طيوب البراح

عبيدة

زمزم سيدي كوري

من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.
من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.


كانت لجارتنا بنتين؛ سعدية وزينب، البشرة الداكنة كانت سمة العائلة، ولكن بشرة سعدية كانت أغمق في العائلة، وفي تصنيف العائلة تصنف بأنها سوداء! ولكنها برغم سوادها الشديد كانت جميلة، فتلك الملامح الجميلة وبراءتها وطفولتها يجعلانها ملاكًا تمشي على الأرض، وعلى عكس أختها زينب كانت تتمتع ببشرة أقل سواداً من أختها وكانوا يطلقون عليها لقب “ضاوية” كناية على بشرتها الفاتحة لربما أمام أختها على الأقل!

كنت أشفق على سعدية كثيرًا، أشعر أنَّ خالتي فاطمة لا تحبها، فهي دائمًا ما تصطحب معها زينب في المناسبات الاجتماعية كنوع من التباهي بها! وكانت تدللها أمام الآخرين ولا تلبث إلا وتأتي بسيرتها أمامنا في حال لم تأتِ بها، وكأنها لم تلد من البنات إلاَّ زينب. كنت أتعاطف مع سعدية كثيرًا، كنت أشعر بها دون أن تتكلم، فأمها لم تزرع فيها الثقة كأختها، فهي لا تخرج معها ولا تذهب بها إلى المناسبات، ولون بشرتها الذي لم تختره بنفسها سلب منها بعض حنان أمها، أشعر دائمًا بأنها حزينة ووحيدة رغم وجودها مع عائلتها، لربما لأنني أيضًا أنتمي إلى عالمها؛ ذلك العالم المليء بالتساؤلات والشك، ذلك العالم الذي يقاسي حزني وألمي بشيءٍ من العجز.

كانت زوجة أبي دائمًا ما تنعتني بـ”عبيدة” وتارةً بـ”بنت تشادية”، وما لا تعلمه أو تتجاهله قصدًا هو وقع كلماتها على قلبي، وبكائي في الخفاء، وأنني لا أتحمّل مكرها إلاَّ من أجل أبي. لقد كنت الطفلة الوحيدة من زوجة أبي الأولى “أمي”، التي وافتها المنية بعد ولادتي، لقد وضعتني أمي أقل بياضًا من بنات عائلة أبي، فبشرتي تلك لم تشفع لي لأكون من العائلة وأن أحظى بحب إخوتي، فقد كانت تشعرهم أمهم منذ نعومة أظافرهم بأنني لست فردًا من هذه العائلة.

كبرت على ذلك وتقدم أبناء عمومتي للخطبة من عائلتنا، فبدأوا بأخواتي رغم أنهن يصغرنني عمرًا ولم يكملن دراستهن، ولكن شيئًا ما شفع لهن عن ذلك، وهو الشيء ذاته الذي لم يشفع لي، وفي كل “الأعراس” كانت زوجة أبي تحاول أن تبعدني عن الحاضرين، وكأنّها تشعر بالعار بأن أكون يومًا خالة أو عمة لأحفادها.

بينما كانت هي كل يوم تحاول أن تزرع فيّ الشعور بالنقص، وإحساسًا بأنني لست منهم ولا أنتمي إليهم؛ كنت بالمقابل أتمسك أكثر بإخوتي رغم معاملتهم السيئة، فهم أبرياء من فعلة أمهم، كنت أحاول أن أحسّن من مستواهم الدراسي، فأنا من يتابع مستوياتهم في المدارس وأنا من يشرف على تدريسهم بالمنزل، وكذلك أنا من يشرف على خدمة المنزل، فقد كنت أمهم أكثر من أمهم، فهم إخوتي وأبناء أبي رغم كل شيء. كان إخوتي من الأولاد أقرب إليّ من البنات، فأمهم استطاعت أن تزرع فيهن عقدتها، فلم تكمل أي واحدة منهن دراستها، لأنهن كن يرفضن أن أشرف على تدريسهن وكن أيضًا لا يحسن تدبير المنزل؛ في المقابل تفوق إخوتي في دراستهم وبدأ بعضهم رحلته في الجامعة.

كان أبي هو منفسي الوحيد في هذا العالم الموحش (الذي يجعلنا في زاوية مظلمة بسبب اختلاف شكلنا ولوننا، حتى من أقرب الناس إلينا)، أبي كان الصدر الحنون الذي ألجأ إليه، أرى لطفه عليّ في عينيه قبل كلماته الدافئة، وأشعر بقلقه حيال عدم تقدم أحد لخطبتي، فهو يعلم يقينًا بأن لا أحد من أبناء عمومتي سيأتي لطلب يدي، هو أيضًا مثلي يحمل نفس سؤالي، لذلك دائمًا ما يُذكّرني بأمي وطيبة قلبها وروحها وكل الأشياء الجميلة التي لم يجدها إلاَّ فيها، ويقول لي مؤكدًا: “الجمال جمال الروح”، فهو الذي تجرّع كأسًا علقمًا من أهله لزواجه بأمي، لا لشيء فقط لأنها لا تنتمي إلى عالمهم المتحجر الذي اختصر على صورتهم المعكوسة في المرآة، فعائلة أبي لم تتقبل وجود أمي معهم رغم طيبة قلبها وحسن عشرتها، وفي يوم خطبته لأمي لم يذهب مع أبي إلاَّ عمي، لأنَّ جدي حينها رفض الذهاب معه متحججًا بوعكة صحية أتعبته، لم يشفع لأبي سوى حب جدي الشديد له وتفضيله على باقي إخوته، وبرغم أنه أبدى شيئًا من التقبل لموضوع زواجه بأمي إلاَّ أنه كان هناك شيء داخله يرفضه، فرفض الذهاب معه آنذاك.

تزوج أبي بأمي وكانت الكلمات يوم زفافهم جارحة أكثر منها مهنئةً، وقعت كلمة “أكيدة سحراته” على مسامع أمي طيلة فترة زواجها؛ تقول خالتي أنَّ أمي كانت تبكي دائمًا على أهل أبي لمعاملتهم السيئة، وكانوا يتعمدون مضايقتها، وإذا تكلمت يلقون على مسامعها عبارة: “احمدي ربي زوجناك ولدنا”، ولا شيء يجعل أمي تتقبل وجودها معهم إلاَّ حب أبي لها ووقفته الدائمة معها، فقد كان نعم الزوج لها ونعم السند، فهو الذي أحبها بكل صدق، أحبها كما هي؛ جميلة وهادئة، أحبها بروحها وطبعها وطيبة قلبها، ولم يكن لون بشرتها أبدًا حاجزًا في طريقه إلى قلبها.

كانت تمر الأيام وأنا أكبر همًا لا عمرًا بأفعال زوجة أبي، ولكن اليوم وأنا في مملكتي مع زوجي “ابن خالتي” أكثر سعادة وأكثر إشراقًا من ذي قبل. مرّ عام على زواجنا الميمون، كوّنا فيه مملكتنا الصغيرة مع ابنتنا، وشعرتُ فيه بالانتماء والحب والحنان بعيدًا عن تعقيدات أهل أبي، أحببت فيه نفسي كما أنا؛ بروحي وكياني، بجمالي وقبحي، بضحكتي ودمعتي، أحببت نفسي كاملة هكذا كما خلقني ربي.

مقالات ذات علاقة

ملامح من مدينتي

المشرف العام

ســحابة دخــان

المشرف العام

بدوقراطية

المشرف العام

اترك تعليق