طيوب عربية

عبد الله رضوان.. الشغفُ الأبيضُ بالقصيدة

نمر سعدي

الكتابةُ عن شاعرٍ راحلٍ تستدعي في الكثير من الأحيان الإمساك بلحظة بيضاء تختزلُ ذاكرةً شعريَّةً ما.. وإذ يصعب علينا الإلمام بجوانب هذه الحياة المنفلتة انفلاتَ الماءِ من بين أصابعنا بسرعة الضوء الهارب من مجرَّة نهرع بكل ما لدينا من نوسطالجيا وحنين ومطر دافئ إلى إعادة قراءةٍ ولو على عجلٍ لموروث الراحل.. هذا ما جرى معي حين أتاني نبأ رحيل الشاعر والناقد الأردني الكبير عبد الله رضوان الذي قرأت مؤخراً عدَّةَ قصائدَ له متناثرةً في الشبكة العنكبوتية فوجدتُ في تجربة صاحب (كتاب المراثي) نفساً شعرياً أصيلاً ولغة وثَّابةً إلى النور والحرية.ولمستُ أنه كان بصورة أو بأخرى يحاولُ في كلِّ مرحلة شعريَّة جديدةٍ أن ينقلبَ على ذاتهِ الشعرية القديمة فهو ينتمي شعرياً إلى جيل السبعينات. الذي حافظ على رونق قصيدةٍ ذات جرس عربيٍّ محضٍ يشي بكثير من الفرح الغامض والجمال السريِّ من غير تفلتٍ محموم من نظامِ التفعيلة على حساب ذهنيةٍ نثريةٍ أو أسلوب تقريري مباشر.. ولقد سار من حيث الصياغة المتينة والتركيز على الصورة الشعرية وتواتر النفس الملحمي في ضوء الروَّاد في تطوير قصيدةِ التفعيلة التي أظنُّ أن الشعر الأردني الحديث رفدها بأجمل الأصوات وأصفاها وأغناها وما زال يرفدها. هناك هواءٌ جبليٌّ نقيٌّ في غاية النقاء طالما تنفسناهُ في هذهِ القصيدة التي حلَّقتْ بصورة جليَّة في سماء مليئة بغيوم وردية وأقحوان صباحيِّ وحبق لا يذبل وترجيع جبليٍّ لأغاني الرعاة.

ربما الحديث عن عبد الله رضوان الناثر والناقد الموضوعي والباحث والأديب يتطلَّبُ مقاماً وحيِّزاً آخرين نتركهما لذوي التخصُّص. فلن نستطيع في هذه الإطلالة العجلى على عالم الشاعر أن نحيط بكلِّ شيء. وأن نسبر غور تجربة ابداعية مترامية تركت أكثر من عشرين ديواناً شعرياً وأكثر من عشرةَ كتب نقدية عالجت الكثير من تجارب عربية لافتة ومهمَّة بمهارةٍ وذوقٍ أدبي نادرين.

ما يلفت نظري في تجربة هذا الشاعر المتأنق هو جمالُ انتقاء كلماته بحسٍّ بارع وموسيقا تراكيبه الشعرية المتسلسلة في الأذن كأنها غناءُ نهرٍ أو رنينُ أجراسٍ في حديقةٍ أو جزيرةٍ استوائيةٍ بعيدةٍ.. لنفهم الحزنَ المتغلغلَ في نصه علينا أن ننصت بعمقٍ وجوديٍّ إلى هذا المقطع الذي يقولُ فيه:
أخافُ من الخوف يأتي ..
يحدِّثني .. عن رجال مضوا ..
لن يعودوا ..
لأن مُسوخ القبيله..
أقاموا لهم في الطريق الحرائق.
أخاف من الخوف يأتي قوياً
يخاطبني باسم أقصى العُتاة
ليمتص نسغ الحياةِ
ونسغَ الشجاعة والعنفوان ..
يمارس قتل الأحاسيسِ
يمضي..
ليتركني واحةً من دخان.

لم يُتحْ لي الاطِّلاعُ على بعضِ منجز الشاعر الأردني المبدع عبد الله رضوان إلا في الشهر الأخير ( بعد محنة مرضه تحديداً) بالرغم من أنه صديقي فسيبوكياً ما يقارب العام ونصف العام ولكن لم يحدث أننا تحدَّثنا مرَّةً فيما يخصُّ تجربتهُ الشعرية والنقدية وذلك لقصور مني.. وهو كشاعر مدهشٍ وكناقدٍ ذي مستوى رفيع ورؤية ثاقبة لا يحتاج لأي شهادة من أحد وبلا شك أنه أحدُ هؤلاء الأفذاذ الذين نذروا حياتهم كلها للكتابة وللشعر وللثقافة بكل ما في قلوبهم من نزوع للمحبة وللجمال وللحرية.. نظرة خاطفة على آثاره الكثيرة تدلُّ على ما يشبه حمى الكتابة الجميلة التي رافقته طيلة عمره.. وبما أنني أحزن لرحيل أي شاعر حقيقي أحسُّ الآن كأن شيئاً ضروريا نقصَ من هذا الكون وبأن صرخة خفيَّة ترفرف في القلب.. وداعا عبد الله رضوان. الشاعر والناقد والصديق والانسان.

مقالات ذات علاقة

الشاعرة لا تتزوج

المشرف العام

عبير حمودي تروي حكاية العراق بريشتها

المشرف العام

فلنستمر بالكتابة فإنّ لها أثرا لن يُنسى

المشرف العام

اترك تعليق