طيوب عربية

صرخة

زهرة الظاهري (تونس)

من أعمال التشكيلي الليبي توفيق بشير

أتذكّر..

 كنت هنا.. وكانت هي كل الدنيا؛ حبيبتي السمراء الغجرية أهزوجة الصباح العذبة، ترنيمة المساء ورونقه، فراشتي المحلقة بي عاليا، قدري الجميل وأقصى حلمي.

 كم كانت أحلامنا طفولية جدا..

لماذا تتغير أقدارنا نحو الأسوأ فتغتال لحظة فالتة من زمن أخرق سكينة قلبينا العاشقين؟

لم نكن نرى من الحياة غير بهرجها. كنا ننأى بقلبينا عن كل ما نراه ” ترهات الدنيا “..

بروحين داخل جسد واحد كنا محلقين في الأقاصي البعيدة؛ انفلات الحب وانطلاق شبابنا الفتي، سبيلنا الوحيد للانعتاق والتجلي

لا ثالث لنا غير البحر وأغنيات من زمن الحب الجميل وأمنياتنا الصغيرة.. 

في المساءات الحالمة تمتد يدي تعانق يدها ونهرب من كل العالم إلى البحر فيصطخب الحلم بالأمواج المرتطمة بأجسادنا فننتشي حد الثمالة حتى أن السماء تصبح أكثر قربا وتنكسر كل الحواجز بيننا وبين الأفق اللا متناهي فنحلّق في الاقاصي البعيدة..

هناك نعانق سعادتنا الشاهقة. طفلان كنا وكان الحلم الآسر يأخذنا بعيدا.

كنا لعفويتنا نعتقد أن أحلامنا متسامقة جدا لا يمكن أن يطالها واقعنا الواطئ جدا.

 يبدو كل شيء منسجما مع قصة حبنا الصادقة والعنيفة. لا شيء يمكن أن يكون متآمرا علينا. كأن العالم يستمد رونقه من عذوبة الكلام ورقة الابتسامة الآسرة وصفاء قلبينا العاشقين.  كما لو أن جميع الأمكنة شاهد عيان على ولادة حكاية حبنا الكبير.

كما لو أن الطريق لا يمتد لغير مباركة أحلامنا وتوقنا للحياة. الأشجار الممتدة على أطراف الشارع الطويل بدت لنا مرفرفة لأجلنا كما لو أنها تحنو علينا فنستظل بها وننسى أمرنا..  العصافير المغردة تهيأ لنا أنها راعية أمنياتنا الصغيرة.

 لم نع أن الأحلام المنطلقة جدا نحو الأقاصي البعيدة قد تنفلت منا في لحظة ما بإيعاز من قدر عنيد، أحمق.

كم هو أحمق ذاك القدر الذي يغتال الفرح ويقتل رغباتنا المؤجلة.

ها أنا أعود للتو من سفري الطويل وغربتي الآسنة إلى ذات المكان؛ المكان الذي احتضن نوبات جنوننا وحبنا الذي خلناه لا يموت ولا يفنى وفاتنتي التي تحتويني بكل مساوئي وعيوبي مثلما تحمل الأم جنينها في رحم كينونتها، كانت كل وطني وملاذي.

عدت للتو إلى ذات المكان أقلّب ساعات الزمن لحظة بلحظة. أبحث بين أجنداتي القديمة عن أثر ملحمة آسرة، ضحكة صاخبة، همسة ساحرة..

أحدث البحر عن موعد ضاع في غسق الليل وتاه بين غيمات واهية.

ها أنا أجوب المكان القديم بعد أكثر من ثلاثين سنة مرت عن الحادثة الأليمة، الموت المباغت الذي سرق ملاكي مني. كأن الأرض توقفت عن الدوران منذ تلك اللحظة وتعطبت ساعات الزمن وغاب العالم في سبات طويل أما قلبي فقد نسي كيف يخفق..

كنت أسرع الخطى بكل شغفي   إليها وكانت تنتظرني بكل لهفتها على لكن السيارة المجنونة كانت أسرع مني إليها فقصفت عمرها وكسرت روحي.

 كيف يمكن أن أنسى؟ كيف لي أن أتمرن على حبس أوجاع قلبي المكلوم منذ عقود طويلة؟

ها أنا أقف بالمكان القديم بعد كل هذه السنوات ينتابني نفس الذهول وذات الرهبة..

رجف قلبي وتثاقلت خطاي وانحبس الهواء في رئتي. جسدي الواهن لم يعد قادرا على حملي. كدت أفقد توازني تماما لكني رحت أنبش القوة من داخلي وأتماسك لأقترب أكثر.

كل حياتي مختزلة هنا في هذه النقطة تحديدا حدث أن غير القدر مصيري وسطره كما يشتهي

” أيها القدر اللعين يا سبب شقائي ولوعتي التي لا تنتهي “

المكان الذي كانت تصطخب فيه الحياة عند طلتها بدا لي قفرا وموحشا. الشارع الطويل بدا أكثر اتساعا غير أنه يضيق بما حمل. ألمح أياد مقطوعة عن جسدها، سيقانا متدلية انحسرت عن فستان وردي مزق أشلاء، رأسا منشطرا إلى نصفين وشعرا غجريا مبعثرا. ابتسامة ملطخة بالدم القاني ورائحة الموت تغمر المكان.

أشعر بضيق في صدري، أمد يدا واهنة أفتح أزرار القميص، نفس القميص الذي مرغت عليه دماءها على صدري في ذلك المساء الحزين القاتل.

ارتميت على قارعة الطريق وصرخت بأعلى صوتي، انتبه الجميع إلى صرختي المدوية التي كتمتها في أعماقي منذ أحقاب طويلة.

مقالات ذات علاقة

محنة الشعراء

المشرف العام

عملية جراحية لقلب حاقد

زيد الطهراوي (الأردن)

جاسم خلف إلياس يصدر التّحولات الجماليّة في قصص سناء الشّعلان

المشرف العام

اترك تعليق