زويلة
سرد

زويـلـة


كنت صغيرا، تختبر الاشياء من حولك، تعشق رائحة التراب المالح في قريتكم وهو يحتضن قطرات الندي التي تسللت علي حين غفلة من الفجر ، لا تعرف الا بيتكم المبني بالطوب وجريد النخل وتلك النخلات الطويلة التي انحنت من الزمن، تسلك طريقك الي العيادة، تلفح وجهك تلك النسمة الباردة والجافة ذات الوقت والتي تحالفت مع الملح لتشقق وجنتيك ، وحين تقترب تشم رائحة القش وهويحترق مخلفا عمودا من الدخان.

كان العم موسي بجانب ابيك يعد الشاي امام العيادة يلبس معطفا عسكري ويمد يديه الي النار مستشعرا الدفئ الصاعد من النار، تقف بعيدا كالأرنب، تنتظر الإذن، فالجلوس معهم ليس سهلا اذ ان الصغار مثلك لا يسمح لهم بمجالسة الكبار، تعال يا ولد، يناديك ابيك، تنفرج اساريرك، وتحك شعرك الكث تعبيرا عن دهشة وفرح ممزوجتان ببعض الريبة ، في الاثناء تتعالي اصوات التلاميذ في مدرسة القريبة من العيادة يرددون وراء معلميهم ، وانت مطرقا راسك تنظر الي قدميك التي تغطت بالغبار لكن أذنيك تلتقط حكايات ابيك عن الماضي عن شبابه عن حبه للنخيل، يخبر ابيك العم موسي عما إذا كان يريد شيئا من زويلة فهو ذاهب في المساء.

زويلة بالنسبة لك بلد العجائب ما برحت تبهرك بطرقها المعبدة ومنازلها التي بنيت حديثا في زيارتك خلال الأعياد ومناسبات الاقارب كنت تتمني دائما ان يصطحبك ابيك معه و هاهي فرصة قد حانت، تتقوقع الحروف في حلقك، تبتلع ريقك تحاول قذف كلماتك دفعة واحده، تشعر بالتردد وفي اخر المطاف تقول نبي نمشي معاك ، كان ابيك منهمكا يفتل حبلا من ألياف النخيل بمهارة فائقة كنت تراقب حركته الخفيفة منتظرا الإجابة مرتكزا علي يديك.

ارفع هالشكارة للبيت بيش تمشي معاي.
قالها ابيك من دون ان تتوقف يداه عن الفتل، طرت فرحا وأنت تحمل ذلك الكيس الصغير يتزاحم عقلك بألف حلم وحلم تقفز فتقفز معك التمنيات وتنشد لك عصافير القرية أنشودة الفرح.

في المساء وعلي حين غفلة منك تسمع هدير سيارة ابيك الاندروفر ، كان صوتها مميزا فهي الوحيدة في القرية تنتفض فزعا تبحث عن حذاءك البالي ، تجده بعد عناء، تطلق ساقيك النحيفة للريح ،لم يبقي للسيارة من اثر الا غبارا شق الأفق بين النخيل، تجري يطير حذاءك، تشق الدموع وجنتيك تجري وتجري وتجري حتي تسقط منهكا رئتاك تكاد ان تحطم ضلوعك ، تمر السنين مر السحاب، تكبر في تلك القرية ، تنتقل تلك التشققات علي وجنتيك الي قلبك ، ويكبر فيك الألم ، تعاود الجري من مدينة الي اخري ومن مطار الي مطار يرحل ابيك الي الرفيق الأعلى دون اخبارك لكن هذه المرة لن تجري للحاق به لأنك تعلم انك ستذهب اليه يوما.

8/10/2019

مقالات ذات علاقة

هل تعرفون ماذا حدث حين فتحتُ الحقيبةَ؟

حسام الدين الثني

الدواء عند لغدامسي

إبراهيم بن عثمونة

رواية: اليوم العالمي للكباب – 1

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق