المقالة

صرت مؤمنا!

من أعمال الفنان محمد الشريف.
من أعمال الفنان محمد الشريف.

في «بيان ضد الكهنوت الإسلامي» (2016) عالجت بعض القضايا المتصلة بالدين، كنت جادّاّ وحانقاً آنذاك، تلك كانت مناقشة أحاديّةً محدَّدة الهدف تسعى إلى أنسنة الحاجة إلى الإيمان بالدين، أعني كحاجتنا إلى الشعر والرجاء وسرد الأساطير، وتتساءل عما إذا كان بالإمكان تخليص الإيمان من شبكة العنكبوت الذي حُشر فيها. هنا لن أقصر حديثي عن ديانة واحدة، سأركّز دائماً على معطاة رئيسة تتلخّص في أن الديانات «الإبراهيمية» الثلاث تتشابه وتتكامل بغض النظر عن صراعها، إذ طالما أن منشأها واحدٌ – كما تقول التقاليد الدينية – منذ أن اضطلع إبراهيم بمهمة تعريف البشر على خليله المعبود، فإن ما يقع بينها هو مجرّد صراع بين أخوة أعداء. وإلى هذه الآصرة النّسابيّة الأبويّة نستطيع أن نضيف ديانات أخرى مشابهة أيضاً للعائلة الإبراهيمية المقدسة، وإن اختلفت – بهذا القدر أو ذاك – في آليات الهيمنة وعدد الأتباع وتصورات الجزاء والعقاب. في الحقيقة أيّ دين آخر في العالم يشبهها مع أخذنا بعين الاعتبار أصالة خصوصياته.

أليس صوت الأبولوجيا الإلهية واحداً بالرغم من تنويعاته؟ علينا أن نقول أيضاً أن صوت الإلحاد واحدٌ في تنويعاته هو الآخر. إن أصواتهم تتشابه، ودفاعهم متشابه. الجدل والحجاج الذي صنع تاريخاً بينهم لا يكاد يختلف، إنه تاريخهم المشترك؛ أسئلتهم لا تكاد تختلف:

– تزعمون وجود إله! اثبتوا هذا. نحن على يقين.
– ترفضون وجود إله! انفوا ذلك. نحن على يقين.

حلّل هذا، حلّل ذاك؛ ثمة شيء من المرح هنا. يميّز المرح أنه بسيطٌ، وساذج أحياناً، أما إذا تعلق الأمر بالدين فإنه معقّد بعض الشيء. نضحك كثيراً دون أن نبتهج بالحياة. إننا لا نتخلّص من ثنائية الإعجاب والارتياب، بل نؤكدها، متشبثين بأن الحياة أسهل مما نعتقد، بالرغم من أن قليلين – كما يقول جون لوك – سوف لا يشعرون بالإهانة إذا سألتهم عن معنى هذه الكلمة. ما يستأثر باهتمامي هو أن الإعجاب والارتياب أصبحا بديلاً إنسانياً مرِحاً عن أصل عميق هو الإثبات والنفي، فأي تفسير يتطلّب تفسيراً آخر، هو مسارٌ لا نهائي يتكرّر في صيغة متواليات رياضية ينتهي كلّ مرّة بالعودة إلى المعطاة الأولى موضوع الجدل. التحليل يؤدي إلى المزيد من الفوضى ما لم نجد موقعاً مناسباً.

عندما تدور وحدة الأنا Solipsism على محور الإله، يتحول الإيمان إلى كيفيات محسوسة Qualia، يخرج الإيمان من ممكنات التفكير إلى أرشيف الشواهد الحيّة. مع الممكنات تكون الاختيارات محدودة، ومع الشواهد نحيل الواقع إلى «العالم بوصفه إرادةً وتمثّلاً» (أرتور شوبنهاور – 1818). مَن يقنع واحداً مصاباً بذلك أن الأمر ليس كما يعتقد؟ “الشيء” الكانطيّ في-ذاته خارج عملية التماثل. لن أنخرط في التحليل النفسي الممسوس فلسفياً، لكنني في حاجة إلى الحديث عن المؤلِّهين والملحدين، على السواء، كما هم، على مسرح الصراع. إنهم جاهزون ويتسلّحون بعتادٍ قوي من النظريات والأفكار، وهم أيضاً يجاهرون بالعداء على نحو متأصل وحقود.

ما زالت فكرة وجود الإله في حاجة إلى إثبات، ونفيها كذلك. وجود الإنسان بالمقابل لا يحتاج إلى ذلك، ولكن فكرةَ إنسانويةِ الأديان يعوزها الإثبات كذلك. نيتشه وحده رأى جثّة الإله، ولكنه لم يقدّم دليلاً مقنعاً.

كثير من الأسئلة العالقة بين طرفي هذا الجدل الخلافي هي مجرّد ألعاب منطقية. إنها ببساطة: بدون معنى متواضَع عليه، ربما فقط إضفاء بعض المرح على هذا الموضوع اللانهائي، ولا يبدو أن الجدل بين المؤلهين والملحدين سينتهي قريباً. لقد بدأ منذ ظهور الدعوات الدينية الأولى مع استقرار المجتمعات الإنسانية على ضفاف الأنهار المداريّة وبدء الحضارة، والمؤلّهون – سواء آمنوا بإله واحد أو آلهة شتى – لديهم حجج كثيرة. الملحدون بدورهم لديهم حجج مضادّة. إنه جدل لا يعوزه منطق صوريّ، ولا تعوزه المغالطات، وهو يستفيد من حقول علمية وفلسفية كثيرة، ويسعى إلى توظيفها بشكل انتقائي. جدل الطرفين معادلة تطبيقية لنظرية اللعب. ولكن ألا نقف على جانب آخر من هذا الجدل! سأعيد التذكير بحركة منهجية استخدمها سارتر في مقدمة «الوجود والعدم» (ص 13) وهي تنسحب على تعاملاته الدؤوب: «جلد سطحي يحجب عن الأنظار الطبيعة الحقيقية للشيء. وهذه الطبيعة الحقيقية، بدورها، إذا كان ينبغي أن تكون الحقيقة المستترة لشيء، التي يمكن حرزها أو افتراضها دون بلوغها أبداً لأنها «باطنة» في الشيء موضوع النظر، نقول إن هذه الحقيقة المستترة لا توجد هي الأخرى». يمكننا أن نقتدي به، ليس لتقديم رؤية متماسكة للعالم، ومتّسقةٌ، نستطيع الدفاع عنها بشرف وشجاعة، دون أي التزام أيديولوجي، ولكن لكي نرى. لكي نستطيع أن نرى. الملحدون ينفون السمة العقلانية لإثبات وجود الإله، ويحيلونه إلى النزعة الإيمانية. المؤلّهون يؤكّدون النزعة الإيمانية، ولكنهم يؤسسونها – يقولون – على شروط عقلانية. جدل طريف برغم الشراسة التي يبدو به.

الآلهة عبر التاريخ الإنساني لم تقف وحدها، فعلى هذا الجانب العلوي نجد: شياطين وجنيّات وغيلان وعفاريت وأفاتار وأنصاف آلهة وكائنات علويّة أخرى. الأنبياء استمرّ دورهم بالنسبة للأديان ذات الأصول البعليّة الثلاث (اليهودية، المسيحية، والإسلام) حتى منتصف القرن الخامس الميلادي، ولكن خارج فضاء الشرق الأدنى استمر وجودهم في إفريقيا مثلاً حتى القرن العشرين، وبعضهم أحياءٌ. الأمر يختلف بحسب التعريف الذي نعطيه لكلمة نبي، وبحسب قابلية الاعتراف بدوره في مجتمع ما.

المقدَّسون يواصلون وجودهم أيضاً، هناك أولياء وقدّيسون ومباركون، وهم خطّ دفاع حقيقي يستعين به المؤلهون، هؤلاء لهم حضورهم الفاعل، ولكن لابد للجدل من حيثيّات منطقيّة مقنعة.

في المقابل، توطين الآلهة، أنسنتها وحصرها ضمن حدود الطبيعة، باللجوء إلى أرشيف الميثولوجيا، يوفّر للملحدين دعماً قوياً يؤسسون عليه حجاجهم، ويمنحهم بقوة المقارنة سلطةَ تفعيل الفكرة الأساسية في جدلهم وهي تقديم إجابة واضحة عن كيفيّة خلق الإله عبر التاريخ ومراحل تطوّره بتطوّر الحاضنة البشرية. ولكن – مرةً أخرى – لابد للجدل من حيثيّات منطقية مقنعة.

يستند حجاج المؤلّهين والملحدين على حيثيات كثيرة. جميعهم مقتنعون، وهم قادرون على الإقناع المنطقي تقريباً. التفكير في الحيثيات قد يضعنا في موقف ثالث. الحيثيات التي يستخدمونها ليست حكراً على من أراد أن يؤلّه ومن أراد أن ينفي رغبة الآخر في التأليه.

لا أحقّر المؤلّهِين، ولا يعنيني كثيراً أن أزكّي الملحدين. يفصلني عنهم زجاج شبه سبينوزي سميك. أرى تلك البقعة الرمادية التي يلتقون فيها دون أن يصطدم أحدهم بالآخر؛ هنا يصيرون انعكاسات متتالية لبعضهم البعض، مثل مرايا متقابلة، هنا كان علي أن أتعلّم أن إصابتي بعمى الألوان أصبحت ضروريّةً، وهي ليست أمراً مسيئاً على أي حال. إن الجميع ينخرطون في ألعاب لغوية تدعم ثقتهم بأنفسهم، هم يواصلون تأجيج الخصام للدفاع عن حقوقهم، ومن أجل ذلك يجيدون تخييل العالم واختراع العلل والمبادئ الضرورية لإثبات الأهليّة بالحقيقة، ولنزع الفضيلة عن خصومهم. إنهم يعانون من مختلف درجات الاستلاب، والمتطرفون منهم تنبعث فيهم قوّة إرادة روحية تجعلهم بؤساء من الناحية الذهنيّة. بقدر ما يكون حجاجهم قويّاً بقدر ما يصبح ساذجاً. بألعاب اللغة يوجّهون خطاب الأصول المفترضة إلى مسارات محسوبة ويواصلون رمي الخصوم بشبهات الانغلاق والتحجّر. يقولون: “الجمل لا يرى عَوَجَ رقبته” (مثل بدوي سمعته مراراً)، ولتأييد مواقفهم تتيح لهم اللغة اجتراح أدوات محكمة ليست آخر الأمر إلا إعادة إنتاج جديد لأواليّات قروسطيّة قديمة هدفها الدفاع عن النفس.

لسنا مضطرين للحديث عن يهوه Jehovah أو الرب Lord أو الله Allah.. إلخ. ماذا عن «فكرة في حد ذاتها»، أن نضع الجميع في سلة واحدة، وأن ننسى – لوهلة – أنهم يختلفون؟ ماذا يعني أصلاً أنهم مختلفون؟ لا شيء، تلك هي السمة الرئيسية للكهنوت وحق احتكار المعرفة الغامضة، وهي أيضاً سمة رئيسية للمتدينين من غير رجال الدين. وفي كل الأحوال فإن رفضي للتديّن ينطبق على جميع الديانات، مع تركيزي أحياناً على الديانة الأقرب وهي الإسلام، فأنا عشت خمسين سنة مسلماً اعتيادياً، قبل أن أبدأ ممارسة ما يحلو لي تسميته بـ«التجريد»، أعني تجريد المعتقد مما لحق به من زخارف ركوكيّة ونقوش أرابيسك على مرّ العصور، ولكي أصير مؤمناً آخر الأمر.

مقالات ذات علاقة

سواق الأُوتوبوس (ص)

نورالدين خليفة النمر

المضمون الفكري في المظهر

أحمد معيوف

لماذا ندرس اللغة العربية؟

المشرف العام

اترك تعليق