المقالة

عن الأجيال والأحوال

 

الحديث عن الأجيال الجديدة والدماء الجديدة, حديث يتكرر كثيراً في مختلف الأوساط الأدبية والفنية وبالجملة الثقافية.. وما من نظرة إلى المدونات المتصلة بهذه الأجناس مجتمعة إلا وتؤكد هذه الحقيقة, وإن تكن في الأدب تبدو أكثر وضوحاً أو أننا كمعنيين بذلك نراها على هذه الصورة ونتفاعل معها كذلك أيضاً.. ولو أردنا أن نستعرض الشواهد لضاق بنا المقام, سواء يمّنا وجوهنا شطر مغرب الوطن العربي أو مشرقه, بيد أن الأمر في مصر يأتي أوضح فأوضح.. وآية ذلك أن مصر ومنذ انبعاث حركة الأحياء العربي كانت موئلاً الأقلام العربية القادرة كافة, بحيث ليس من المبالغة أبداً أن يقال إن التجديد في الأدب العربي مهمة وإن كانت مهمة قد وقعت على النخب العربية كافة إلا أن مصر امتازت على بقية الحواضر بأن وفرت لهذه النخب أسباب النجاح وعوامل الاستمرارية, وحسب المرء أن يذكر هنا أن أهم الأصوات المؤثرة في رحلة التحديث خلال القرن الماضي إنما تألقت عبر الساحة المصرية رغم أنها لم تكن مصرية المولد أبداً, مثل الشاعر “خليل مطران” والأديب “ميخائيل نعيمة” والمفكر “فرج أنطون” وغيرهم كثيرين, حتى الشاعر التونسى الخالد “أبوالقاسم الشابى” الذي كان في رحلة الشعر العربي بمثابة الومضة السريعة لم تشتهر أشعاره عربياً إلا عبر مجلة (أبو للو) المصرية. ومازال هذا الدور يجد له من يناصره ويؤمن به ويتحرك من خلاله في الوطن العربي, حيث لم تخل مصر يوماً من المبدعين العرب الذين يرون فيها مثل هذه الأهلية, رغم أن وسائل نشرها لم تعد تتسع لغير أبنائها ولم تعد أبداً تعمل على ترسيخ مثل هذا المفهوم الخالد إزاء الدور المصري.

نحن أيضاً, لم تخل حياتنا -معشر الليبيين- من هذه الإشكاليات, وقد كانت أكثر وضوحاً في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي, كما تحفظ الذاكرة وتشهد المدونة الصحفية, كذلك الحوار الذي دار حول حياتنا الاجتماعية وما كان يسودها من فراغ حيث وصفت الحياة يومئذ بأنها قاحلة ورأى آخرون أنها ليست كذلك ناهيك عن الحماس غير المبرر وغير الواعي لما اصطلح عليه بقضية المرأة والنظر إليها من زاوية أحادية, إلى جانب الهجوم القوي على المدرسة التقليدية في الشعر واعتبار رموزها مجرد تلاميذ لما كان يسود المشرق العربي من إنتاج, وأخيراً كانت الخاتمة في التيار الواقعي الاشتراكي وما نتج عنه من معالجات غير ناضجة وفي أدوات فنية كسيحة وجد فيها خصوم هذا التيار حجة عليه وليست له, ومرة أخرى لو أردنا أن نستعرض الشواهد لأعانا الحديث, وقد أقول لأتعبنا الإحراج أيضاً, على أن الحديث في هذا الشأن لا يتوقف مرة إلا ويستأنف هو الآخر, ولا سيما منذ الثمانينيات حين أخذ يطرح تحت مصطلح الرغبة في قتل الأب, تلك الحالة النفسية المعروفة في الأدب الأوروبي حيث لا يمثل الأب قيمته الكبيرة في المسألة الشرعية, عكس التراث العربي الذي لا يكتفي بتوكيد الشرعية عند الأب وحسب وإنما يتجاوزه إلى الخؤولة أيضاً ومع ذلك يوجد من يتحمس لمثل هذا المصطلح المتخيل, ولا سيما عقب شيوع قصيدة النثر التي اعتمدت الصورة الشعرية دون غيرها, ولم تجد قبولاً واسعاً لدى مجموعة المتلقين فاستسهل البعض فكرة إلقاء التبعة على الأجيال القديمة التي لم تسمح بتسويد هذا الجديد، ولم تحتفِ به كما يجب ولم تستطع أن ترتفع إلى اكتشاف أسراره وتذوق جمالياته.

كل ذلك بالرغم من أن كل القرائن تؤكد أن أوسع الفضاءات تخصص لهذا الجديد سواء بإعطاء منشئية الوقت الكافي لإلقاء نصوصهم, أو بالعمل على نشر هذه النصوص في مختلف وسائل النشر, حتى أن عدداً غير قليل من الأدباء العرب لم يخفوا تقديرهم للمؤسسات الثقافية الليبية التي اختلفت عن مثيلاتها في الوطن العربي من حيث الاحتفاء بالجديد وإعطاء مزيد الفرص للدماء الجديدة, فما الداعي لإصرار الكثيرين على قلب المسألة فالداعي لهذا التعميم غير المنصف والمتمثل في إلقاء التبعة على الجميع ومن دون أن يحدث الفرز الذي يفرق بين الممارسة والممارسة والموقف من الموقف المختلف, وما أهمية أن تكون لدينا معركة موهومة وخلاف لا يجد حقيقته في المواقف مجتمعة, بقدر ما هو من الأمور المختلفة كل الاختلاف بين طرف وآخر.

في جميع الأحوال, فإن الأجيال كل الأجيال, قديمة كانت أم جديدة, وفي سعيها إلى توكيد حضورها والإعراب عن خصوصيتها, لا يمكنها مطلقاً أن تعود على العموميات في القول أو الميوعة في الموقف والإغراق في كيل الملامة للآخرين, بقدر ما تستطيع الوصول إلى تحقيق تميزها المنشود وتألقها اللافت عبر نص يجد تجلياته في الخروج عن المألوف من حيث الصورة الأدبية واهتمام بالموضوع من حيث طبيعة التناول وسيكون من العبث غير المبرر والوهم الذي لا يجد أي سند له في الواقع أن يظن كائن من يكون أن تحقيق التجاوز يمكن أن يتسنى من دون القدرة على طرح أسئلة تختلف ما سبقها وأجوبة تتجاوز أو تستوعب واقعها بطرائق أوسع وتركيز أدق.

مقالات ذات علاقة

الحركات الصوفية الليبية والجهاد – 1

محمد قصيبات

السـطو.. ثـقافة أم نهـج؟!

عائشة بازامة

17 فبراير اصبح جزء من تاريخ ليبيا

خالد الجربوعي

اترك تعليق