قصة

شهرزاد الشاي..شهريار السيف

لم يكن لشهريار جدة تدلّله وتحكي له الحكايات كل ليلة، كان يشعر بالفراغ وبأن ثمة شيء ما ينقصه ويجعل البطالة تتلاعب بواقعه الفارغ فواقع شهريار المقطوع من الحكاية مليء جداً بالفراغ حتي التخمة. كان سيف ذكورته أكثر عطشاً منه للحكايات فاستفز لاسيفية شهرزاد لتروي له ما لم يعلم، مل سيفه فتوحات الحواس وتاق لفتوحات المخيلة الممتنعة عنه في ممالك الحلم.

إذاً كان شهريار مصاباً بالتوحد وعلى شهرزاد تأهيله من جديد عبر الحكاية ليحيا كرجل ويحكم كملك، بدأت شهرزاد بإعداد افتتاحية حوارية تضوع منها نكهة الفتوح قائلة (بلغني) مع تطعيمها بالسعادة التي تعوزه (أيها الملك السعيد) وتسلحت بالوقت الطويل (ألف ليلة وقيلولة) لتحصل على غايتها في تأجيل حكم الموت الصادر بحقها لا لمجرد التأجيل بل ليرسخ في يقين مليكها تفاهة المسعى إليه من الأساس.. مع الوقت صارت شهرزاد هي الحكاية فتعلمت منها النساء كيف تصاغ الأحداث وكيف تلقي الأحاديث ولم يعد هناك ذكر واحد يستمع ويُرِعبُ – تعدد الذكور وهم مرعوبون ـ وظلت الأنثى سيدة السدة وصار إدمان حكي الأنثى للذكر مثل تقاليد ثقافة إعداد الشاي وشربه اقتصرت في أولها على الخاصة ثم استشرت بين العامة.

جلست بقربه وكانت افتتاحيتها مبدوءة بـ(سمعت يا حاج) وعدة الشاي (العدالة) بصددها تهبها مبررات إطالة زمن الحكي، هناك مائة طريقة لإعداد كوب شاي سريع وطيب لكن الطريقة الليبية في صنع الشاي حانية واجتماعية وغير مبالية بعنصر الزمن، تمنح مجالاً للإقدام والإحجام والتفاوض والتسوية، طريقة لا توفرها طرق إعداد الشاي في العالم الآخر، تلك التي تحسم الأحاديث في كلمةٍ وردها.

يُحسب لطريقة صنع الشاي وشربه عند الليبيين أّنها طريقة أنثوية شهرزادية في مط الحكاية (تخديمها) وطبخها (تعقيدها ) وتقسيمها إلى أدوار (أول وثاني وثالث) وإحاطتها بالمشوقات (الكشكوشة أوالرغوة) فتسحب بها الذكر من أذنيه ليستمع مُسلِّماً راضياً، وإذا كانت شهرزاد في الأصل ابتدعت الطول للنجاة من القتل فإن شهريار الليبي لم ينجُ منه في أحاديث امرأته وصانعة شايه، فهي تقتل فكرته ببطء خلال زمن الشاي وتحيى فكرتها.

يبدأ شهريار الليبي مثل جده ثم يختلف فيستمع وهو نائم ليصحو ويتيقظ بأمور ومجريات دقيقة لا تراها عيونه المفتوحة وتنجح عينها الوحيدة من وراء الفراشية في صيدها له وإقناعه بصلاحيتها للالتهام والتشرب والاحتواء.

قـال لها:

– كان جبتي بنت روحي لحوش بوك منك غادي.

لقد أعطاها وقتاً طويلاً لتفكر كيف تجعله لا يفعل!

خفضت رأسها للعاصفة ولبت رغبته فحزمت ملابسها ومواد زينتها باكراً وجعلت صرتها عند الباب يتعثر فيها إن دخل ويسقط عندها إن خرج، وكانت بطنها صرة محمولة يراها أمامه إذا قلب نظره هنا وهناك وتلتصق به إذا نام كما تلتصق شبيهتها بعتبة الباب، سمعت تهديد المهُدد ولم تصنع حياله شيئاً سوى أن استرسلت في الأحاديث الليلية وفي الشكوى الغنائية النهارية للرحى الحجرية من ظل الرجل الذي وازنت به ظل حوائط منزل الأسرة، غطت هياجها الداخلي بالهدوء وقالت لصغارها في المساء:

– اسمعوا يا صغار أولاد هلال لازم ينطروا كل ليلة وإلا تطبق السما ع الوطا.

ولأنه حين كان مستمعاً صغيراً في حلقة جدته تعلم ألا يجادل في الضيق أو الاتساع بين كل طبق من أطباق السماء والأرض، تواصل مع ذكر أولاد هلال وسيرتهم الفذة فاسترخى لها أو لطفولته ليهدأ الصغار ويملك أن يهجع ويرى نفسه في ثنايا الحكاياتة، في شخص الملك والفارس والرعية والجن والعفريت والعاشق والفلاح والبطل المقاتل وصلاح سواني الغير دمار سواني بلاده، فانصهر شيء من فكرته الحديدية ولان معدن السيف في داخله فسهل طرقه وثنيه وتطويعه، استرخى أكثر لراحة فخذها وحسيس أصابعها في شعره وللحكي غير الهلالي الذي لم تلتصق به السماء بالأرض، إنما شيء فيه على أشياء منها، فلما سألها وهو سديحٌ لِمَ لا تتزينين كالنساء ؟ قالت لا أجرؤ على مخالفة أوامرك وفتح الصرة أو حتى إزاحتها من مكانها عند الباب.

سكت لأنّه تذكر عثرة من عثراته بها.

سألها وهل أَقْرَبَتي ؟*

قالت: أجــل….

فلما حان الأجل وضعتها أنثى… فانقلب المُهددُ مُهدهدا ً، وجئت أنفرد بالحكي في مملكة ذكورية تعتز بالشاي وطقوسه مثلما يتفرد الليبيون بين العالمين بأن مشروبهم الأول هو الشاي وسيظل الشاي لا القهوةِ المرةِ ولا شاي الأكياس البديع السريع بل شاي (العْدَالَة) تحديداً لعلاقته الرمزية بعدالة ما مفقودة بين السامع والمتحدث!

* فصحي وتعني شارفتي على الإنجاب.

بنغازي البؤس في يوم بائس بلا تاريخ

مقالات ذات علاقة

الدرويش

محمد محمد الأبي

عصافير

محمد إبراهيم الهاشمي

الأطرش

محمد النعاس

اترك تعليق