المقالة

علّمتني مهنة الصحافة

الزهراء البُقار

من أعمال التشكيلية خلود الزوي.
من أعمال التشكيلية خلود الزوي.

كان أحد أكبر متصوفي الإسلام يحتضر عندما سأله أحد تلاميذه: من كان معلمك أيها المعلم؟ أجاب: بل قل المئات من المعلمين. وإذا كان لي أن اسميهم جميعاً، فسوف يستغرق ذلك شهوراً عدة، وربما سنوات، وينتهي بي الأمر إلى نسيان بعضهم، ولكن أشدهما أثرا كانوا ثلاثة، أولهما لصا، كان يقول كل ليلة عندما يعود فارغ اليدين من أي مسروقات “لم أوفق في اغتنام شيء هذ المساء. لكنني إذا شاء الله سأعاود المحاولة في الغد”، وثانيهما كلبا، كان يرى كلبا آخر كلما أراد الشرب من النهر فيعود للخلف، ولم يكن ذلك سوى انعكاس صورته في المياه، حتى قرر مواجهة الوضع وألقى بنفسه في النهر، وثالثهما ولدا، كان يحمل شمعة بيده فسألته “أتستطيع أن تخبرني من أين جاءت النار التي يشعلها؟” ضحك وأطفأ الشمعة ثم رد “أتستطيع أن تخبرني إلى أين ذهبت النار التي كانت مشتعلة؟”.

لم أقرأ القصة المذكورة أعلاه عندما قادتني الرغبة إلى دراسة الصحافة وممارستها؛ كأولى خطوات مسيرة البحث عن الذات، وهو الهدف الذي كان يثير غضب الكثيرين عندما أصارحهم به، مشيرين أن الصحافة هدفها مخاطبة الجمهور وليس كتابا أقرأه، وبدوري أأكد لهم أنهم يتحدثون عن الهدف الثاني بالنسبة لي، وبإحساس صحفي شديد، بدأت بالتركيز على ما يعانيه ذوي الإعاقة والأيتام في مجتمعنا، جاهلة بالمعنى الحقيقي للإضافة التي يمكن أن أثري بها نفسي من خلالها.

معلمي الأول كان كفيفا

تعد الكتابة لأجل إيصال هذا المشهد أمرا صعبا بالنسبة لي، ففي أحد الأيام كنت أركض مسرعة لدخول “مدرسة مصراتة للمكفوفين” بعدما أخذت موعدا عبر الهاتف من مديرها الذي كان كفيفا أيضا، وأثناء دخولي مسرعة “في ممر المدرسة بالتحديد” اصطدمت بأحد تلاميذها الذي كان خارجا، رغم أنني رأيته، لكني اعتقدت أنه سينزاح قليلا ويفسح لي الطريق، ولم أخرج من وقع الصدمة، حتى اصطدمت بالكفيف الآخر، ثم وقفت أخيرا لأسأل عن مكان الإدارة، فنظرت لفتاة كانت تسند رأسها على الحائط وتحمل كتبا بين يديها، رفعت يدي مستأذنة للسؤال لكني سكتُ عندما لم تبادلني بأي انتباه، وهي تنظر هناك حيث عالمها الذي كنت أجهله.

معلمي الثاني كان يتيما

كانت “صفاء” ذوي التسعة عشر عاما أول الداخلين عندما استأذنت من مديرة دار الأيتام للبنات للحديث مع نزيلات الدار ومعرفة ما يواجهن من مشاكل وصعوبات في حياتهن، بشغب فتاة مراهقة، قفزت “صفاء” بجانبي لتحدثني عن رغباتها في الحياة كأي فتاة تعيش بين أسرتها، واصلت “صفاء” الجميلة جدا حديثها معي ببساطة، وبابتسامة ونظرة طفوليتين، حتى أصبح اللقاء وكأنه (فضفضة) صديقات روتيني، ثم كررت الحديث عن زيارة أهلها لها عدة مرات، سكت بغية تجنب الإيذاء النفسي لها، في النهاية سألتها، هل أهلك لازالوا يزورونك؟ أجابت بالنفي، مستطردة (لا أتذكرهم، لأنني كنت صغيرة جدا) سألتها: وكيف عرفتي أنهم كانوا يقومون بزيارتك؟ أجابت: (مديرة الدار هي من حكت لي عن زياراتهم عندما كنت طفلة)، وهنا لم أعد أستطيع التركيز عن حديث “صفاء” حتى انتبهت لحيرتها وسؤالها لي فجأة: (أنا أريد أن أعرف شيئا، لماذا توقفوا أهلي عن زيارتي؟ لأني كلما سألت مديرة الدار أجابتني أنه عندما أكبر سأعرف السبب، واليوم أنا كبرت)، اغرورقت عيناي، وقلت في نفسي أنا التي كبرت يا “صفاء”؛ لأنها لحظة تساوي عمرا بأكمله.

معلمي الثالث كان (معاقا)

آمنت بالمساواة مع “ذوي الاحتياجات الخاصة” إيمانا عميقا مبني على قناعة عظيمة، ولكنني لم أستطع تشخيص عِلل التمييز تشخيصا صحيحا منذ البداية.
استطعت أخيرا تحديد موعد مع مركز (لذوي الاحتياجات الخاصة) علّني أجد من النساء ذوات الإعاقة من تحدثني عن معاناتها، انطلاقا من تحقيق صحفي يتناول مشاكلهن، استيقظت صباحا وارتديت ملابسي التي أعتدتُ ارتدائها في الأماكن العامة، جاكيت وبنطلون غاليان الثمن، وساعة فخمة وهكذا خرجت بحرص على حسن هندامي، تحدث مع العاملات بالمركز فور وصولي، انتظرت وصول المقصودات اللواتي اعتذرن عن مقابلتي فور مجيئهن، ثم جاءت إحداهن تجرّ كرسيّها المتحرك للحديث مع العاملات، بأرجل وذراعين قصار، ونظرت إلي وأنا أتحدث مع الآخرين بنظرة طويلة وعميقة جدا، أحسسن بمعناها، وتجاهلت النظر محاولة إخفاء ارتباكي أثناء الحديث، فهي لم تكن تقصد الإساءة لي بل كانت تقدّر المسافة التي ستصلها حتى تتمكن من الوقوف مثلي، وارتداء الملابس التي كنت أرتدي حتى أجبرتني على العودة إلى المنزل وإلغاء مواعيدي التالية، عدتُ وأنا أبكي من شدة شعوري بضيق الدنيا رغم شساعتها، وزيف المشاعر رغم حقيقتها.

ختاما، أقول في اليوم العالمي للصحافة، زوروا المرضى، ودور العجزة والأيتام، والمراكز الخاصة بذوي الإعاقة، عودوا أولادكم على مرافقتهم وزيارتهم في الأعياد والمناسبات الخاصة، حينها سنكتشف جميعا من هم (المعاقين)؟ والأيتام؟ والمساكين.

مقالات ذات علاقة

سمو الإنسان

علي بوخريص

هويتنا.. إلى أين؟

مهدي التمامي

فسانيا… جريدة ليبية تقاتل بلا سلاح

سالم أبوظهير

2 تعليقات

محمد 21 يناير, 2022 at 07:01

المقالة جميلة
شكرا

رد
المشرف العام 22 يناير, 2022 at 05:05

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق