النقد

“عشب الليل” وقتل الأب..

.

المصطفى سلام*-المغرب

 .

تناول الروائي الليبي إبراهيم الكوني، في روايته: “عشب الليل”1، قضية قتل الأب، وصاغ لها عالما حكائيا، اتخذ من السياق الثقافي والميثولوجي للطوارق مرجعية.. فكيف تحقق هذا القتل في النص؟

بالعودة إلى البنية الأسطورية والفكر الميثي للطوارق في الصحراء الليبية، نجد أن الربة تانيت2 تتجسد في صورة مثلث وترمز إلى الخصوبة والتناسل والعنف، إذن فهي أنثى وأرض وسيف أو مدية، وتتموقع هذه المعبودة كدليل وسط هذه الأطراف: التناسل والخصوبة والعنف. وكان المثلث في الأصل نصف دائرة يمثل الأرض والنصف الآخر السماء، ثم تحور نصف الدائرة إلى مثلث يعبر عن اتزان الوجود. وتكشف القراءة المباشرة لنص “عشب الليل” أن السارد عرض حكاية ذات وجهين: العشب الذي اكتشفه وان تيهاي والتأثير الذي يلحقه به حيث يمنحه قوة جنسية عارمة، فيعذب النساء في المخدع، ويساعده العشب كذلك في السفر إلى واو3 الفردوس المفقود عند الطوارق. والوجه الثاني حكاية وليدة تعرضت لبطش أبيها الجنسي دون اعتراض على ذلك، لأنها خضعت لبرنامج تأهيلي، هيأها وخلق لديها استعدادا نفسيا وعاطفيا أن تحب أباها حبا جعلها قرينة له، مخالفا بذلك ناموس القبيلة. وقد أنجبت منه ابنة نتيجة الجنس المحرف، هذه الوليدة هي من ستقتص من هذا الشيخ الجاني والخارق للمقدس. لقد قتل الأب بالمدية التي ترمز إلى الربة المقدسة تانيت.

تتأسس الحكاية في النص على مكون طبيعي، يتعلق المر بالعشب، وهو يرمز بدوره إلى الصب والتناسل من خلال الطاقة التي يمنحها للشيخ، هذه الطاقة مهيجة وباعثة للرغبة الجنسية، ويقترن العشب من جهة ثانية بالعنف، حيث التمادي في ممارسة الجنس والعنف المصاحب لذلك دفع الحفيدة إلى الهرب وقصد الضريح، الذي تقطن فيه الربة أو المعبودة.

يرتبط بالمثلث في بعده الحيثي الجنس المحرم، إذ يعتقد الأب أن مصدر الخصوبة هو الأب من خلال البذار التي تأتي من صلبه، وبالتالي الاستمرار في الحياة والوجود سببه الأب وليس الأنثى. ونكاح المحرمات يتحدد في النص من خلال التناسل والخصوبة والعنف أيضا، شأنه شأن العشب ومعبودة الطوارق.

واحة واو في النص ترمز بدورها إلى الخصوبة، حيث الماء والخضرة والحياة، والاستقرار الشرط الأساسي للحضارة والمدنية، في هذه الواحة يلجأ الواويون إلى الحرث والزراعة والتناسل عبر الزواج . كما تشير إلى الجنة المفقودة التي لا يتوقف الطوارق عن البحث عنها. ويتجلى العنف المقترن بهذا النمط من الجنات في الضياع والتيه.

فيما يخص قتل الأب، الحدث المحوري في النص، تحقق من خلال رمز العنف، أحد رؤوس المثلث بواسطة المدية التي تجسد المعبودة أو الربة. لقد حاول الشيخ بمشروعه: نكاح الابنة ومضاجعة الوليدة، إحياء عقيدة الرب أمناي4 الذي كان بدوره أبا في أساطير الطوارق . الشيخ يرغب في رد المكيدة التي كادتها المعبودة ضد هذا الإله قديما. لقد قتل الأب من عن طريق رؤوس الربة تانيت: الجنس والعنف والخصوبة من خلال الرموز المحورية في هذا المثلث: المدية والأنثى والشهوة أو الشبق الجنسي.

يتخذ قتل الأب في النص بعدا أسطوريا ثانيا، يتعلق الأمر بعقدة أوديب، فكان هذا القتل إخراجا جماليا وتخيليا لهذه العقدة. وعقدة أوديب كما وردت في أدبيات التحليل النفسي: جملة منظمة من رغبات الحب والعداء التي يشعر بها الطفل تجاه والديه. وتظهر هذه العقدة في شكلها الإيجابي في قصة أوديب الملك، أي رغبة موت المنافس وهو الشخص من نفس الجنس، ورغبة جنسية في الشخص من الجنس المقابل. أما في شكلها السلبي فتأخذ منحى مقلوبا، أي حب للوالد من نفس الجنس وحقد حسود على الوالد من الجنس المقابل، وفي الواقع يتواجد هذان الشكلان بمقادير متفاوتة5. بالعودة إلى نص عشب الليل أنه يعمل على تحيين هذا المركب سرديا. فهناك الأب ثم الوليدة والأم . ورأينا كيف تمكن الشيخ من ابنة ابنته، فكان بذالك موضوع حبها، والعلاقة التي تميز الطفل بأحد الوالدين في المثلث الأوديبي هي التوتر والانجذاب، وهذا ما جسدته الابنة حيث كانت علاقتها متوترة مع الأم. كما أن الأب في هذا المثلث يتميز بمجموعة من القيم تؤكد تسلطه وجبروته، وقد مثل الروائي لذلك بأن جعل الشيخ وان تيهاي ذا جشع جنسي وجوع شبقي، حيث تتعذب النساء جراء ذلك. والشكل الذي أخرج به الروائي هذه التيمة تناسب الشكل الأنثوي في العقدة الأوديبية، أي ما يعرف بعقدة إلكترا حيث تعلقت الوليدة ثم الابنة بوالدهما جنسيا.

لقد حضرت في النص جميع مكونات الثالوث الأوديبي: الابن والأب والقانون. وكما يتحقق القتل في جميع السيناريوهات السردية لعقدة أوديب وارتكاب المحظور في الممارسة الجنسية، كان مصير الأب هو القتل من طرف الابنة، مع اختلاف واضح، حيث لم تقتل الابنة الأم لتستأثر بالأب وتمتلكه. لقد قتلت الابنة الأب لأنه منافس للعبد أفار الذي كانت ترغب في أن يكون عشيقها، أي موضوع حبها. وقتلته ثانيا لأنه كان جبارا عتيا.

واضطهاد الأب في النص اضطهاد جنسي، من خلال تعذيب قريناته، بما فيهن بنته وحفيدته؛ وقد شكل هذا التعذيب رمزا للخصاء الذي يرد في المركب الأوديبي؛ إذ يشعر الابن بأن الأب يمكن أن يخصيه، جزاء على رغبته المزدوجة: أولا في قتله وإزاحته، وثانيا في امتلاك الأم والاستحواذ عليها. هكذا مارس الشيخ في النص مجموعة من الأفعال التي ترمز إلى الخصاء: قطع ألسنة العبيد وتعذيب النساء وبتر العضو التناسلي للعبد أفر وخضوع الابنة وعدم مقاومتها.

لقد اكتمل سيناريو عقدة أوديب في نص: “عشب الليل” بحضور أركان المثلث الأوديبي: الأب والطفل والأم من جهة، وتوتر العلاقة وانجذابها، والوقوع في المحظور ثم قتل الأب. إن الاعتداء على الأنثى في هذه الرواية هو اعتداء على رمزية النظام الأمومي في معتقد الطوارق، والصيغة التي تم بها قتل الأب في النص هي إخراج روائي لعقدة أوديب وتنويع سردي. وقد تميز هذا التحيين السردي بمرحلة تمهيدية؛ تمثلت في كراهية الابنة للأم واتخاذها أباها موضوعا للحب، حيث اطمأنت إليه وأمنت في حبه، ثم مرحلة القبول أو ما يسمى بالسلبية في القرار؛ وقد تمثلت في النص بقبول ممارسة الجنس وتحمل أذاه، وبالتالي الوقوع في الخطيئة، أما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة القتل أو التخلص من الأب، والقتل تغيير للموقف السلبي.

لقد أطر الروائي فكرة قتل الأب بسياق ميثولوجي، حيث الحكاية لم تشر إلى عقدة أوديب في حد ذاتها، أي لم يكن المعطى النفسي هو المقصود، بل التنويع في تمثيل وعرض هذا المركب جماليا و تخييليا، وقد انطبع البناء السردي في النص بخلفية أسطورية تكمن في الصراع القديم بين الإله أمناي والربة تانيت، و قد تجلت هذه المسألة في انقسام شخصيات النص إلى صفين: صف الرب أمناي و صف الربة تانيت برموزهما وأيقوناتهما.

_______________________________________

المراجع:

1 – إبراهيم الكوني: عشب الليل، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، ط 1 1997.

2 – نفسه: بيان في لغة اللاهوت، دار الملتقى، ط 1، 2001، الجزء الأول، ص 44-45

3 – علي فهمي خشيم: بحثا عن فرعون العربي، الدار العربية للكتاب، ط 1، 1985، ص 218 / 219

4 – سعيد الغانمي : ملحمة الحدود القصوى، المركز الثقافي العربي، ط 1، 2000، ص 40

5 – جان لابلانش و ج . ب. بونتاليس : معجم مصطلحات التحليل النفسي . تر: مصطفى حجازي، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط 1، 1985، ص 353.

*أستاذ مبرز في اللغة العربية – أفورار – المغرب

عن صحيفة العرب 27-1-2012

مقالات ذات علاقة

الشخصية العجائبية في رواية الغارقون في الساقية، للكاتب المبدع: يوسف إبراهيم

إبتسام صفر

المهدوي شاعر الثورة في ليبيا

عادل بشير الصاري

رواية «بوق»: السرد بوصفه إدانة للحرب وتبجيلا للموسيقى والتسامح

المشرف العام

اترك تعليق