النقد

طوفان الصحراء

قراءة في رواية (البـئـر) لـ”إبراهيم الكوني”

إلهام الصنابي-المغرب

إذا كان الرأي النقدي الحديث يقول بأن الرواية هي بنت المدينة باعتبارها استجابة لطبيعة التحول المضطرد الذي عرفته الحضارة داخل مدن الإسمنت والأبراج العالية العاجية، فإن الروائي الليبي إبراهيم الكوني قد نقض هذه المقولة من جذورها وأكد أن العمل الإبداعي لا يرتبط بمكان ما إلا بقدر التناغم الذي يخلقه الزمان والمكان في علاقته بالأحداث والشخصيات والبنية السردية داخل الرواية، ذلك أن إبراهيم الكوني قد نسج تخيله الروائي انطلاقا من بنية الصحراء، الفضاء الطبيعي للروائي الكوني، ولكثير من غيره من الروائيين العرب، هذه الصحراء التي سكنت وجدان الكاتب فتبدت صارخة في أعماله السردية، فيُدخل قرَّاءه في متاهاتها عبر بسط قضية جوهرية بين بنياتها الثلاث وهي: الصحراء/الأسطورة/ الواقع، وما يتدرج تحت كل بنية من تداعيات سردية.

في رواية \”البئر\” تتجاور الحكايا الأسطورية التي استندت في بعض محطاتها على التاريخ الحقيقي، ومن بين الأساطير التي حاكتها البنيوية الصحراوية في رواية الكوني، قصة الطوفان التي أخذت حيزا مهما في الرواية ويمكن تقسيمه إلى قسمين هما:

1- الطوفان المائي:

تروي الرواية أنه عندما قُتل \”اطلانطس\” غدرا من الملك، بكته أخته \”تانس\” كثيرا وأخذت على نفسها عهد الثار لأخيها الحبيب بأن قتلت الملك ومزقت جثته، أما \”اطلانطس فقد دفنت جثته وأقسمت أن تنتقم من الصحراء التي أماتته عطشا بأن تروي رفاته ماء غامرة، فقالت للمنجمين وقراء الغيب \”قررت أن أغزو الصحراء الكبرى بالماء…\” ص73، لقد اجتمعت خيوط الأسطورة في هذا الموقف لتحبك نسيج الطوفان الذي عززت أمر وقوعه حركة الكواكب في علاقتها بالقمر.

في هذا الجانب نسترجع قصة الطوفان الذي عرفته البشرية وتحدثت عنه كتب الدين والتاريخ، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: \”حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيم) ٌ41) سورة هود.

أما في التوراة فقد جاء الحديث فيها في الإصحاح السادس إلى الثامن ما يلي \”وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في ستة مئة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة …وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض\” إصحاح 7.

إن القارئ لنص الطوفان التاريخي كما جاء في التوراة يقف على العديد من المتناقضات في الأحداث والزمن والسبب في ذلك راجع بالأساس إلى تأثر الرواية التوراتية بالميثولوجيات السومرية والبابلية على وجه التحديد من خلال ما جاء في ملحمة \”جلجامش\”.

إن التماثليات التي يمكن استنتاجها من خلال قصص الطوفان التاريخية والأسطورية هي:

1- إن الطوفان التاريخي في عصر نوح عليه السلام كان في حقيقته إبادة كلية للحياة الفاسدة التي كانت على وجه الأرض، إلا من حق عليه القول وركب السفينة من كل زوجين اثنين كما جاءت في القصة الدينية، وتأسيس لحياة جديدة صالحة بأمر إلهي.

2- الطوفان المائي عند إبراهيم الكوني هو خلق لحياة رغيدة على أعقاب الصحراء القاحلة، وخلق للزرع والنبات والبساتين والحيوان، وبناء للعمران والهندسة، ومن ثمة نقول إن المفارقة بين الطوفانين هو في ثنائية الحياة والموت، معنى هذا أن الطوفان سواء التاريخي منه أم السردي هو إبادة للموت والتي اتخذت عنوانا لها الصحراء في الرواية، والظلم والكفر في القصة الدينية، وإحياء الحياة والتي تجلت في نجاة من على السفينة، وخلق حياة جديدة بدلا عن الصحراء.

-هلاك الصحراء – السرد.

-هلاك الظلم الكفر – الطوفان التاريخي.

2- الطوفان الرملي:

هو مرحلة تالية للمرحلة الأولى في الزمن السردي عند الكوني، حيث أعاد الحياة الأولى إلى أصلها، وحكايته كما جاء بها الكوني أن \”تانس\” لما أرجعت الصحراء جنة خضراء ومدنا مشيدة بعدما كانت قاحلة لا نبت فيها ولا زرع، وأضحت مزارا رئيسيا، و\”جاء الناس من وراء البحار والأنهار والمحيطات بعد أن أصبحت منارة للعلم والحضارة وقبلة لكل من ينشد العلم أو يتوق للمعرفة، وأصبح يقال بأن أطلانتيا هي جنة الله على الأرض ومن لم يزرها فإنه لم يعش في هذه الدنيا\” ص75.

وإذا كان كل من الطوفان التاريخي والأسطوري الشائع هو فيضان الماء من التنور أو من مواقع مختلفة، فإن الفيضان الرملي الذي يتحدث عنه الكوني في روايته البئر هو زحف الرمال على الحياة، ويرجع السبب في هذا الطوفان الرملي إلى صراع الكواكب مع القمر بعد موت \”تانس\” الملكة التي أخضعت الشعوب بالقوة إلى حكمها، فهي سليلة القمر، وحدادا على موتها حدثت ظاهرة الكسوف لتعطي الانطلاقة للعواصف الرملية والغبارية مدة أربعين ليلة كاملة كما هو الشأن في الطوفان المائي في الرواية التاريخية الدينية، فأغرقت الرمال النباتات والزروع والغابات وجاءت على البنايات والمعمار، وانهارت المدن المشيدة أمام جبروت القوة الرملية العاصفة، ما أدى إلى تدمير كل حياة من زرع وحيوان وإنسان، و\”عادت الصحراء تزحف على الصحراء، قاسية متجبرة، متسلطة، تسيطر على الدنيا كما في سابق عهدها واندثرت \”أطلانتيدا\” منارة العلم والحضارة وبقي بئر \”أطلانتيس\” رمزا بائسا لهذه الحضارة الخرافية التي لمعت فجأة وانطفأت فجأة\” ص76، وبقي البئر شاهدا على حياة كانت بالأمس مهددة بموت في أي لحظة نضوب.

مقالات ذات علاقة

صقيع وتهجيات مواربة

المشرف العام

النصّ الناقص (لعائشة الأصفر).. على هامش الرواية

عمر عبدالدائم

إِخْفَاءُ المَحَاسِنِ وَإِظْهَارُ العُيُوبِ

جمعة الفاخري

اترك تعليق