طيوب البراح

عزوز الستوت

من حكايات «بلاد اليَمْيَمْ»

يونس محجوب

من أعمال: Clive Barker

ملاحظة الناشر: «عزوز الستوت» كما أشار المؤلف في كتابه «بلاد اليَمْيَمْ» (الذي يصدر قريباً عن دار «رشم» التونسية)، ليست حكاية ليبية فقط، لأننا نراها تتكرّر، بهذا الشكل أو ذاك، في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، فهي إذن حكاية مغاربية، ولكن هذا لا يمنع من التأكيد على أنها بالمجمل «حكاية عربية» لأننا نرى مثيلاتها في دول المشرق العربي، وإن تغيّرت الأسماء وبعض التفاصيل، فهي تحافظ على بناء أساسي متماثل، أو على نمط رئيسي وطابع حِكَمي واحد في جميع الصيغ.


(نص الحكاية)

عزوز الستوت هي الحيزبون التي غلبت الشيطان؛ شمطاء تتكئ على عصا، نحيفة، ذات وجه متغضّن، وأنف معقوف نبت عليه ثؤلول طويل، وعلى رأسها قرنان تُخفيهما بلحاف أسود.

كانت هذه العجوز الشمطاء تسوح هائمة في الأرض وتنتقل من مكان إلى مكان تثير الفتن وتبث البغضاء بين الناس فيتلاسنون ويتخاصمون، ويحقدون ويحسدون، ويكذبون ويشهدون زورًا، ويسرقون وينهبون، ويتصارعون ويقتل بعضهم بعضًا، وكانت متعتها الوحيدة هي أن ترى الأخ يكره أخاه، و المرء يبغض صديقه، والرجل يهجر زوجته، والزوجة تخون زوجها، والأب ينكر ابنه، والابن يعقُّ أباه.

ذات مرة دخلت عزوز الستوت قريةً نائية كان جميع سكانها يعيشون آمنين مطمئنين، يتوادُّون ويتراحمون، وكان شيخ القرية رجلًا فاضلًا، تقيًّا ومحترمًا، يحب الناس ويحبونه، وكان الشيطان يتربَّص بأهالي تلك القرية يريد أن يخربها ويعيث فيها فسادًا، فحاول أن يوقع بينهم، وبذل قصارى جهده لكي يبث الشكَّ في نفوسهم، ويجعلهم يختلفون ولو قليلًا؛ فلم ينجح.

حاولَ الشيطان، حاولَ وحاول، مرارًا وتكرارًا، ولكنه استسلم أخيرًا وجلس في ظل شجرة وقد أعياه التعب ويئس وصار غاضبًا متطيّرًا لا يعرف ماذا يفعل ويكاد يُجن.

في تلك الأثناء كانت عزوز الستوت تمرُّ بتلك القرية الآمنة ، وما أن اقتربت منها حتى رأت الشيطان على تلك الحال في ظل تلك الشجرة.

قالت له: «ما لي أراك مهمومًا هكذا أيها الشيطان العزيز، من هذا الذي أزعجك؟».

قال الشيطان: «هذه القرية الملعونة، لقد احترت ولم أعد أعرف ماذا أفعل مع أهاليها الأوباش هؤلاء، إنهم سذَّج وحمقى، حاولت كثيرًا ولم أتمكَّن من الإيقاع بينهم، بل صاروا يزدادون تضامنًا وتآلفًا».

قالت عزوز الستوت: «هذا فقط!».

قال الشيطان: «هو ذاك».

قالت عزوز الستوت: «أستطيع أن أساعدك إذا ساعدتني».

قال الشيطان: «وكيف أفعل ذلك؟».

نزعت عزوز الستوت لحافها عن رأسها وأبرزت قرنيها، وقالت له: «تخلّصني من هذين القرنين وتحملهما بدلًا عني».

قال الشيطان: «موافق».

دخلت العجوز إلى تلك القرية النائية، فطافت في أزقتها وتكلمت مع بعض النساء واستقصت أخبار الجميع، ثم سألت عن بيت شيخ القرية فدلتها عليه بعض النساء، وذهبت إليه وطرقت الباب.

فتحت زوجة شيخ القرية الباب فقالت عجوز الستوت: «مرحبا يا ابنتي، أنا عابرة سبيل، وقد أتعبني الترحال والسفر؛ أنا عطشى وأريد شربة ماء».

قالت الزوجة الطيبة: «تفضَّلي يا عمتي، ادخلي وارتاحي قليلًا، فالحرُّ شديد هذا اليوم».

دخلت العجوز إلى بيت شيخ القرية ورحَّبت بها زوجته، ثم شربت بعض الماء وتناولت شيئا من الطعام، وبعد قليل قال لها: «يا لجمالك يا ابنتي، ولكن يا للخسارة».

فوجئت الزوجة بهذه الكلمات، وقالت لها: «ما الأمر؟».

قالت العجوز الماكرة: «يبدو أنكِ لا تعلمين أن زوجك قد تزوَّج امرأة أخرى وبيتها في نهاية القرية».

قالت الزوجة: «لابد أنك مخطئة أيتها الأم الطيبة».

قالت العجوز: «لا، لست مخطئة، فأنت زوجة شيخ القرية، الزوجة الأولى، وقد كنتُ مع زوجته الثانية بالأمس».

صعقت الزوجة لسماع هذا الكلام، وهمهمت: «هذا غير معقول، فزوجي يحبني، وهو رجل صادق، لا أصدّق أنه تزوجَّ ثانيةً».

قالت العجوز: «بل صدّقي أيتها المسكينة، أنا أشعر بالأسف على ذلك»، وترقرق الدمع في عيني الزوجة وشحب وجهها فلم تدر ما تقول أو تفعل؛ وأضافت العجوز قائلةً: «ولكن لا عليكِ، لا تبكي، أستطيع أن أساعدكِ، ولن يمرَّ هذا اليوم حتى يطلّقها وتتخلَّصي من هذه الضرَّة إذا استمعتِ إلى ما أقوله لك».

سألتها الزوجة: «وماذا أفعل».

قالت العجوز: «عندما يعود زوجك هذا المساء ويذهب إلى السرير لينام، خذي مقصًّا وقصّي سبع شعرات من لحيته دون أن يشعر بك، وسوف أمرُّ صباح الغد فآخذها منكِ وأتلو عليه تعويذة الطلاق ثم أُحرقها وأرمي رمادها في البئر المهجورة، وسوف يطلّقها على الفور».

قالت الزوجة الساذجة: «سوف أفعل ذلك، شكرًا لك يا أماه».

خرجت العجوز الشمطاء من البيت وذهبت على الفور إلى الشيخ في سوق القرية، فحيَّته ورحَّب بها ثم دعا لها بكأس من الشاي، ولكن العجوز قالت له: «لا أيها الشيخ، لا أريد شايًا، جئت لأخبركَ أمرًا هامًّا».

قال الشيخ: «ما الأمر؟».

أجابت العجوز همسًا: «إنها امرأتك، حاذر أيها الرجل الطيب، لقد علمتُ أنها سوف تتخلَّص منك وربما تقتلك هذه الليلة».

ظنَّ الشيخ أن العجوز امرأة مجنونة تثرثر، فقال لها: «اصمتي أيتها المرأة، ما هذا الهراء. زوجتي امرأة طيبة تحبُّني، وهي ليست كما تقولين!».

قال العجوز بنبرة واضحة: «حسنًا، يمكنكَ أن تتأكَّد مما أقول، عُدْ هذا اليوم إلى البيت وتظاهر بأنكَ قد نمت، ثم راقبها وانظر ماذا ستفعل».

تسرَّب بعض الشكِّ إلى رأس الرجل، ورأى أنه لا ضرر من التجربة، وعندما عاد إلى بيته تحدَّث مع زوجته لبعض الوقت، ثم تثاءب كأنه يشعر بالنعاس والإعياء، فذهب إلى السرير، وتظاهر بأنه يغطُّ في نوم عميق.

بعد قليل أتت زوجته والمقصُّ في يدها لتفعل ما أخبرته به عزوز الستوت، ورآها فظنَّ بأنها ستقتله فعلًا، وهبَّ واقفًا من سريره وانتزع منها المقصُّ وطعنها به فوقعت أرضًا ثم أسلمت الروح بعد قليل.

كانت عزوز الستوت قد ذهبت أيضًا إلى أخوة الزوجة وذويها وهي تصيح: «أسرعو، لقد قتل شيخ القرية ابنتكم»، فذهبوا سراعًا ووجدوا الزوجة قتيلةً أمام زوجها، والمقصُّ في يده ما زال يقطر دمًا، فانهالوا عليه ضربًا حتى مات بين أيديهم، ثم انطلقت عزوز الستوت مسرعةً إلى أخوة الزوج وذويه وهي تصيح «أسرعو، لقد قتل أنسباؤكم ابنكم»، فذهبوا سراعًا ووجدوا الرَّجل قتيلًا أمام أخوة الزوجة، ودبَّ الهرج والمرج، واشتبك هؤلاء وأولئك في صراع عنيف، وكلٌّ منهم يستنجد بأقربائه وأصدقائه وانقسمت القرية قسمين شرقي وغربي، وجرت بين الطرفين معركة دامية حتى مساء ذلك اليوم قُتل فيها من قُتل وأُصيب من أصيب.

في ذلك المساء غادرت عزوز الستوت القرية وذهبت إلى حيث ينتظرها الشيطان وقالت وهي تضحك: «والآن أيها الشيطان العزيز، ها قد أنجزتُ ما وعدتكَ به وتركتُ القرية في حيص بيص».

ابتسم الشيطان وقال لها: «وأنا سأفي بما وعدتكِ به»، وبإشارة من يده اختفى القرنان من رأسها ونبتا على رأسه هو، ثم ودَّعها بسرعة وولَّى هاربًا خوفًا منها. ومنذ ذلك الوقت صار الشيطان يحمل قرنين قصيرين على رأسه.

مقالات ذات علاقة

رسائل من _الي

صفاء يونس

غزة تعزف سيمفونية الدماء

المشرف العام

خواطر امرأة

المشرف العام

اترك تعليق