قصة

سر ما جرى للشيخ الكبير

أمينة الصبيحي

من أعمال التشكيلي محمد حجي.
مثقف من أعمال التشكيلي محمد حجي.


يحمل الشيخ إبراهيم الكتب إلى شقته ويضعها داخل صناديق كرتونية. شقته مكتنزة بالكتب، تغطي الصناديق الجدران، والنوافذ.

أحيانا، يتداول الجميع الحديث عن سقوط بعض الكتب من شقة في الدور الرابع، داخل العمارة المطلة على الشارع الرئيسي. يتجمع الجمع لصعود الدرج، طارقا باب شقة الشيخ إبراهيم. يفتح الباب ممسكا كوبا فارغا، يقوم بتعديل نظاراته، ومن ثمّ يبدأ الحديث الذي يصل صداه حتى نهاية الشارع. لا يستقبلهم، فليس ثمة مكان يتسع لكل هذه الجثث، يعايرونه بصرف كل هذه الأموال على الورق، ينفخ صدره، ولا تصدر منه أي ردة فعل، فقط يطمئنهم بأنه سيتوقف عن فتح النوافذ، وربما.. ربما.. سيتوقف عن شراء الكتب.

إلا أن الشيخ إبراهيم حقيقة، لم يشتري كتابًا يوما في حياته، وكل هذه الكتب عبارة عن تجميعات يقوم بالحصول عليها كل صباح أثناء جولته التفقدية حول المدينة.

على طاولة المطبخ، يجلس لأكل الفطور، تغطي الطاولة خريطة صفراء اللون لمدينته الكبيرة “بنغازي”، يضع عليها نقاط حمراء تشير إلى توزيع المدارس في المدينة. فبعد الثورة أُهملت المكاتب في المدارس، وأُلغيت حصة المكتبة.. فيما عادا القليل جدا.

استرق السمع لحديث جارته المعلمة، التي كانت تحادث جارتها عن أن الكتب الآن تُرمى في الشوارع، وحتّى أنّ المدرسة التي تعمل بها، رمت الكتب داخل فصل كبير جدا، بسبب الصيانة التي لازالت مستمرة منذ ثلاث سنوات.

“لم يعد أحد يقرأ الكتب في وقتنا الحالي!.. للأسف”.

اخترقت العبارة طبلة أذن الشيخ واستقرت بداخل أذنه وأخذت براحًا..

لحق الشيخ ابراهيم جارته صباحا، وعلم مكان مدرستها، وعند حلول المساء، تسلس داخل أسوار المدرسة المنشودة، بحقيبته الجلدية ومصباح صغير ينير له طريقه. يفتح كل باب فصل يمر بجانبه.. وهكذا استمرّ إلى أن وجد مراده.

فصل كبير جدا، يتوسط الفصول الدراسية الصغيرة، ممتلئ بالكتب التي تغطيها الأتربة، أمضى ليلة كاملة يعاينها، لم يكن لديه الوقت الكافي للاختيار، وقراءة ملخصاتها، ثمّ حمِل منها ما حمِل وتوجه إلى شقته عائدا، فرحا لما تحمله يداه.

وهكذا، يقوم بعمله هذا كل يوم، متنقلا من مدرسة إلى مدرسة، صباحا يجلس لإعداد الفطور، يأكل ويقرأ كل ما تقع عليه يداه، حتى أنه في مجالس الشيوخ أصبح يجلس متحدثا عن …… وعن …… وعن…… يستغرب الجميع هذه الأسماء، يرمون أوراق اللعب، ويسألونه عنهم، لكنه أيضا لا يعرف من هم، فقط يعرف ما يكتبون.. فيبدأ بالحديث عنهم من شخصياتهم الروائية التي يكتبون عنها أو من الملخصات المذكورة عنهم على الأغلفة.

لم يمضي عمل الشيخ إبراهيم باحتجازه للكتب هكذا، يحمل حقيبته البنية ليلًا، ويخرج متوجها نحو مدرسته التالية، يقص طريق الساحة الخلفية المليئة بالأشجار، كغابة صغيرة تسكنها الذئاب ليلا، ينتبه إليه بعض السكارى والحشاشين، ثلاثة، صغار في السن، يربطهم ببعضهم البعض رباط مطاطي وإبرة واحدة، انتبه أحدهم لوجود الحقيبة، وفكر..

“ربما سنجد عند ذلك المسن المال، لنشتري الإبر، والرباطات”

لحقوه، حتى استأنس داره، ووجد الكتب، وما إن دخل وبدأ بالتقاط ما تمد له يديه، حتى أوقعه أحدهم ضربا، وسقط مغشيا عليه. فتشت حقيبته، وملابسه، ولم يجد عنده شيئا.. ما عادا ورقة وقلم حبر جاف، وكتاب. أمسك أحدهم الكتاب ورماه على وجهه.. ورحلوا.

استيقظ المسن، وأمام غبش عينيه يظهر شيئا فشيئا عنوان لكتاب ينام مستندا على خده، يفتح عينيه تماما، ويستيقظ.. الشمس على وشك الشروق، سيرن الجرس بعد ساعتين، ويبدأ الجميع بالتوافد على المدرسة، سينكشف أمره.. أخذ الكتاب ونهض ينفض التراب من على رأسه وكتفيه وبنطاله، رماه في الحقيبة، وخرج مسرعا يبحث عن ممر آمن.

ما إن عاد إلى شقته، حتى نفض الكتب الموجودة على الأريكة وأتاح مكانا له، جلس يتأمل السقف، وسبب نجاته. صلّى، وشكر الله، ثم أعطاه ميثاقا بأنه سيتوقف عن سرقة الكتب العامة.

ثم فكّر من جديد، وحاور نفسه بأنها ليست سرقة بل ما يقوم به لهو فعل بطولي، إنه حامي الكتب من سوء الاستعمال والإهمال. ثم جلس بقية أيامه يفكر بالذين أبرحوه أرضا.. “شرطة؟.. آمن داخلي!!” يقول محدثا نفسه بقلق، “لكن من أين؟”.

يفتح حقيبته ويتصفح الكتاب الذي يظن بأنه قد أنقذه من الموت، يقرأ العنوان “سر ما جرى للجد الكبير” يفكر كثيرا، ثم يضع الكتاب على الطاولة، وينتبه-لأول مرة- لضيق شقته. يحاول التنفس ولكن يفشل في ذلك، يتوجه نحو المطبخ ويقوم برمي الخريطة التي ترسم معالم المدينة، تسقط الدبابيس الحمراء أرضًا، مخلفة خطًا من وراءه يقود إلى سلّة القمامة. يواصل تنظيف شقته، يفتح النوافذ ويبدأ بإسقاط كل الكتب في الشارع، تشكل هرمٌ من الكتب أسفل نافذته. حاول المارّة النجاة برؤوسهم، حتى طرق الجيران الباب عليه، لكنه استمر في رمي كل الكتب إلى الشارع، وما إن انتهى من عمله، حتى ازداد طرق الباب.

أغلق نوافذه، وعاد ممسكا بكوب كبير فارغ، مرتديا نظاراته، فتح الباب، واستقبل جيرانه لأول مرة، “تفضلوا” قال ببالغ الأدب، محنيا رأسه قليلًا، استغرب الجميع، ولكنهم أيضا رغبوا بالدخول ورؤية شقته التي لم يرها أحد مسبقًا.

“تفضلوا” أعاد مجددا على مسامعهم، بينما أحدهم يصرخ من الخلف متحدثًا عن نجاة رأسه من سقوط أحد الكتب عليه.. فتح ذراعيه، وعلى مديهما قادهم إلى الصالة الفارغة من كل شيء، ماعدا صالون بثلاث كنبات، وطاولة صغيرة في المنتصف عليها كتاب واحد، فارغة من كل شيء.. أجلسهم وحادثهم وضيفهم، ونسيَ الجميع أمر الكُتب في الخارج ومضوا بدهشتهم فرحين بما رأوه.

لم يعد الشيخ إبراهيم يخرج من شقته بتاتا، يعيد قراءة كتابه الوحيد مرارا وتكرارا، ويسأل ابن جارته الذي يزوره كل صباح لأخذ نقود الخبزة والحليب منه “هل تعرف سر ما جرى للجد الكبير؟*”. يجيب الصغير بالنفي، ثم يؤكّد الشيخ على أنّه أيضا لا يعرف شيئًا..

“لكنّه أنقذني” يقول.. مؤكدًا على ضرورة احضاره لخبز ساخن.


* سر ما جرى للجد الكبير: مجموعة قصصية للقاص الليبي “علي الجعكي”.

مقالات ذات علاقة

نصوص من بلادي

محمد الأصفر

عمي جميل

زياد علي

حاء الحكاية…

محمد العنيزي

اترك تعليق