طيوب الموسيقى

عبدالله مختار السباعي: الألحان الليبية تعاني السرقة دون ملاحقة قانونية

يعترف عبدالله مختار السباعي الباحث في علوم الموسيقى العربية بأن الأغنية وليدة عصرها، ومُعبِّرة بصدق عن مشاعر وأحاسيس من يصنعها، ومن يتلقاها، وهي مرآة لحضارة وثقافة وزمان ومكان المجتمعات التي تظهر فيها. وهذا ما جعل نصوص وألحان وإيقاعات الأغاني تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، وتختلف أيضا حتى داخل البيئة الواحدة. ومن هناك يقرّ الباحث الموسيقي الليبي بأن كل زمن ينتج فنه الجميل.

الدكتور عدالله السباعي
الدكتور عدالله السباعي

يشغل عبدالله مختار السباعي، منذ العام 2013 وظيفة مندوب ليبيا في المجلس التنفيذي للمجمع العربي للموسيقى، التابع لجامعة الدول العربية. له تسعة كتب، أحدها مترجم عن اللغة الإنكليزية، من تأليف المستشرق هنري جورج فارمر تحت عنوان “حقائق تاريخية عن التأثير الموسيقي العربي”، نشره المجمع العربي للموسيقى بالتعاون مع مؤسسة الناشرين العرب. كما قام بتأليف العديد من المؤلفات الموسيقية التقليدية والمتطورة. في هذا الحوار يتحدث الباحث الموسيقي عبدالله مختار السباعي لـ“العرب” عن الموسيقى الليبية والسرقات التي تعرّضت لها سابقا، وسط غياب مدوّنة موسيقية توثّقها.

يقول صاحب كتاب “تراث النوبة الأندلسية في ليبيا”، “لم يبدأ التدوين الموسيقي الفعلي في ليبيا إلّا مع افتتاح قسم الموسيقى بالإذاعة الليبية عام 1957، حيث تمّ تأسيس فرقة موسيقية لتسجيل الأعمال الغنائية الجديدة، وتمّت الاستعانة بموسيقيين عرب للقيام بهذه المهمة لعل من أبرزهم المرحوم علي أبوالسعود المصري في طرابلس، والمرحوم علي أبوالسّعيد (كتّوع) الفلسطيني في بنغازي. وقد قمتُ في رسالتي الماجستير والدكتوراه بتدوين نصوص وألحان وأوزان عدد كبير من الألحان الشعبية، ومقاطع نوبة المالوف الليبية مع إجراء دراسة تحليلية نقدية عليها”.

ويضيف “التدوين الموسيقي، هو نقل الألحان من أنغام مسموعة تنتقل من مصادرها عبر الأثير، إلى رموز مكتوبة على ورق مُدرَّج خاص، تسمح بإعادة أداء وعزف تلك الألحان مرة أخرى، في زمان أو مكان آخر، وهي وسيلة لحفظ تلك الأنغام وتوثيقها. وقد اكتملت الطريقة الحديثة للتدوين الموسيقي في أوروبا منذ قرون عديدة، ولكن تأخر استعمالها للأسف الشديد في البلاد العربية إلى بداية القرن التاسع عشر، ممّا أدَّى إلى ضياع الكثير من تراثنا الموسيقي والغنائي”.

ويرفض صاحب كتاب “نحن والموسيقى” أن تكون أغنية المرسكاوي شكلا جديدا لأغنية راب ليبية، وعن ذلك يقول “الفن المرسكاوي لا ينتمي إلى هذا اللون الغنائي المُستورد، البعيد كل البُعد عن تراثنا الأصيل، فالمرسكاوي أغنية شعبية قديمة موروثة منذ قرون طويلة، نشأت وترعرعت في مدينة مرزق، الواحة الواقعة في أقصى الجنوب الليبي، وهي تنتمي إلى الأغاني الشعبية مجهولة المؤلف والملحن وغير المُدوَّنة”.

ويوضح السباعي أن أغنية المرسكاوي انتشرت عن طريق التواتر الشفهي، وكُتبت كلماتها باللهجة العامية، ولُحّنت في مقامي البياتي والرصد على أوزان شعبية محلية، مُصاحبة بآلة الزمارة والدربوكة والدُّف وبتصفيق الأيدي والرقص. وهي أغنية تُؤدِّي وظيفة كبيرة، وتُستعمل في العديد من المناسبات الاجتماعية في مدينة مرزق. وهناك لون آخر يُعرف بغناء “لالي”، يُؤدَّى في المقام الكبير (الماجور، وهو مقام مشترك بين الموسيقى الشرقية والغربية، ولا تستطيع آلة الزمارة أداءه لأن درجات نغمه تنتمي إلى السلم الغربي المعدَّل)، وبمصاحبة طبل مرزق فقط.

وانتقلت هذه الأغاني عن طريق تجارة القوافل أثناء ازدهارها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى مدن الساحل الليبي الشمالي، وأصبحت من أهم أنماط الغناء فيها. وقد سُجلت العديد من هذه الأغاني في الإذاعة الليبية منذ افتتاحها عام 1957، بعد أن كُتبت لها نصوص غنائية جديدة، وقام بأدائها مشاهير المطربين الليبيين. وقد قام الفنان الراحل محمد مرشان بتسجيل أنماط متطورة من هذه الأغاني المرزقية، خاصة غناء “لالي”، منها: أغنية “جرت السَّواقي”، وأغنية “واطت العين عليَّ”. وفي بداية العقد السابع ظهر لون جديد من الغناء المرزقي في مدينة بنغازي، لا يحمل من ذلك التراث الأصيل إلّا اسمه فقط، قام بأدائه عدد من الفنانين الشعبيين في حفلات الأعراس الرجالية، عُرف بالمرسكاوي، وتمَّ تسجيله بنصوص وألحان جديدة وبمصاحبة آلة الأكورديون والزمارة والدربوكه.

وانتشر هذا اللون على طول البلاد وعرضها، انتشارا كبيرا عن طريق تجارة “الكاسيت” التي كانت رائجة بشكل ملحوظ في ذلك الوقت. ولعل من أهم نجوم هذه الأغنية في مدينة بنغازي: علي الجهاني الشهير بـ”علي ويكه”، وجمال عاشور، وفتحي الصور، وسمير الكردي وغيرهم الكثير.

ويشير عبدالله السباعي إلى أن موضوع السرقات الفنية في مجال الأغنية الليبية، موضوع هام وخطير، يجب العمل على إيجاد حلول سريعة وناجعة له. وقد ظهرت هذه السرقات خلال عقود زمنية مضت، واستمرت لفترات طويلة. ومثاله على ذلك الفن المرزقي الشعبي الذي كان يذاع في بعض الإذاعات العربية، دون الإشارة إلى المصدر الأصلي لهذه الأغاني، وأحيانا كثيرة تُنسب لشعراء وملحنين من تلك البلدان.

ويعترف الباحث الموسيقي الليبي أن هذه الظاهرة تفاقمت أكثر مع ظهور وانتشار الأغاني الشبابية الحديثة خلال العقود الزمنية الماضية، ويوضّح “لعل السبب الرئيسي لهذه السرقات عدم اشتراك الحكومة الليبية في جمعية حقوق المؤلف ومقرها باريس منذ افتتاح الإذاعة الليبية عام 1957، ممّا أضاع حقوق الفنانين، وجعلهم لا يتمكنون من رفع قضايا في حق من سرق أعمالهم الغنائية، وهذا ما جعل أيضا تراثنا الغنائي الشعبي الأصيل في مرزق وواحات الجفرة، وأغاني بعض الفنانين المعروفين، نهبا لكل من هبَّ ودبَّ شرقا وغربا، دون أن يتمكّن أحد من ملاحقة المستحوذين عليها قانونيا، ومحاسبتهم ماديا ومعنويا على فعلتهم”.

وفي المقابل، لا يظن عبدالله السباعي أن الأغنية العربية المعاصرة تُواجه أي تحديات وما حدث خلال العقود الماضية، من ظهور للأغنية الشبابية بنصوصها وألحانها وإيقاعاتها الحديثة المُشبعة بالروح الغربية، ودخول الآلات الإلكترونية والتقنيات الحديثة في تسجيلها ونشرها، وانتشار ظاهرة الفيديو كليب يعدّ تطوّرا طبيعيا فرضه التطوّر العام الذي شمل معظم مظاهر الحياة المعاصرة.

وعن ذلك يقول “لعله من الصعوبة بمكان أن نطلب من شباب اليوم الاستماع إلى أغاني الزمن الجميل والانسجام معها وحفظها وأداءها، بما فيها من نصوص وألحان ومقامات وأوزان تنتمي إلى زمن مضى ولا تتناسب مع عصرهم الحاضر، ونطلب منهم ترك ما بين أيديهم من تطوّر وحداثة”.

ومع ذلك يقرّ عبدالله مختار السباعي أن “أغاني الزمن الجميل لا تزال على قيد الحياة، ولا يزال لها مستمعوها ومُحبُّوها من كبار السن، من آباء وأمهات وأجداد وجدات، الذين يحملون الكثير من الذكريات الجميلة الرائعة التي عاشوها مع تلك الأغاني، ممّا جعلهم لا يستمعون لأغاني شباب اليوم المُعاصرة ولا ينسجمون معها، ويعتبرون أنها تمثل تدهورا في مستوى الذوق الفني”.
 

مقالات ذات علاقة

قصيدة: كم أشتهي

المشرف العام

نهر العذوبة… فيروز في كنف الفصحى

ناصر سالم المقرحي

أحمد فكرون.. نورس الأغنية الليبية

إنتصار بوراوي

اترك تعليق