قصة

زوايا الصمت

من أعمال التشكيلي بشير حمودة.
من أعمال التشكيلي بشير حمودة.

الشارع الطويل الكئيب، خال من المارة تماماً، الظلام الدامس الموحش يلفّه بعباءته الباردة القاتمة، بينما جثم سكون رهيب على ذلك الزقاق المبلل بحبات الندى التي استقرت على رؤوس العشب الرمادي الموشح بالصفار الذي نما بين فواصل الحجارة المربعة المرصوصة منذ قديم الزمان كأنها لوحة فسيفساء إغريقية، ليل ذلك الحي يكاد ينجلي، بينما تتسلل بين ثناياه أنات لعجوز تنازع المرض، تشكو رب العالمين بدعاء في جوف الليل، بعضاً من جدران البيوت تآكلت بفعل الزمن وعوامله، اتخذت بعض الطيور ملاذاً لها في غائر تلك الحفر، يلوح في الأفق البعيد ضوء سراج باهت بالكاد يمكنه اختراق العتمة الرابضة على محيط ذلك الحي الذي يغرق في نوم هادئ طويل، لا يعكر صفو هدوءه سوى أصوات الحيوانات الضالة التي اعتادت على الشجار ليلا، ولا تأبه للمارة العائدون لتوهم من صلاة الفجر والذين يحاولون عبثا ابعادها عن سكون المكان، بيد أنها تتوقف هنيهات، وتعاود متحمّسة لشجارها الذي يتغير فجأة إلى استعراض لمهارات وألعاب حركية، يحدث ضجيجا يفزع بعض الصغار النيام، عثمان ذلك الشيخ الطاعن في السنِّ يبدو أنه قد تجاوز قبل اسبوعين عقده الثامن، إنه أكثر السكان معرفة بذلك الشارع الطويل الذي اصطفت على قارعتيه بيوتٌ مرصوصة تكاد تشبه من حيث الشكل بعضها البعض الأخر، إلا أنها الأتحدت في أسلوب البناء ومواده التي تكون الحجارة والطين والتبن أساساً له، بينما جلبت الحجارة الصلدة من جبلٍ يجاور ذلك الحي، وأمّا جذوع النخيل وتبن البحر أو القش فهي أساسٌ لا يمكن الاستغناء عنها عند وضع أسقف تلك البيوت، صبيان وشباب الشارع تربطهم صلات وثيقة وحميمة بالعم عثمان الذي اعتاد أن يتولى مهمة إيقاظ الصائمين في شهر رمضان، فهو المسحراتي الذي يألفه الناس ويحبونه، ينتظر الصبيان بفارغ الصبر قدوم الشهر الفضيل، لكي يخرج العم عثمان إلى الشارع، ويبدأ مشواره ككل ليلة رمضانية قبل حلول الفجر وهو على هدا الحال لا ينقطع عن قوله بصوت متقطع : اصح يا نائم وحد الدائم ، يصاحب ذلك نقر جميل على طبله الكبير الذي علقه بعناية على كتفه الأيمن، بحمالةٍ صنعت يدوياً من الجلد، تغمر سكان الشارع سعادة غامرة، وينتشون أيما انتشاء من أسلوب العم عثمان المسحراتي، وطريقته في الإنشاد والأداء والتي لم ولن تتغير أبدا، فقد ارتبط بهذا الشهر الكريم أيما ارتباط، العم عثمان شاهد عيان على عصر هذا الحي وشارعه الطويل وما تخلله من أحداث عظيمة متباينة مفرحة ثارة ومحزنة ثارة أخرى، وبرغم تدهور حالة العم عثمان الصحية، إلا أنه لايزال يتذكر كافة الأحداث الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فهي بين ناظريه لا تنقطع، وما ان يبدأ في سرد بعضاً من تفاصيلها، فكأنك به يعلق على شريط تاريخي وثائقي، انه رمز للمكان وقيمة اجتماعية عظيمة، بالرغم من طعنه في السن وعيشه مع وحدته القاتلة بين زوايا بيته التي يلفها الصمت، فهو يرشد الآخرين ويسدى إليهم بنصائحه النادرة وعظاته الخلّاقة، وبهذا يبقى في نظرهم جميعاً أيقونة تزدهر وتزهو.

عند المساء وفي عشيات الصيف البليلة وعبر حلقة مؤانسة اجتماعية يجلس بعض مرتادي مقهى الحاج مصباح وكلهم آذان مصغية، حين يسترسل العم عثمان في سرد مواقفه وتجاربه وذكرياته بأسلوبه الذي يأسر القلوب، فهو يمزج ذلك ببعض الابتسامات التي ترسم على شفتيه باهتة هزيلة، تكشف عن أسنانه الصفراء بفعل لفافات السيجار! التي يسحبها بأصابعه النحيلة المرتعشة من علبة حديدية صغيرة، داهم جنباتها شيء من الصدأ، وكثيراً ما يجد عناءً عند إشعاله النار من أعواد الثقاب، فقد دأب منذ شبابه على تعاطيها بشراهة ونهم، لا يمنعه عنها إلاّ موجة من سعال حاد تصدر عن صدره المضطرب، ناهيك عن أنها قد حرّقت رؤوس أصابع يده اليسرى فصيرتها مصفرة أيضا ! حال غدوه ورواحه لا تسمع إلا خطواته الثقيلة المترنحة وهو يجر نعليه جرّا على سطح الحجارة الصّماء، يتابع بعينين غائرتين كل تفاصيل الشارع الطويل الذي لا يخلو شبر فيه إلّا قد نحت عليه نقوشاً بديعة من ألوان الذكريات مذ ترعرع بين نواصيه، فكل الخواطر هنا رسمت، والذكريات كلّها هنا وسّدت، لم يبرح الأسى والحزن نفسه منذ فقد رفيقة عمره قبل عشرين عاما إثر مرض عضال لم يمهلها طويلا، لقد عاشا أحلى أيام حياتهما، إذ تقاسما معا حلو الحياة ومُرّها، ومتسعها وضنكها، حفلا معا بالسعادة، وواجها بقوة فصول الحزن والألم، لم ينغص عليهما سعادتهما أحد، فهما عنوان الإخلاص وديوان الوفاء، وبرغم مناشدة الجيران وأهل الحي له بالزواج من امرأة ترعى شؤونه، وتشاركه ما تبقى له من سنيِّ عمره، إلا أنه دائم الرفض جملة وتفصيلا، إذ فضل العيش على ذكرى زوجته التي أنجبت له ابنه الوحيد (( حمّــــاد )) الذي ضرب في الأرض سعيا وراء طلب العلم نزولا عند رغبة والده وإلحاحه الدائم بالسفر للحصول على أعلى الشهادات.

تشرق الشمس وتغرب ولا ينسيه ذكرى زوجته إلا قيامه للصلاة بالجامع الذي لا يبعد عن بيته سوى خطوات قليلة، لقد كان وما زال يدعو لها عقب كل صلاة بالرحمة والمغفرة، أشياؤها توقظ ذاكرته الملآى باللحظات المفعمة بالرضا، بيد أن زوايا بيته البسيط تبعث على الكآبة والحزن المرير.

عشق العم عثمان المكان واستأنس لضجر الزمان، ولم يغادر وفاءه مهما كان، ينفث همومه كل صباح حينما يذهب إلى شاطئ البحر كعادته عقب فجر كل يوم، يمارس هوايته المحببة لنفسه، إنها صيد السمك، ولا يعود إلا عندما تبلغ الشمس كبد السماء، وكثيرا ما كان يعود وقد جلبت صنارته ما يسدُّ رمقه، فيعود وقد امتلأت نفسه سرورا وغبطة، وهدأت سريرته بعد سماع تناغم الأمواج مع أصوات طيور النورس البحرية، ملحمة كأنها معزوفة سيمفونية جلبت القناعة والرضا وغاية أحلامه تذكار الوفاء.

داهمت الوحدة عمنا عثمان، وأطبقت بجناحيها على أوقات الفراغ الطويلة التي تؤرّقه وتضجره، لقد فات الأوان للبحث عن شريكة حياة جديدة.

تصل الرسائل متواثرة من ابنه حمّاد كل شهر من وراء البحار، ومحطتها الأخيرة المقهى العتيق الذي يملكه الحاج مصباح، الذي بدوره يعطيها إلى أحد الصبيان ليسلمها إلى العم عثمان، يطلق الصبي ساقيه النحيفتين إلى الريح باتجاه بيت العم عثمان، علّه يحظى ببعض البِشارة وعلّها تكون قطعاً من حلوى الحليب جزاء صنيعه هذا.

يطرق الصبي باب البيت بقوة وينادي بأعلى صوته الناعم قائلا: عمــــي عثمان، افتح الباب، أحضرت لك رسالة، إنها لك، ينهض العجوز من مرقده متثاقلا ويتمتم: أنا قادم، يهم بفتح الباب الثقيل، يجد عناء في ذلك، بسبب مفصلاته البدائية الصدئة والتي تنوء من جراء وزن الخشب الذي صنع منه، فهي لم تعد لينة سهلة كما قبل، يساعده الصبي، يفتح العجوز الباب، ولا يخفي فرحته برؤية الرسالة في يد الصبي، لا يتردد مرتبكا، هيا اقرأها لي، سوف أعطيك الحلوى التي تحب بابني، ودونما استئذان يدخل الصبي إلى سقيفة البيت، يسند ظهره إلى حائط قد نخرته الرطوبة، التي أسقطت عنه ذلك الطلاء الجيري الأبيض، وبعض من الرمل الذي تكدس على أرض السقيفة، ويبدو من ذلك أن يد الصيانة لم تسعف هذا البيت العتيق، ولم تزره مند أمد بعيد!.

يقرأ الصبي الرسالة بصعوبة، ولا يكاد يسمع العم عثمان ما يقول الصبي، العم عثمان لا يخفي ضجره من الصبي قائلا: ارفع صوتك، أعد ما قرأت، لم أفهمك، يكرر الصبي ما قرأ مرات عديدة، عندها يفهم الشيخ مضمون رسالة ابنه حماد، الذي يحثه فيه كعادته على الزواج، يقف بصعوبة، تدمع عيناه ويردد: سامحك الله بابني، بعد هذا العمر، لا…. لا…. ليس بمقدوري فعل ذلك، أنا على عتبة دنياي لأستقبل وجه الله، من تلك التي ستوافق على الارتباط بي ؟ إنها خطوة غير رشيدة وقرار غير صائب، وفي ذهول يتدخل الصبي، ماذا قلت يا عمي عثمان؟ لا..لا.. لم أقل شيء، أشكرك هذه الحلوى لك، خذها وأنصرف بارك الله فيك يا بني وبارك فيمن علّمك.

يعترف العم عثمان بأنه قد شقَّ على نفسه وظلمها، بعدم قبول نصائح الجيران وسكان الحي بالزواج بعد رحيل زوجته عن حياته، وها هو اليوم يجني الوحدة والكآبة، يفترش الحسرة ويلتحف الندم، عرف أن الأوان قد فات، وتلك الغاية قد عفا عليها الزمن، وما بقي له غير اجترار الذكريات والعيش بين زوايا الصمت، يسامر غربته ويلعن لفافته.

لملمت السنون ما تبقى من عمره، فرسمت على جبينه الأسمر تجاعيد غير منتظمة، قوّس الدهر ظهر العجوز، لم يعد يمارس بعضا من طقوس يومه، احتل له زاوية مهملة في بيته، وركن إليها، يداعب حبات مسبحته، يجترُّ أوهامه، يلعن أحزانه، يستغفر الله، وفي ضحى أحد الأيام أفلت شمس العم عثمان وغاب عن شارعه الطويل، رحل عمنا عن الوجود، ودّع الحياة، وحزن جميع من بالحي على فقدانهم الرمز والقيمة، كان مصابهم جللا، فقد أقاموا له جنازة تليق بمقامه الطيب، وسمعته الحميدة، زرع في نفوسهم الحب والخير، أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وبذلك حصد من حياته التقدير والاحترام، وفي مماته الدعوات الصالحة، وذِكره بما تحب نفسه وترضاه.

مقالات ذات علاقة

حقائب

سالم العبار

تَكَدُّسٌ ..

جمعة الفاخري

يا بو عقل

المشرف العام

اترك تعليق