تراث

ريحُ العزيز المضحكة..

من أعمال التشكيلي محمد بشير
من أعمال التشكيلي محمد بشير

لا شيءَ يطفئُ نيرانَ العذابِ، ويُخمِدُ لهيبَ الرُّوحِ غيرُ الأحبَّةِ، أولئكَ الذينَ يمطرونَ محبِّيَهمُ بِالودادِ العميمِ، ويرشُّونَ على أعماقِهِم الملتهبَةِ من بردِ عاطفتِهِمُ الآسيَةِ، يقولُ الغنَّاي يوسف الدريبي:

مَشَتْ ابْغيظها لعزيز .. تضحك العين للرِّيحْ رَوَّحَتْ.

فما أحوجَ المرءَ لهذهِ لرِّيحِ الَّتي تُضْحِكُ ..! الرِّيحِ التي تملأُ الأعماقَ فرحًا وانتشاءً؛ فحينَ يندلعُ غيظُ البِعَادِ إعصارًا نفسيًّا عنيفًا يحرقُ الأعمَاقَ فيملؤها أسًى وقهرًا وحزنًا وعذابًا، مخلِّفًا خسائرَ فادحةً، تاركًا آثارًا سلبيَّةً جسيمةً.. آنَ إذٍ لا شيءَ يقفَ في وجهِ إعصارِ الغيظِ الفظيعِ، ويُطْفِئُ عَصْفَهُ العَنِيفَ، ويهدِّئُ الاندلاعاتِ الوبيلَةَ التي تحطِّمُ دواخلَ المرءِ، وتكسرُ فيه ألفَ شعوٍر سوى ريحٍ مباركَةٍ تشكِّلُهَا أنامِلُ ( العزيزِ )، الحبيبِ الصَّادقِ الودادِ الَّذي تُرَبِّتُ يدُهُ على مكامنِ الوجعِ، على أوجاعِ الرُّوحِ كلِّهَا، وتجِسُّ بحُبٍّ مَوَاضِعَ الألمِ فتنيمُهَا، وتتحسَّسُ حرائقَ العذابِ فتطفئُهَا؛ لذا تستشعرُ العينُ غيظًا غشومًا يتربَّصُ بها، فتمضي بمواجعِها، بحرائقِها إلى الحبيبِ، تستنجدُ بقربِهِ البَلْسَمِ، بحضنِهِ الدَّوَاءِ، بكلمَاتِهِ المُعَالِجَةِ، بتربيتِهِ الحميمِ الشَّافي، بِعِناقِهِ الحيَاةِ، لتعودَ وقد خَلَعَتْ سرابيلَ الأسى، ونَضَتْ أطمارَ العَذَابِ، وَمَحَتْ رَانَ الأَلمِ، وَمَسَحَتْ غُبَارَ القهرِ، فقط لمجرَّدِ أنها ( مشت ) إلى ( العزيز )، محمَّلةً بأكداسِ الهمومِ، والحزنِ، والغيظِ، لترجعَ بضحكةٍ شافيةٍ تطفئُ كلَّ إعصارٍ، وتُخمدُ كلَّ بركانٍ، وتنيمُ عواصفَ القلقِ، وتزيلُ جبالَ الأكدارِ، وتذيبُ أكوامَ الأحزانِ والآلامِ.

انتبهوا لهذه التحوِّلاتِ الهائلَةِ في النفسِ البشريَّةِ، في أعماقِ الإنسانِ العاشقِ المعلَّقةِ روحه بينَ عواصفِ الكدرِ، وهبَّةِ ريحِ الفرحِ:

مَشَتْ ابْغيظها لعزيز .. تضحك العين للرِّيحْ رَوَّحَتْ.

من براعَةِ الوَصْفِ في الغنَّاوةِ: هذا التَّشخيصُ المتينُ، فالغنَّاي قد جعلَ العينَ كائنًا حيًّا، بشرًا يحسُّ ويشعرُ، ويألمُ ويأسى ويغتاظُ، ويضحَكُ ويمشي، يمضي ويعودُ.

وبها عبَّرَ عن غيظِهِ هُوُ، وربما اختارَ الإنسانُ اللِّيبيُّ – قبلُ العينَ رمزًا مشخَّصًا لأنها هيَ من تقودُهُ، تغدو بِهِ وتروحُ، تدلُّهُ على مواقعِ الفتنَةِ، ومهاوي السُّقوطِ، وعلى مواضعِ النجاةِ، ودروبِ السَّلامةِ، تنقذُهُ أو تورِّطُهُ، تدلُّهُ أو تضلُّهُ ..

كما أنها هي التي تستمرئُ الأشياءَ، وتستحسنُها، تقبلُهَا أو ترفضُهَا، وتنبئُ العَقْلَ بكلِّ المؤثِّراتِ الخارجِيَّةِ ليصْدُرَ منَ الدِّاخِلِ القراراتِ المناسبَةَ حيالَها.

وقد نجحَ الغنَّاي، في توظيفِ تعبيرٍ شعبيٍّ معروفٍ ( اتضحِّك فيه الرِّيح )، وكأَنَّهُ لشدَّةِ فرحِهِ، وعظيمِ ابتهاجِهِ يَضْحَكُ بِلا سَبَبٍ لمجرِّد هبوبِ ريحٍ إزائِهِ.. غيرَّ أَنَّ العاشقَ هذا كانَ يضحُكُ لسببٍ واحدٍ وجيهٍ هو عظمَةُ الحدَثِ الذي ملأَ أعمَاقَهُ فأطفأَ براكينَ الحزنِ، وأشعلَ عواصِفَ الفرحِ،

وهل غير الفرحِ ما يدعونا للضحكِ للاهتزاز أمامَ رياحِ الفرحِ المرقصةِ المدغدغةِ..!

إِنها تلكُمُ الرِّيحُ التي تُضْحِكُ المرءَ، لكأنَّها تغدغدُهُ إذ تعبِّئُ وجدانَهُ بالفرحِ.. وترصُّ جوانحَهُ بالضَّحِكِ الاستثنائيِّ الجزيلِ ..

فاستحضروا السببَ والمسبِّب والبراهينَ والفرضيَّاتِ لتدركوا النتيجةَ المنطقيَّةَ المذهلَةَ:

مَشَتْ ابْغيظها لعزيز .. تضحك العين للرِّيحْ رَوَّحَتْ.

مقالات ذات علاقة

الوطن القبلي (الجشة)

المشرف العام

الأمثال الشعبية ودورها في الثقافة التباوية

المشرف العام

لا تكابري.. لا ما جوابي اتصدي

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق