حَاراتٌ تُشبِهُ قصورَ "أليس".. للكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية
طيوب عربية

رِحْلَةٌ في حَارَاتِ البلوشية العُمانيةِ السَّرْدِيةِ الشِّعْـرِية

يمثل الشعر ركناً أساسياً في المشهد الثقافي والأدبي بسلطنة مسقط وعمان الشقيقة كغيرها من الأقطار والأمم الأخرى التي عرفت هذا الجنس الإبداعي منذ قرون مضت وسجلت به العديد من المشاعر والأحاسيس والمُثُل الإنسانية النبيلة. وكما أبدع فرسان الشعراء الرجال في مسقط وعمان قصائدهم الموزونة الجميلة صدحت حناجر النساء العُمانيات الرقيقة بالكثير من النصوص الشعرية، وإن تأخر ظهورهن الزمني قياساً بالرجل، لاعتبارات تعليمية وثقافية وتحديات اجتماعية كمثيلاتهن في الأقطار العربية كافة.

حَاراتٌ تُشبِهُ قصورَ "أليس"..  للكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية
حَاراتٌ تُشبِهُ قصورَ “أليس”.. للكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية

ومن بين المبدعات العُمانيات الكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية التي استهلت إصدارها (حَاراتٌ تُشبِهُ قصورَ “أليس”)(1) بنص (حكاية) وأجادت كثيراً في عنونته الصريحة الواضحة والبسيطة المباشرة ليعبر عن محتواه الحقيقي، مثل براعتها في تصنيف مضمون الإصدار كله تحت مظلة/يافطة (نصوص) وهو ما يعطي بوحها تقديراً واحتراماً وقبولاً تتجاوز به اشتراطات المصطلح الفني الذي يحدد الخصائص الفنية ومعايير الأجناس الإبداعية، ويقيِّدُ الصوت التعبيري في إطار حدوده الالزامية. ففي (حكاية) انحازت الكاتبة بجدارة وإتقان إلى فن السرد القصصي بلغة شعرية رقراقة مفعمة بدفء الكلمات، وتناسق الجمل والعبارات في تناغم بسيط وآسر، تتسلسل فيه الراوية بكل هدوء وعذوبة لتلمح إلى قصة استلهام عنوان الإصدار ذاته المنبعثة من حوار ووشوشات لازالت طازجة بالذاكرة تخبرنا بها منذ بداية النص:
أجملُ تعويذةِ حبٍّ
حين توشوشُ لي عنْ حَاراتٍ
تشبه قصورَ (أليس في بلادِ العجائب)(2)
وهي لا تكتفي بذلك التلميح القصير العابر بل تحيلنا من خلاله إلى عوالم الأسطورة المدهشة الجذابة وقصص الأطفال العالمية القديمة التي بذرت فينا شغف الغوص في سراديب المتعة والانبهار والتعود على حب المغامرة. ولا تتوقف الكاتبة آمنة البلوشية عند تلك الأسطورة الجميلة وحدها، بل تنقلنا إلى قصة (ليلى والذئب) الخرافية ومأساة (أوديب) الحزينة والفنانة العربية (فيدرا) وهذا كله بلا شك يعكس ثقافة المبدعة ويعلن عن المنابع المصدرية التي ارتوت ونهلت منها في بواكير تعلقها بالقراءة والأدب والقصص، ومن خلالها هيأت أدواتها الفنية وصقلتها ووظفتها ورسمت مسارات صنعتها وهي الكتابة الأدبية الواعدة التي تطرز بها أفكارها المتنوعة.
وبلا شك فإن كل كتابة تنطلق من ذواتنا المتفاعلة مع الحياة بأصناف تنوعها وأزمنتها، ولا تظهر إلا حين نتلبسُ حالاتها ونمتليء بأحاسيسها المصاحبة، ولذلك فلابد أن تتقاطع نصوص الكتابة مع شخصية الذات المبدعة لأنها تتكيء على مشاهداتها وقراءاتها وسيرتها وجملة صور الحياة كلها التي عايشتها وظلت حيّةً كامنةً بداخلها لتقدم لنا بعض وجوهها المتباينة الناطقة بصوت النصِّ الإبداعي. فهنا مثلاً في نصها (غجرية) تفصح كاتبتنا البلوشية على لسان راويتها وتبوح ببعض ملامح صفاتها التي نجدها غجرية ضاجة بالانبهار الذي يولِّد الرغبة لمزيد التعرف عليها:
أنا ظِّلُ فَتاةٍ غَجَرِيَّةٍ
مِنْ قِنْدِّيلِ ضَوْءٍ(3)
ويواصل صوت الراوية التعريف بالشخصية الوجدانية المتخيلة في صورة تجعلها ظلاً تابعاً للمتلقي وملازماً لخياله ومن ثم تتطور وتخاطبه بروح واثقة لتعلن نفسها وطناً كاملاً تشكل كيانه من أمواج ونسائم بحر الحروف والكلمات بكل ما فيها من مد وجزر، حتى صارت جزءاً مرتبطاً بذاك الطيف المخاطب، ولاشك بأن هذه الصورة التعبيرية الجميلة توحي بقوة وعمق العلاقة الحميمية التي تضفي عليها اعتزازاً ومكانةً شبيهة بالملكة المتربعة على أعالي عروش الشعر:
أنَا وَطَنٌ مِنْ بَحْرِ حُرُوفِكَ
كَأنِّي مَمْلَكةٌ مِنْ سُمُوقِ القَصِّيدَة(4)  
أما هيئةُ طيف وخيال الحبيب الذي تناجيه بنصوصها المتدفقة شوقاً وحنيناً إليه، وتبثه فيها مشاعرها الجياشة المكتنزة بأنبل الأحاسيس العاطفية، فقد اكتشفنا أنه قدرها المحتوم المتوحد فيها، روحاً وفكراً، يتقاسمان معاً كينونة واحدة في مشوار العمر المشترك حين جعلت نفسها في نصها (يشبهنا كثيراً) متماثلة له وملتصقة به:
أَنْتَ أَنَا
قَـدَرٌ مِنْ صَوْلَجَانِ العُمُرِ(5) 
ولمزيد التأكيد على مكانة هذا الحبيب المعشوق تشبهه في نصها (بين كتفيك أبجديات) بالظل الملازم للجسد وهو تشبيه مادي محدود نسبياً يتأسس على الصورة التابعة التي تظهر في ظروف خاصة غير دائمة تتطلب حالة طقسية ضوئية معينة، ولكن كأني بالكاتبة الفطنة تستدرك لاحقاً ذلك القصور والنقصان فتعيد صياغة صورة التشبيه بشكل أبهى وأجمل وأبعد دلالة حين تجعله ملازماً دائماً كالحياة لا يمكن الاستغناء عنها، والعيش بدونه:
كَالظِّلِ أَنْتَ لِي 
حُضُورِي مَعَكَ كَالحَيَاةِ(6)    
وفي صورة تشبيهية أخرى مغايرة تحمل في طياتها شيئاً من التضاد الفكري البيّن نجد كاتبتنا البلوشية تراوح في وصفها لطيف الحبيب المناجى بين نقيضي (الموت/الحياة) في نصها (أمنحني ضلعاً أعوج):
إذاً أَنْتَ كَالمَوْتِ …
سَأَظَّلُ أُزَخْرِفُ كَفْنِّي
أَنْتَ مَنَحْتَ ذِرَاعَيْكَ لِي كَالحَيَاةِ(7) 
وبعد أن تعرفنا على صفات شخصية الذات الراوية مبدعة النص، ثم الذات الافتراضية المتخيلة المعنية بالبوح والمخاطبة بالحب والعشق والهيام نحاولُ كشف مفهوم مضمون الخطاب الوجداني العاطفي الذي يتأسس عليه نص كاتبتنا آمنة البلوشية، ومعنى الحب الإنساني الذي يستوطن أعماق قلبها ونلمس مقاربته في قولها:
الحُبُّ، فِي الغَالبِ، قَـدَرٌ يُشْبِهُ أُمْنِيَاتِنَا
حِينَ نُحِبُّ نَعِيشُ كَأرْوَاحِ المَجَانِينِ
يُقَالُ مَنْ يُحِبُّ قَبْرَهُ يَكُونُ ذَاتِ سِعَةٍ(8)   
ومن خلال هذا المضمون المتشابك بغرائبه والمتداخل بمتعة تفسيره للحب بين القدرية، وأرواح المجانين، وعلاقته بسعة القبر، يتبادر إلى الذهن سؤال ينشد معرفة فكر الكاتبة الفلسفي، ورغبة تبيان روافد وخيوط تعلقها بالحكي والسرد القصصي وأساليبه، وسرعان ما نستنتج ذلك بكل سهولة ويسر من نصها (صهيل أبيض) ضمن اعترافات وإشارات مباشرة تحيلنا إلى ذاك المنهل المصدري ومعلمة البذرة الأولى التي أينعت فيها وأثمرت نصوصاً شيقة:
 
لَقَدْ حَكَتْ جَدَّتِي عَنْ فَارِسٍ يَتَنَّهَدُ لِوِصَالِي(9)    
هكذا أقرت الكاتبة آمنة البلوشية بكل صراحة ووضوح وأفصحت بأن جدتها هي التي كانت تحكي لها وتُحدث عنها وتصف جمالها ومكانتها في قلبها، بينما هي تصغي منصتة لعذب حديثها وتخزن في ذاكرتها الحديدية القوية كل حكايات الجدة الممتعة والتي صارت لاحقاً بعد سنوات طويلة تسجلها وتستثمرها وتستفيد منها في نصوصها السردية والشعرية التي تكتبها:
قَالَتْ جَدَّتِي:
أَنْتِ مِنْ جِدَعِ الوَرْدِ
تَسْتَرْخِيِّنَ يَمِّينَ القـَـلْبِ(10)   
ولكن الارتواء بالفكر الإنساني والتراث الوطني العُماني لا يقتصر منبعه عند الكاتبة آمنة البلوشية على روايات الجدة وحكاياتها الممتعة فقط، بل يشمل كذلك الموروثات الشعبية والأغاني العُمانية القديمة التي أوردت في نصها (صدى صوتك نهايات الشعور) مقطعاً من إحداها وأسكنته ووثقته مكتوباً ليظل مسجلاً ومحفوظاً بين دفتي إصدارها:
واقف على بابكم ولهان ومسير
أسأل على الي سأل محبوبي يا صغير
يومين مرا علي كسنتين أو أكثر
ما قدرت يا منيتي عن شوفتك أصبر(11)
  وهذا المقطع الغنائي الملحون لا يكون دالاً على عذوبة مفرداته اللغوية العامية باللهجة العُمانية الشعبية ومعانيها الإنسانية المشتركة فحسب، بل يشي كذلك بإحالتنا إلى مستوى ودرجة النغم الموسيقي الشجي والإيقاع الطربي الرنان الذي تهواه وتتذوقه الكاتبة البلوشية، وتجعل إبداعاتها تتماهى فيه وتتراقص على أوزانه وطبوعه المتعددة، فنظل نعيشه بخيالاتنا الحالمة، ونترنم به بكل الزهو والطرب والانتشاء.
إن أبرز ما يلفت القاريء لإصدار الكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية (حاراتٌ تشبه قصور “أليس”) الذي يتضمن ثمانية عشرة نصاً هو غزارة الأسئلة التي تتأسس عليها أفكار نصوصها الإبداعية، وتنطلق منها لتتفاعل في ذاتها التعبيرية المبدعة، وتثير وتحرك في المتلقي العديد من الأسئلة المتوالدة الأخرى، ليمثل كل ذلك عملية إثراء واسعة لعوالمها الفكرية ترحل بنا إلى مدايات بعيدة داخل نصوصها وخارجها بحثاً عن إجابات شافية، في رحلة استمتاع باذخة على أجنحة المفردة العذبة والفكرة المستنيرة.
 ويتجلَّى السؤال متنوعاً ومتعدداً ومتكرراً في (حارات تشبه قصور “أليس”) في النص الثالث (فيوض) حين يستهل ظهوره للمرة الأولى هادئاً حدَّ السكون الموجع، بصوت تأوهاتٍ وتحسراتٍ وأنينٍ خافتٍ، ينسل من بين زفرات روح الذات المبدعة وهي توقظ ذكرياتٍ مؤلمة من سُباتها العميق:
فَكَمْ تَسَلَّقْتُ فَوْقَ جِدَارِ بَيْتِكُمْ
لأَجْلِ أَنْ تَرْمِشَ العَيْنُ لِحَنَانِكَ؟(12) 
ولكنه سرعان ما ينتفض من بين أعماقها كصواعق الشتاء أو البركان الهادر لائماً ومعاتباً ومتحدياً بنبرة حزينة واثقة:
أَيْنَ مَنْ كَانَ يَقُولُ لَبَّيْك؟(13)  
كما يبرز في عدة نصوص أبرزها (الأزهار النامية شاخت) و(بين كتفيك أبجديات) و(عتبة الباب تقلص كثيراً) مواجهاً للتذكير والتدليل والتأكيد:
 هَلْ تَذْكُرْ؟(14)  
ثم نجده في نصها (جئتُ ومعي بذور الريحان) يتهاطل متتابعاً مثل رخات المطر الباردة، ومتواصلاً كطلقات الرصاص المتتالية باحثاً عن اسم فاعل معين، ومتكرراً بأداة استفهام واحدة تقرع النص بإيقاعات موسيقى ماضوية حزينة تستنجد بالحاضر لاستعادة بريق ذكريات الماضي:
مَنْ يُنَاوِشُنِي التُّرَابَ؟
مَنْ يَنْحَنِّي مَعِي لِنَجْمَعَ القَوَاقِعَ؟
مَنْ يُهْدِّينِي قـَـارِباً مِنْ أَوْرَاقِ دَفْتَرِي؟
مَنْ يُشَارِكُنِي لِنَسْتَعِيرَ طَبَاشِيرِ الصَّفِ؟(15) 
 
ولا يتموقع السؤال الفكري والاستفزازي عند الكاتبة آمنة البلوشية في مكانٍ ثابتٍ واحدٍ فقط بمتون نصوصها، بل نجده في (ظل الفقد) استهلالياً يظهر منذ السطر الأول في مفتتح النص ليكون محور الفكرة ومبتداها:
          مَاذَا بَقِيَ فِي المَدِّينَةِ بَعْدَ رَحِّيِلكَ؟(16)        
 
بينما في (بين كتفيك ابجديات) و(صدى صوتك نهايات الشعور) يكون السؤال متأخراً جداً ومختتماً للنصين حين يظهر مذيلاً نهايتهما وبنفس أداة التعجب:
أَيُّ إِحْسَاسٍ فَـقَـدْنـــَـــا؟(17)  
أَيُّ سُبَاتٍ يَـرْقـُــدُ فِي جَوْفِ الرُّوحِ؟(18)
إن غزارة الأسئلة وتنوعها تعكس هواجس القلق والتأمل والتدبر المتواصلة والمتفاعلة بين أفكار العقل وشفافية الروح في الذات المبدعة، وهي حالة مخاض عاصفة تتصاعد طاقتها تدريجياً، ولا يمكنها أن تهدأ أو تنجلي حتى تفرز نتائجها في هيئة نص إبداعي تعقبه سكينة تخمد هواجس النفس، وتطفيء لهيبها، فتملؤها بهجةً وراحةً وانبساطاً. وقد أتقنت الكاتبة توظيف حالات أسئلتها القلقة بالتحرر منها وإظهارها للعلن والبوح بها، وإشراك الآخرين في الاهتمام بها، وهذا أحد الأدوار الإيجابية للنص الإبداعي وهو تقاسم الانشغالات بين المبدع والقاريء والسعي المشترك للبحث عن بعض اليقين.
وبعد رحلتي السريعة الممتعة في عوالم نصوص (حارات تشبه قصور “أليس”) للكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية يمكنني التأكيد على أن ملكة الإبداع، وامتلاك نواصي اللغة، ومهارات إدارة الأدوات الفنية لتجسيد الفكرة في إطار جنسٍ إبداعي، متوفرة بغزارة لدى كاتبتنا البلوشية القديرة وهو ما يبعث الكثير من الإطمئنان وعظيم الاعتزاز بها صوتاً نسوياً ضمن كوكبة المبدعات العربيات. ولابد من الإشارة إلى إن إمكانيات كاتبتنا البلوشية وقدراتها على اطلاق خيالاتها الرحبة في السرد والحكي تتجلى واضحة بكل براعة في الكثير من نصوصها، وقد اخترتُ أن أدلل على ذلك بنصها القصصي المتكامل الأركان (أكونُ لك) وأضمِّنَه هذه المقالة لتوفره على معظم عناصر السرد الممتعة بداية من الفكرة، واللغة، والوصف، والخيال، والشخصيات، والحوار الثنائي المباشر، وصوت المونولوج الداخلي والراوية:
بينَ ألبُومَاتِ صَوَّرٍ قَدِّيمَةٍ
أَقِفُ مَعَ جَارِي
ذِي الوَجْهِ المَمْلُوءِ
صَدِيقي أَطْوَلُ مِنِّي بِأَرْبَعِ إِنْشَاتٍ
يَهْوَى قِرَاءَةَ الأشْعَارِ
كُنْتُ أُقَـلِّدُهُ فِي المَرَايـَــا
يَضُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِي رَيْحَانٌ
وَأَنَا أَضُمُّ لَهُ كَسْرَةَ خُبْزٍ
كَأَنَّهُ يَحْلُمُ أَنْ يَكُونَ جُنْدِّياً
حَدِيثُهُ دَائِماً عَنْ الحَرْبِ
فِي خِتَامِ الحَدِيثِ يَقُولُ
مَتى تَكُونِينَ لِي؟
أَقُولُ حِينَ تَكُونَ جُنْدِّياً
أَوَ حِينَ يَنْتَهِي الحَرْبُ
أَكُونُ لكَ(19).
 
إن هذا النص الجميل هو مثالٌ لا يمكن تجاهله أو إلغاؤه من خانة الابداع الأدبي النسوي العُماني لما يمتلكه من خصائص فنية تؤهله لأن يسجل حضوره في خانة السرد القصصي بجدارة، وقد جاء متضمناً مدخلاً تمهيدياً يفرش بساط الحكي ويطلقه لتهيئة الفضاء لحوار قصير أجادته الراوية بمهارة، سواء بصوت مونولوج الكاتبة والذات المبدعة أو حديث وحوار الجندي عبر السؤال والجواب المتبادل، حول فكرة الكينونة العاطفية والتملك القلبي، ثم الخاتمة الحاسمة المتعلقة بإجابة السؤال المطروح. ولكن عند تصنيف هذا النص وفق المصطلحات الفنية للجنس الإبداعي ووضعه في إطارها النوعي المحدد نكتشف أنه لا ينتمي إلى جنس الشعر الحديث وإن فاحت بعض نفحاته أحياناً، وهذا الرأي ربما يتيح للكاتبة إعادة اكتشاف نهجها الإبداعي، والعمل على تطوير أدواتها الفنية نحو الأحسن، ووضعها في مسارها الإبداعي الصحيح والقويم، من أجل المزيد من التألق والرقي والإبداع.
 
ولا تتوقف الإلتقاطات الابداعية من (حارات تشبه قصور “أليس”) عند هذا الاختيار السردي، بل تحتوي بين صفحاتها الخمسين إشارات أخرى تمثل عدة جوانب تستوطن نصوصها مثل الهوية الخليجية العُمانية التي رمزت لها “الدشداشة”، وعناصرها المتنوعة وعاداتها وألعابها الأخرى:
هَلْ تَذْكُرْ؟
يَوْمَ الهَبْطَةِ
نَرْكَبُ سَيَّارَةَ جَارِنَا “بيكب”
أَنَا أَتَشَبَّتُ بِدَشْدَاشَتِكَ
تُوعِدْنِي بِشِرَاءِ لُعْبَةِ رَغْوَاتِ الصَّابُونِ وَمَصَّاصَةِ الحَلْوَى(20)   
وكذلك أنفاس الإمتلاء الصوفي الروحاني، ودلائل التعبئة الدينية التحصينية البناءة والحاضنة للخُلُق والسلوك الإسلامي السوي الذي يصقل الذات المبدعة ويقودها نحو دروب الفلاح والتألق:
لَمْ أُصَلِّي صَلاةَ الاسْتِخَارَةِ
حَتْماً أَحْبَبْتُكَ
وَمِثْلُ الرِّمَالِ مَضَيْنَا
وَأَنَا مَعَكَ
أَنْهَتْنَا غَمَامُ المَسَافَاتِ
تَحْتَ فِنَارِ النُّجُومِ
صَلَّيْنَا كَأْهَدَابِ العُيُونِ
كَبَتِّلاَتِ الوَّرْدِ يُشْبِهُ ظِلَّنَا مَعَ ضَوْءِ القَمَرِ(21)   
وأيضاً على نفس النهج القويم يتأسس البوح والنداء المنبعث بروح إيمانية تنسج الأحلام الوردية العفيفة النقية وتتهادى معبأة بالدعوات الربانية المخلصة:
تَعَالَى مَعِي نَتَيَمَّم
لِسَجْدَةِ دُعَاءٍ(22)    
وباعتبار أن المكان هو أحد مقومات وعناصر النص الأساسية التي تتحرك في فضاءه الشخصيات فتستنطق منه عبق الذكريات، استناداً لأهمية وظيفتها التعبيرية العاطفية والمعرفية المعلوماتية المتجسدة في معالمه وأركانه، فإن المكان يظهر في نصها (عتبة الباب تقلص كثيراً) باسمه الصريح “الجبل الأخضر” الكائن في ولاية “نزوى”:
هَلْ تَذْكُرْ؟
رِحْلَةَ الجَبَلِ الأخْضَرِ
كُنْتَ تَسْرِدُ عَنْ مَوْسِمِ قَطْفِ الوَّرْدِ
وَمُدَرَّجَات تَمُرُ عَلَيْهِ هَمْسُ السَّحَابِ(23)    
إن نصوص (حاراتٌ تشبه قصور “أليس”) للكاتبة آمنة بنت محمد البلوشية تزخر بالكثير من الجماليات التي تبهج النفس، وتبعث فيها إحساساً باذخاَ بالمسرة والإشادة بدور واسهامات المرأة العُمانية في المسيرة الثقافية الابداعية أدباً وشعراً ونثراً، على المستوى الوطني والخليجي والعربي، ومواصلة الدرب الذي عبّدته نسوة فضليات يظل الجميع يشهد لهن بالريادة والمثابرة والعطاء، وها هي كاتبتنا آمنة بنت محمد البلوشية تواصل المسيرة الإبداعية الأدبية، لتضيف باقات ورود عبقة فوّاحة، إلى الحدائق الغناءة الجميلة التي وطنّتها إبداعاتهن الأدبية والشعرية في المشهد الثقافي بالسلطنة العُمانية الشقيقة.

_______________________________________
(1)  حارات تشبه قصور “أليس”، آمنة بنت محمد البلوشية، مؤسسة بيت الغشام للصحافة والنشر والإعلان، مسقط، سلطنة عُمان، الطبعة الأولى، 2018
(2)  حارات تشبه قصور “أليس”، ص 9
(3)  المصدر نفسه، ص 26
(4)  المصدر نفسه، ص 28
(5)  المصدر نفسه، ص 35
(6)  المصدر نفسه، ص 19
(7)  المصدر نفسه، ص 22
(8)  المصدر نفسه، ص 17
(9)  المصدر نفسه، ص 29
(10)  المصدر نفسه، ص 31
(11)  المصدر نفسه، ص 33
(12)  المصدر نفسه، ص 12
(13)  المصدر نفسه، ص 13
(14)  المصدر نفسه، ص 15، 20، 42، 43، 44
(15)  المصدر نفسه، ص 21
(16)  المصدر نفسه، ص 24
(17)  المصدر نفسه، ص 20
(18)  المصدر نفسه، ص 34
(19)  المصدر نفسه، ص 37
(20)  المصدر نفسه، ص 44
(21)  المصدر نفسه، ص 43
(22)  المصدر نفسه، ص 46
(23)  المصدر نفسه، ص 43

مقالات ذات علاقة

حمدي عمارة…يباغت الحالم بالرُقاد

مهند سليمان

بعد الحب بدقيقة

لطشة غيمة

إشبيليا الجبوري (العراق)

اترك تعليق