترف بها من قبل غرفتنا التجارية بأنها لبساطتها ليست بحاجة لمحل أو دكان.

استجبت لطلب زوج عمتي فوضعت حقيبتي وجهاز الضغط جانباً وقمت أحرر الرسالة عن مسودة مكتوبة سلفاً، كانت ركيكة للغاية ويغلب على مفرداتها التسول والترجي وتبين صياغتها بأن العقيد المتقاعد يصر على أن تقوم الدولة بتكريمه ومنحه قطعة أرض وسيارة ومزرعة إجلالاً لخدماته التي قدمها طيلة 33 عاماً للجيش منذ قيام الثورة المجيدة، وكأنه جاسوس لا جندي برتبة عقيد.

بت اكتب وهو يتحدث عن انجازاته بحنق بينما كبرى بناته تقدم له بين الغضبة والأخرى كوباً من الماء البارد ناصحة إياه بتجنب الإصابة بضغط الدم أو السكري وهي من أمراض العائلة الوراثية.

هذه دولة للحقراء فقط، من كان بلا أخلاق تحصل على حاجاته ومن كان مثلك عصامياً مات في الظل.

هونت عبارات الابنة قليلاًً عن أبيها وإن تضمنت شيئاً عن موته، فشد عظمة في ساقه وطواها تحت عظمة الساق الأخرى المشابهة لها، وبدا أنه تأثر بعصاميته فخفف عني الأمر بكتابة كذا وكتابة كذا من رغباته وطلباته المرجوة.

كتبتي لم تعطوني شيء بعد الحرب؟
كتبت.
قولي له يا فخامة القائد العام أنا لم أتحصل منكم على شيء مثلي مثل زملائي الضباط الذين كرمتموهم بالأوسمة والمنح فأعطيتموهم مزارع وسيارات وقطع أراضي ومكافآت حج وعمرة تجاريين.
لحظة فقط ياحاج، كتبت ذلك في صفحة 5 عندما حدثت القائد العام عن أراضي معسكر الدروع سابقا ومعسكر الصواريخ لاحقاً.
إذن اكتب له حول معسكر الفتح الذي تقاسمه الضباط الكبار وباعوه لجماعة من سراق الجمارك، قولي له انظر فلن تصدق عينيك لقد تحول إلى حي من أحياء أمريكا في الشرق الأوسط، رغم أن اسمه مازال شرق أوسطياً اكتبِ بين قوسين(حي اللصوص)
ها…. لقد كتبتها بخط النسخة.

أمال رأسه وجال بنظره في الورقة بحثاً عن اللصوص، فلما عثر عليهم وعلى حيهم حياني على الطريقة التي دونتهم بها في خطابه للقائد العام، قائلاً عنها لزوجته وبنيه:
حاحا فيهم…انكتبو بطريقة تبينهم لصوص فعلاًً…سبحانه غير زايد الخط الواضح يزيد الحق وضوحاً.

تدخلت عمتي وهي تفرز كيساً من الأدوية عادت به من طبيبها عندما شعرت بابتعاد زوجها عن الغرض الأساسي للطلب:

ياحاج شن دخل هذي في هذي احكي على حاجتك بس.
قولك هكي يا حاجة؟
ثم التفت إليَّ وهو يمسح بشعره قائلاًً في استسلام:
– اكتبي زي ما قالت عمتك.

استمرت كتابة بقية الطلب كما أرادت عمتي ساعة ونصف تقريباً، واستهلك في سبيل ذلك رزمة من الأوراق البيضاء وقلمين، الأول قلم سالم تلميذ الصف السادس الذي استعاده عند الصفحة السادسة ووضعه في الحقيبة قبل أن ينام خشيةًً أن يذهب غداً للمدرسة دون قلم، والثاني شبيه بالقلم الأول لكنه يعود لنجلاء تلميذة الصف الثالث إعدادي التي توقفت عن تكملة فروضها بإعارة قلمها لأبيها من أجل السيارة والمزرعة وأرض ذات موقع استراتيجي من معسكر الفتح يكون لهم فيها فيلا ويكون لها في الفيلا غرفة مفردة.

في طريقي نحو بيتنا وبعد انتهاء زيارة المعايدة التي تغير معناها، فكرت في فرحة العقيد المتقاعد لحظة وضع توقيعه على الطلب، كان واثقاً من القبول ومن أن الله سيتوسط له عند القائد العام ويشرح له ما بحبة قلبه من حب، فيوقع له بالموافقة الفورية التي لن تستغرق إلا عشرات السنين مابين كتابة الطلب والموافقة عليه، بالطبع بعد وساطة القوات الإلهية.

هدأت ثورة العقيد المتقاعد وسكنت نفسه بعد الانتهاء من كتابة الطلب، جلبت له ابنته كأسا مليئة لنصفها بالماء مع حبة ضغط فتجرعها صامتاً وانزوى بعيداً عن التلفزيون الذي ماعاد يبث سوى سيلاً من الخطابات لأشخاص يتدخلون يومياً في حياتنا، ومن الطريقة التي انزوى بها تستطيع إيجاد الأعذار لشخص حمل رتبة أثقلت كتفيه ولما استراح منها أجبره ماضيها الثقيل على النظر لوزارته كما لو أنها وزارة زراعة أو إسكان وليست وزارة للحربية.

وعلى الرغم من المجهود الذي بذله خطي في زيادة وضوح الحق، ذهب يقيني إلى الإيمان بأن القائد العام لأي شيء مؤقت سوف لا يلتفت إلى ذلكم الكم الهائل من الطلبات المدفوعة إليه من ضباط جيشه المتقاعد، وإلا لماذا لجأ القائد العام نفسه إلى شراء الأراضي وتحويلها إلى محال تجارية إذا كان ثمة نية حقيقية لجعل الشعب المسلح مسلح وهو قائد عام مؤقت للفكرة؟!

ربما يكون القائد العام في الساعة التي كتبت فيها الطلب نائماً في الطل أو ينتظر نضوج البلح أو يسرد عن شبيهه قائد القوات الأمريكية في العراق، ذات النكتة التي سردت عنه خلال الحرب مع الانفصاليين الصحراويين، التي احتاج غموضها لكل أنواع الأسلحة الروسية بما فيها الغواصات الحربية، آنذاك أصر القائد العام على شرائها من روسيا لدحر الجيش الصحراوي في عقر داره رغم تنويه أهل الصقيع له بألا عمل لهذه الغواصات في الصحراء، وإن كان له رجال تحقق أنهم يركبون الخطر ولا يخشون الغرق.

لقد اشترى الغواصات رغم إلمامه الديموغرافي بمنطق المنطقة… ليأكلها من ثم صدأ البحر وتتكون على ظهورها الطحالب وأوهام النخبة ويغرق الرجال بدونها في شبر من مياه المجاري، وكأنه ما اشتراها إذ اشتراها إلا لتمييز طحالب عن أخرى.

نظرت ليدي التي كتبت الطلب وهي على المقود خلال توقفي لشارة المرور، تساءلت شخصية مندسة في عقر نفسي هي التي تقوم بحماية واحترام القانون الضوئي لبلادنا، ترى كم من الأشياء ذات الأهمية قامت بفعلها هذه اليد وكانت على قناعة بها؟
لكنها على كل حال مازالت يد فعلاً قصيرة لعين حقاً بصيرة.

التفتُ إلى ناصية الرصيف الذي كان يجلس عنده أبي، فخلت أن مزق أوراق الطلب التي تتحول ولا تفنى، ليست كوراق الحمام لأنها مازلت صالحة للاستعمال من قبل مواطن إضافي أصغر شأواً في عين من يكاتبهم.

أضاءت الشارة فترحمت على روح والدي وغادرت خيالاتي عند رصيف الشارع العريق لأكثر المدائن تصبباً بالعرق.

بنغازي 3/1/2008

مقالات ذات علاقة

هروب

خالد السحاتي

عـيون الكـبريـاء

عطية الأوجلي

الاختيار

المشرف العام

اترك تعليق