النقد

رواية التبر رأس مال الصحراء الرمزي

نزوى 13 يناير 1998

سعيد الغانمي – كاتب وناقد من العراق

 
يقول المفكرالفرنسي كلود ليفي – شتراوس: ” أن وجود الأشياء المقدسة في أماكنها هو ما يجعل منها مقدسة, لأنها لو انتزعت من أما كنها، حتى لو فكريا، لتدمر نظام العالم بكامله. لذلك فالأشياء المقدسة تسهم في ابقاء العالم على نظامه, باحتلالها المواضع التي وضعت فيها “(1).
 
هل للمقدس قيمة مطلقة في ذاته لدى المجتمعات كلها وفي الأزمنة جميعا؟ وهل يمكن له أن يوجد بلا مدنس ؟ وهل هو رأس مال رمزي ام اقتصادي؟ وكيف يمكن للمقدس أن يترجم الى عمل سردي؟
 
يعيش المجتمع الصحراوي بطبيعته على تجربة الحدود القصوى. فهو مجتمع موجود في مكان منبسط, وفي زمان دائري يعيد انتاج نفسه باستمرار،ومن هنا فهذا المجتمع مشغول بالدفاع عن نفسا أمام تحقيق الحاجات الضرورية الملحة المتمثلة في الحياة والقوت, ولا وقت له للانشغال بما يتعدى الحاجات الضرورية الى الحاجات الكمالية. أي تغيير في حاجاته وتجاوز لها باتجاه الكمالي يعني تغيير تركيبته وبنيته بكاملها، يعني تهديد وجوده كمجتمع صحراوي(2).. وتتمثل أقصى حالات الرفاه والكمال في العثور على الذهب. ان استعمال الذهب في الصحراء يعني القضاء عليها كصحراء، وتهديدها بوجود “مصرف ” فيها هو أعلى صور الحضارة والعمران. ولا خيار أمامها إلا أن تطرد الذهب من الاستعمال, حاكمة عليه بالدناسة, ومحيطة قيمها الرمزية المقابلة له بالقداسة. فاذا كان الذهب رأس مال المجتمع المدني، فإن القداسة هي رأس مال المجتمع الصحراوي. وهذا بالضبط هو موضوع رواية “التبر”(3) للروائي العربي الليبي ابراهيم الكوني.
 
لكي يشفى الأبلق, جمل أوخيد الفريد الذي تآخى معه, من الجرب الذي أصيب به نتيجة غاراته على أحدى النيات, ينصحه الشيخ موسى بأن يطعمه من نبتة “أسيار” الخرافية. تنجح المحاولة, لكن نجاحها لا يكتمل إلا بخصاء الأبلق. وحين يفكر أوخيد بالاقتران من امرأة غريبة عن قبيلته, يطرده أبوه. فينزل الى الواحة. هناك تدهم المجاعة أهل الواحة, فيضطر أوخيد الى رهن الأبلق عند قريب زوجته ليتمكن من توفير لقمة الكفاف لزوجته وطفله. لكن الجمل لا يحتمل, ويكرر محاولة الهرب والرجوع اليه. ويشترط عليه “دودو” لكي يعيد له الأبلق, أن يطلق زوجته ويتزوجها هو. في البداية يرفض, لكنه لا يتأخر كثيرا في القبول. يصر عليه “دودو” بقبول حفنة من التبر. فيشيع انه باع زوجته وابنه مقابل الذهب. وحين تصل الاشاعة اليه في معتزله, يهبط الى الواحة, في يوم عرس “دودو” من زوجته, ويجده يستحم في البئر. يقتله وينثر عليه التبر الذي أعطاه اياه. وكان عليه أن يفارق الجمل لينجو من أتباع “دودو” الذين بدأوا بمطاراته. يهرع الى الجبل, يحتمي به, لكن الغرباء أقدر على اخراجه منه بتعذيب الأبلق. ينزل لهم, فيقتلونه بربطه بين جملين يسيران بطريقين متعاكسين.
 
سنحاول في الصفحات الآتية أن نتفحص صياغة وجهة النظر في الرواية, ثم نكس المفاصل الأساسية فيها، أي أننا سننتقل من التحليل الى التأويل.
 
صياغة وجهة النظر
أول عمل منهجى اهتم بوجهة النظر في الرواية هو كتاب “صنعة الرواية ” (4) لبيرسي لوبوك, الذي استخلص من دراسته لأعمال هنري جيمز “انه وجهة النظر هي التي تتحكم بقضية المنهج الدقيقة, أي قضية وضع الراوي من القصة, فهو يرويها كما يردها “هو” في المقام الأول, ويجلس القاريء في مواجهة الراوي ليستمع “. وحين درس الناقد الروسي بوريس أوسبنسكي قضية وجهة النظر، وجد أن هناك مداخل كثيرة لها، لأنها تتعلق بالنظرة “التي يتبناها المؤلف حين يقيم ويدرك أيديولوجيا العالم الذي يصفه ء وقد تكون وجهة النظر هذه خفية أو معترفا بها صراحة, قد تنتمي للمؤلف, أو تكون النظام المعياري للراوي بوصفه شخصية مستقلة عن المؤلف “(5).. ويختار أوسبنسكي أن يقسم وجهة النظر الى مستويات أربعة هي: وجهة النظر على المستوى الايديولوجي، ووجهة النظر على المستوى التعبيري، ووجهة النظر على المستوى الزماني _المكاني، ووجهة النظر على المستوى النفسي. بينما يرى ناقد آخر، جامعا بين تصور أوسبنسكي  وجيرار جينيت أن وجهة النظر تتعلق بالتبئير، أي علاقة الكلام بالفكر وتمثيله لدى الراوي (6). ويستند هذا التصور الى تمييز جيرار جينيت بين الرؤية والصوت. “فبينما تتعلق الرؤية بالعين وبالنفس اللتين تخبران العالم التخييلي, فان الصوت هو الصياغة على المستوى التعبيري اللغوي، فقد يرى الراوي بعين الشخصية, ولكنه يقوم بعملية القص ونقل المادة القصصية فينشأ القص الذاتي”(7).
 
سنحتاج هذا التمييز بين “الصوت ” و” الرؤية ” في وجهة النظر لمعرفة من يروي الأحداث. بالطبع هناك الروائي، الذي نشعر بوجوده خارج الرواية في المفتتحات وعلى الهامش, ليشرح لنا نحن القراء ما يعنيه الراوي بكلمة أو فكرة. هكذا يشرح لنا معاني الكلمات الغامضة بعد أن يذيلها بعلامة نجمة (*) من مثل: البرزخ _ آسيار _ اير ـ سدرة المنتهي – الترفاس _ التيجانية – ايموهاغ _ بلاد السحرة ـ تأينت..الخ. إضافة الى بعض الأفكار والعادات لدى القبائل في الصحراء الليبية, ومن الواضح أن جميع هذه الهوامش تنتمي للروائي، الذي يعرف جهلنا بها، لا للراوي المتشبع بها لا شعوريا، وإلا لكان مؤرخا ومتخصصا بالانثروبولوجيا الثقافية, وهذا شيء يقع خارج اهتمامه دون شك.
 
الروائي شخصية فعلية, أما الراوي فشخصية سردية لا وجود لها إلا في الرواية. في البداية يشعر القاريء بأن الأحداث تصله بعد أن تمر بعدسة أوخيد، أي أن الأحداث تصله كما يردها أوخيد. لكن استعمال ضمير الغائب, لا المتكلم, يدل على شي ء أخر. واذا استعدنا التمييز السابق بين الصوت والرؤية, قلنا انها تصلنا برؤية أوخيد، ولكن بكلام الراوي. اذن ضمير الغائب هنا يشير الى لفة الراوي ومنظور البطل. حين يرصد أوخيد, مثلا, جمله يكون الوصف خارجيا. انه يلاحظ بعينيه ما يطرأ عليه من تغيرات “اختفت البقع البديعة من الجسد الرمادي. اختفت النظرة الزكية في العينين الساحرتين. القوام الرشيق الممشوق تحول الى هيكل أسود مترهل مبقع بالظلمة. خيال شاحب وبائس. لكائن آخر. سبحان الله كيف يصنع المرض – المخلوقات كائنات أخرى مختلفة. المرض يصنع ذلك مع الناس أيضا. المرض الطويل يفعل ذلك ” (ص 25).
 
المتكلم هنا هو الراوي, ولكن الأفكار لأوخيد. وهذا شيء سيحافظ عليه الراوي، ولن يخرقه الا في حالتين:
الأولى, هي المعلومات التي يجهلها أوخيد نفسه, والثانية هي حالات فقدان الوعي التي سيتعرض لها أوخيد، ليكون الابلق بديله, وهو دون شك حيوان “أعجم “.
 
فيما يخص المعلومات التي لم يكن أوخيد يعلم بها ويذكرها الراوي, نقرأ على سبيل المثال المقطع الآتي:
“سافر الى الحمادة الغربية. توجه الى النصب الوثني القديم القائم بين الجبلين. ولم يكن يعلم أنه لو تأخر في سفره أياما أخرى لنجح الوالد في قتل الحيوان المريض. الأب كان يخطط لانهاء الألم بإطلاقه رصاصة على رأس المهري الأجرب ” (ص 27).
 
يتزاوج في هذا المقطع منظوران: منظور لمراقبة أوخيد ومرافقته في سفر” الى النصب الوثني، ومنظور آخر يعلم دخيلة الوالد في مكان آخر، وما يخطط للقيام به في زمن آخر في الجملتين الأوليين يصف الراوي أوخيد من الخارج, وفى الجمل التالية لهما يستبطن وعي أبيه من الداخل, وهذا شي ء يجهله أوخيد نفسه بدلالة العبارة “لم يكن يلم..”، الراوي اذن يستطيع التنقل من منظور الى آخر في كل مرة, ولذلك, فهو في مثل هذه المقاطع الراوي التقليدي العليم الذي يظهر في الأعمال الكلاسيكية. غير أن أوخيد ليس الشخصية الرئيسية الوحيدة, بل هناك الأبلق. وهو حيوان أعجم لا يتكلم, فكيف يكون له صوت ؟ الكلمة الوحيدة التي يتقنها الحيوان هي “او ـ ع ـ ع ـ ع..”، وهي كلمة بلا لغة, وصوت لا معنى له, لكنها قادرة على إيصال معاني اللغة كلها:
“يمضغ الرسن في عدوه السعيد: أو ـ ع ـ ع ـ ع..”(ص14)
” يجيبه في ندم: أو ـ ع ـ ع ـ ع..” (صر 22).
” في بعض الأحيان يشتكي في بؤس: أو _ ع _ ع _ ع..” (ص26)
” بلع اللقمة ورفض الاقتراح: آع ـ ع ـ ع..” (ص ا9).
” لحظتها سمع العواء الأليم: آ ـ آ ـ آ ـ ع ـ ع ـ ع ” (ص 111).
” مر زمن قبل أن يسمع استغاثته: آ ـ آ ـ آ ـ ع ـ ع ـ ع..” (ص157).
” عادت الاستغاثة تشق سكون الصحراء: آ ـ آ ـ آ ـ ع ـ ع ـ ع ” (ص158)
 
هكذا تكتسب هذه الكلمة اليتيمة التي لا معنى لها في كل مرة معنى جديدا، فهي شكوى وقبول واحتجاج وندم واستغاثة..الخ. الاتصال هنا ليس من خلال استبطان “وعي” الحيوان. صحيح أنه حيوان أخرس لا صوت له:”شهور وهو يتألم. ليس عدلا أن يتعذب وحده طوال هذا الزمان. هو أخرس. لا يشكو. ولكنه يفهم. يتألم. ألمه فظيع. والا لما صرخ ” (ص36). الابلق في رأي أوخيد أخرس ولكنه عاقل, بلا صوت ولكنه ذو رؤية. وبنوع من الرؤية الصوفية أو المشاركة الاحيائية يتاح للراوي أن يستغل هذا “التماهي” بين أوخيد وحيوانه الأخرس, ليترجم هذه الكلمة اللالغوية الى لغة يعيره فيها منظوره.
 
وبعد أن يتناول الابلق عشبة “سيار” يصنفها سيمر البطلان بتجربة فريدة من نوعها. سيجن الجمل ويقطع الأود ـ والوهاد والوديان, ويتعلق به أوخيد مستميتا حتى لا يضيعه, مما يؤدي به لى حالات متكررة من فقدان الوعي. في هذه التجربة سيمر الجمل أولا بموت رمزي وفقدان للوعي، في حين يبقى أوخيد محتفظا بوعيه. وبعد ذلك مباشرة حين يصحو الجمل ويسترد وعيه أو “،عقله “، يأتي دور أوخيد ليغيب عن الوعي. يوجد اذن تناوب واضح في فقدان الوعي، يفقد الجمل وعيه بينما يظل أوخيد صاحيا، ثم يغيب أوخيد عن الوعي حين يصحو الجمل.
 
كلاهما اذن بحاجة الى الآخر أوخيد بحاجة الى الابلق ليحتفظ برؤيته, والابلق بحاجة الى أوخيد ليعيره صوته. ولأن الراوي يعرف أن الجمل أخرس, فإنه يريد أن يبقى على وعي أوخيد مهما كان الثمن:
“استرد وعيه, فحرك رجليه…” (ص 40).
“نام كأنه فقد الوعي. برغم أنه يعرف الآن انه لم يفقد الوعي” (ص 45).
“غابت عيناه في الأفق الأبدي..” (ص 47).
“وجد نفسه في برزخ بين الوعي والغياب..” (ص 29).
 
في كل هذه الأمثلة يصر الراوي عل إبقاء أوخيد محتفظا بوعيه, حتى لا ينقطع السرد. ففي فترات فقدان الوعي المتناوبة بينهما إما أن يسكت البطلان في وقت واحد، فينقطع السرد, أو يظل أحدهما صاحيا ليتبنى صوت الآخر ورؤيته للأحداث. ولا يوجد خيار آخر. وبما أن الجمل أخرس وبلا صوت, فهو بحاجة الى وعي أوخيد، لأنه يستطيع أن ينوب عنه في سرد الأحداث. ولعل مما له دلالة في هذا السياق أن أغلب فصول الرواية الخاصة بسرد وقائع هذه التجربة تنتهي بالظلمات التي تستولي على المشهد وهي كناية ترمز الى غياب أوخيد، عن الوعي، غير أنه غياب مبرر, لأنه يأتي في آخر الفصل, وعند انقطاع الكلام. هذه الموازنة الدقيقة بين الصوت والرؤية, عند الجمل والانسان, تجعل “ألتبر” واحدة من أهم الروايات العربية التي يتحول فيها الجمل الى شخصية “انسانية ” قادرة على الاتصال والتوصيل بلا لغة.
 

الروائي إبراهيم الكوني.
الروائي إبراهيم الكوني (الصورة: عن ليبيا المستقبل)


اقتصاد النذور
يتقدم الانسان لاله وثني قديم, أو ولي ميت بنذر في حالة تحقق أمل معين. ماذا يفيد النذر للمنذور له. تتضمن فكرة النذر اقتصادا رمزيا من نوع خاص, فالنا ذر يتنازل عن قسط من رأس ماله المادي مقابل تحقيق أمنية أو رجاء يرى أن للمنذور له د- في تحقيقه. طبعا حين يكون الناذر مسلما, والمنذور له وثنا, فهناك تناقض. لعل الوظيفة التي يؤديها النذر واحدة, لكن هناك تناقضا عقائديا. ما يعنينا هنا أن النذر يؤدي وظيفة خاصة في اقتصاد الصحراء الرمزي، وهي وظيفة تحقيق التكافل العائلي. الاله الوثني القديم يضمن الشعور بالحماية والأمان لأفراد المؤمنين به, ويجمعهم في إطار عائلة واحدة, هو اذن “أب ” رمزي لمجموعة “إخوة ” أو “أبناء”. النذور، من حيث هي اقتصاد مادي تتضمن نوعا هن المقايضة: أعطيك كذا وتعطيني كذا، ولكنها، من حيث مي اقتصاد رمزي، تنازل من طرف عن قيمة مادية لطرف آخر مقابل تحقيق قيمة رمزية. وحتى لا يشعر   الطرفان بنفاذ الاقتصاد المادي في هذه المقايضة المسكوت عنها، لابد من فترة زمنية تمتد بين الفعلين (8) ينبغي أن يشعر الناذر بأنه يقدم نذره لأنه يؤمن بالمنذور له, وليس طمعا بمنفعة عاجلة, وينبغي بالمقابل للمنذور له أن يطمئن الناذر بأنه مقبول في عائلة أبنائه الموهي عنهم. أما اذا حقق المنذور له طلب الناذر، وحنث الناذر بالوعد، فان الأول لن يسكت. بالطبع ليس في مستطاع إله وثني قديم أن يفعل لمسلم شيئا خارج حدود الاقتصاد الرمزي. ولا خيار له سوى اخراجه من نطاق العائلة التي قبله فيها.
 
لم يكن أوخيد ليعرف انه ينذر للالهة القديمة “تانيت ” كان يتصورها وليا من أوليا، الصحراء القدامى:”يا ولي الصحراء إله الأولين. أنذر لك جملا سمينا, سليم الجسم والعقل. اشف أبلقي من المرض الخبيث واحمه من جنون آسيار. أنت السميع. أنت العليم ” (ص 30). وكان يجب أن ينفذ.الوعد فينحر الجمل الذي نذره بعد شفاء الأبلق. وفعلا استعد للأمي, وأعد جملا انتظر ان يكبر ليليق بتنفيذ النذر. لكن لقاءه بأيور التي ستصير زوجته يلهيه عنه. وخلافا للوعا الذي قطعا على نفسه, ينحره في حفلة العرس. ثم ينساه تماما برغم أن الاله القديم حاول تذكيره عدة مرات حتى حلت المجاعة, فاستحال عليه تنفيذ النذر نهائيا.
 
ومن المفارقة أن يتزامن هذا الحنث مع تنكر العائلة الفعلية له. فقد طرده أبوه وتخلت عنه القبيلة بعد اقترانه بـ “ايور”. بعث له أبوه قائلا:”لا بارك الله لك فيها”. فكر بالجواب المناسب لكن الشيخ موسى حذره: “تمهل. لا كما يجيب الاب, يجاب “. الأب يفكر بزعامة القبيلة. ولكي يحتفظ نسله بالزعامة, يجب أن يتزوج أوخيد من ابنة عمته, الدميمة, اذ مازال النسب في الطوارق يتصل بجهة الام. هذا النسب العائلي الموعود غير مقبول من لون أوخيد. وحين يخالف أمر الأب, تكون العقوبة المتوقعة الطرد.مما يعني تنكر العائلة له ورفضها اياه.
 
اذن, فاقتران أوخيد بأيور تسبب له بفقدان أبوين: رمزي وفعلي, وعائلتين, رمزية وفعلية, الأب الرمزي هو الالهة “تانيت ” التي ظل يتصورها إلها مذكرا حتى يفوت الأوان. والأب الفعلي والده الذي تحدر من لحمه ودمه. كان رد فعل الوالد الأب الفعلي, مباشرا وفوريا. في حين أمهله الأب الرمزي مدة طويلة, حتى بعد موت الأب الفعلي في مواجهة الغزاة الايطاليين. كان فقدانه العائلة الفعلية أسرع بكثير من فقدانه العائلة الرمزية. لقد فقد النسب الفعلي مقابل الاحتفاظ بالنسب الرمزي الذي يضمنه له الأبلق أخا، والاله أبا.
 
كلا الأبوين ذو سلطة. الأب الرمز إله.والأب الفعلي زعيم. ومن الطبيعي أن تكون عقوبة زي السلطة عقوبة قاسية. في مدرسة التحليل النفسي, تتمثل أقسى عقوبة يوجهها الأب للابن في “الخصاء”. وقد كان هلا الأبوين متفقا على هذه العقوبة.
 
حين يحنث أوخيد بتحقيق النذر يطالبه الاله الوثني عدة مرات به, عن طريق أحلام العرافة. وحين لا يحقق وعده يضطر الاله أيضا الى التخلي عنه, مثل الاب الفعلي سابقا. هكذا يتحد الاب الرمزي والأب الفعلي على معاقبة, الاله الوثني وزعيم العشيرة. وبذلك خرج أوخيد عن دائرتي النسب الفعلية والرمزية معا.
 
هنا أيضا نلاحظ تبادل أدوار. فالأب الرمزي يعاقبه بخصاء فعلي, هو الذي ألحقا بالأبلق حين أخبره الشيخ موسى بضرورة خصائه حتى يكتمل شفاؤه في حين تكون عقوبة الأب الفعلي خصاء رمزيا، يضطر بمقتضاه الى التنازل عن زوجته, لكي يتزوجها قريبها “دودو”، مقابل استرجاع الأبلق من الرهن الاب الرمزي خصاؤه فعلي. والأب الفعلي خصاؤه رمزي.لكن الفعلين متفقان على “خصاء” أوخيد. من الناحية الواقعية, لقد جاء الرفضان في ذروة الأزمة. فحين اضطر الى أكل نعاله جوعا، كان الاله الوثني يطالبه بتنفيذ النذر. وحين كان في منتهى الحاجة الى حماية قبيلته, حتى لا يقتله أقارب “دودو” الطامعون بإرثه, تنكرت له القبيلة. الاله والأب _أو لعل الأصح: الاله _ الاب, فهما واحد في استجابتهما – متفقان على هذه العقوبة القاسية.
 
صيدلية الصحراء
لكي يشرح لنا الروائي معنى كلمة “آسيار” فإنه يتدخل في الهامش ليعطينا النص الآتي 0″آسيار 0يعتقد انه بقايا السلفيوم. وهو نبات اسطو ري يعطي طاقة هائلة. انقرض من ليبيا في القرن الثالث قبل الميلاد. ويجمع المؤرخون القدماء انه كان دواء سحريا لكل الأمراض المعروفة في العالم القديم. وكان ملوك ليبيا القدماء يصدرونه الى مصر وما وراء البحار. ويعتقد الكثيرون أن فيه يكمن سر التحنيط ا: استخدمه الفراعنة لهذا الغرض ” (ص 20).
 
واضح أن هذا النص لا يقع في اهتمام الراوي, بل هو جزء من مفاتيح الروائي التي يريد أن يقدمها لنا لنعرف دلالة هذه الكلمة في الرواية. وهو تدخل لا يبدو بلا ضرورة. لن نعلق على مكان هذا التدخل أو أهميته, بل نمضي لفحص معنى السلفيوم.
 
كرس المؤرخ الفرنسي “فرانسوا شامو” فصلا من كتابه «الأغريق في برقة “الصادر عام 1953للسلفيوم. ثم عاد وكتب عنه بحثا آخر عام 1985( 9) 0 وهو ينقل عن المصادر الاغريقية القديمة, وبخاصة الفصل الذي كتبه “بليني الأكبر” عن تاريخ ليبيا القديمة (10).
 
يقول شامو: ” ان السلفيوم الذي يسمى في اللغة الاغريقية القديمة Silphion, وفي اللغة اللاتينية Lserpicium  أو يشار اليه فيها تحت تسمية Leser (هل لهذه الكلمة اللاتينية علاقة بكلمة أسيار؟!) كان ينظر اليه في العصور القديمة على أنه نبات تنفرد به قورينائية. وكان لأمد طويل مصدر ثراء قوريني، التي كانت تقوم بتصديره بأغل الأسعار الى أسواق البحر الأبيض المتوسط, كما أنه الرمز المفضل للعملات النقدية لهذه المدينة خلال العصور القديمة “(11). وقد صحح شامو قراءة لوحة مرسومة على إناء اغريقي, حيث وجد الملك اركسيلاوس, حاكم قورينا أو برقة, يشرف بنفسه على وزن السلفيوم والتحقق من مقاديره وخزنه.
 
الظاهر أن السلفيوم نبات من فصيلة البقدونس والكرفس, كانت القبائل الليبية تجنيه من مواطن نموه في أراضيها الداخلية, وتقدما جزية للملوك الباطيين في برقة.
 
كانت للسلفيوم استعمالات مختلفة. يذكر أحد الشعراء الأطباء انه كان يستخدم ترياقا يشفي من أثار السموم, وتدل بعض التعبيرات في اللفة الاغريقية عل انه كان يعتبر أحد التوابل. ويحذر بليني الأكبر من الاستخدام المزدوج للسلفيوم, فيقول: “كان من العادة ان يحفر حول جذور النبات,. وانه لم يكن يفعل فعل المسهل مع الماشية, بل كان يشفيها ان مرضت, وإلا فانها تموت في الحال “. ويزيد الوصف توضيحا فيقول:”يقدم استعمال السلفيوم بجلاء براهين مؤكدة على قوته الشافية. فهو عندما يتناول في شراب يبطل سموم الأسلحة والأفاعي..” وبعد استعراض جملة من فوائد السلفيوم, مثل تسهيل الولادة والطمث وتسهيل الهضم ومعالجة الأسنان والثآليل والجلد.. الخ, يحذر بليني الأكبر من عواقب سوء التقدير في خلط الكميات: “وعلى كل حال فانه يوجد في التركيب عادة خطر سوء التقدير”(12).
 
وقد عرف الأطباء العرب, كابن سينا ومأسويه وابن البيطار، السلفيوم القوريني، وكانوا يسمونه الحلتيت, أو الانجدان, وهي كلمة مأخوذة عن تسيته اللاتينية Ferula Tingitana أي الحلتيت الطنجي. ويبدو أن بقايا السلفيوم لا تقتصر على آسيار في الصحراء الليبية, اذ ينقل د.خشيم عن الاستاذ عبدالله القويري بأنه سمع عن نبات لا يزال موجودا في الجبل الأخضر يسمى الدرياس (وهي تسمية واضح انها مشتقة من التسمية اللاتينية (Magidaris إذا أكلته الغنم في الصيف ولم تكن أكلته في الربيع ماتت في حينها. فإن أكلته في فصل الربيع وأطعمته صيفا لم يصبها شيء. ويقال للأغنام الطيبه “غنم مدريسة”، اي اصابت من الدرياس ” (13).
 
إذن, تدل الأخبار المتبقية عن آسيار، أو السلفيوم, انه صيدلية صحراوية كاملة. ولا تعنينا حقيقة هذه الصيدلية تاريخيا أو علميا، بقدر ما تعنينا رمزيا واسطوريا. وكونه صيدلية صحراوية كاملة, يعني أنه متعدد الاستعمالات, لا للأمراض المتعددة وحسب, بل للمرض الواحد نفسه. ولعل أهل الصحراء يحذرون منه لهذا السبب ويصفونه بأنه “نبتة الجن “. فآ سيار ليس مجرد ترياق, بل هو ترياق وسم في الوقت نفسه, دواء وجنون, قاتل وباعث, موت وميلاد ويصح عليه ما وصف به جان ديريدا الفارماكون Pharmakon في “صيدلية افلاطون “: “الفارماكون هو في الوقت نفسه سم ودواء، خير وشر، ناكص وزائد.. الخ, لا هذا ولا ذاك, يعدي الواحد بالآخر بدون تصالح ولا اشباع ممكن. يسمم في الآن نفسه كل مقابلة ثنائية للدلالات أو للقيم, وهما تكملان بعضهما بعضا. وتضافان الواحدة  للأخرى بلا نهاية “(14). السلفيوم أو الفارماكون أو آسيار سلسلة من التناقضات التي يؤدي كل منها الى الآخر ويمحوه, متاهة من الثنائيات المتقابلة التي يلفي بعضها بعضا ويؤكده في الوقت نفسه. وقيما بين الموت والميلاد، فيما بين الخير والشر، يوجد البرزخ ” ذلك الوسيط الذي يستمده الروائي من ميراث ابن عربي الصوفي, حيث البرزخ وسيط يؤاخي بين نقيضين. البرزخ هو الظلمات الغائمة فيما بين الوجود والعدم, فيما بين الموت والحياة, فيما بين الغياب والحضور، ذلك الفاصل الخفي الذي يرضي خصمين متنازعين يكمل كل منهما الآخر.
 
هناك اذن رحلة قوامها الانتقال في الاسطورة, تبدأ بالدخول في أرض الجن, أهل الخفاء، وتناول النبتة الخرافية وثمن هذه الرحلة الجنون, أي الخفاء بصعناه الصوفي, برزخا للاختفاء بين الحياة والموت, يجمع بين يديه النقائض كلها، فينظر باحدى عينيه الى الشيء وبالأخرى الى نقيضه, ترضية وتصالحا بين الاحتمالات المتضاربة. لينتهي الى ماذا؟ الى الميلاد الجديد والبعث, أي الى أن يكون جنينا. الى أن يخرج من رحم أمه مثلما يخرج الجنين. ويمكننا أن نوضح هذه الرحلة بالترسيمة الآتية
  الجن <ـــــ > الجنون < ــــ   >الحنين
 
وهذا ما توضحه الفقرة التالية:
تناوب الموت والميلاد
بعد أن يتناول الأبلق من عشبة الجنون الخرافية, كان من الضروري أن تلجأ الرواية الى لعبة التناوب بين الأبلق وأوخيد. حين يفقد أحدهما الوعي، فيجب أن يظل الآخر منتبها، ليروي لنا الأحداث, أو في الأقل لتصلنا الأحداث من خلال رؤيته. هما اثنان في الجسد ولكنهما واحد في الروح, والروح التي توجد في جسدين لها فرصة أكبر في النجاة, فهي توزع موتها بالتناوب بين الجسدين. أذا مات أحدهما عاشت في الآخر، حتى اذا عادت الحياة له تركت الأخر للموت. والحقيقة ان أوخيد لم يشعر بتآخي الروح وحسب مع الأبلق, بل انه كثيرا ما يشعر بالالتحام معه جسديا أيضا. في آخر الرواية, مثلا, يفكر بأنه لم يرهن الجمل, بل رهن رأسه: “لقد جرب ما معنى أن يرهن المرء رأسه لط فسان ” (ص 151)
 
لكن التناوب لا يقتصر على موت وحياة البطلين, بل هو كثيرا ما يفاجيء البطلين بتناوب ما يحتاجانه. فحيثما يحتاجان الى زوج من الأشياء يفاجآن بحضور أحدهما وغياب الآخر. وهذا ما يدعونا الى القول بوجود “ثنائية ناقصة “، ثنائية يغيب أحد طرفيها اذا ظهر الآخر. وهي ثنائية الحضور والغياب التي لا يتردد الراوي نفسه بالتصريح بها فى كثير من الحالات:
“اذا لم يصب الحيوان الخبل لن يطمع في شفاء. اذا لم يذهب العقل لن ترى العافية ” (ص 34).
” اذا حضر الشي ء غاب نقيضه ” (ص 44).
” اذأ وجدت البئر غابت الدلو، واذا وجدت الدلو فلا تطمع في البئر” (ص 50).
 
مفعول آسيار رهيب. لكي يحظى الجمل بالشفاء فينبغي ان يمر بالجنون, أي بالخفاء، بمعناه الحرف كانتماء للجن, أهل الخفاء، وبمعناه المجازي كاختفاء عن الحياة. بموت !لجمل. مجازيا وهو ينطلق في عدوه المجنون, يمارس أسيار مفعوله كسم, كدواء قاتل. ويتم الايحاء بهذه الوظيفة السامة: “الحسد أقوى من السم في تعاليم العرافين. عين الحسود أفتك من السهم المسموم ” (ص 37). في جسد الجمل, فاقة لا قبل له بها، وألم لاتصطبر عليه حتى الوحوش. يندفع الحيوان بجنون أسطوري لا يستطيع ترويضه أوخيد. ويضطر حتى لا يفقده الى ربط جسده بذيله ولجامه. فيسحبه في مرتفعات ووديان ووهاد تقطعها الأشجار والرمال والصخور حتى يتمزق جسده. ولكنه يصر على عدم مفارقة الأبلق. يجب أن يبقيا معا. اذا ضاع أحدهما ضاع الآخر فموتهما مما يعني توقف السرد، لهذا يجب أن يظل أحدهما واعيا.
 
بعد موت الجمل الرمزي، يبدأ ميلاده الجديد. يبدأ مفعول آسيار كدواء شاف “الجلدة الجرباء سقطت في الطريق. الأبلق تحرر من جلدته كما يتحرر منها الثعبان ” (ص 44). الثعبان, سليل الأساطير القديمة, رمز الحياة المتجددة. وما هو الأبلق ثعبان ينزع جلده, ويستقبل الحياة بميلاد جديد. مر الجمل اذن بمرحلتي الموت والميلاد،الغياب والحضور والأن جاء دور أوخيد.
 
إذا كان موت الجمل وميلاده متعلقين بآسيار, فإن موت أوخيد وميلاده متعلقان بالعطش والماء. يختزن الجمل الماء ويستطيع احتمال هذه التجربة, أما أوخيد فقد استهلك قدرته على الصبر والاحتمال, لقد أنقذ الجمل, ولابد أن ينقذه الجمل الآن. لابد أن ينوب عنه اذا غاب أوخيد عن الوعي. لهذا يعانقه هامسا في أذنه “قطعنا نصف الشوط. اصبر. الآن سنقطع الجزء الباقي الأصعب بالنسبة الي. أنا لا أحزن الماء مثلك. سفحت كل مائي في الطريق المجنون. الآن ستنقذني. سننطلق الى أقرب بئر في الأودية السفلية. اياك أن تردني الى الواحات, سأموت في بداية الطريق. ليس في جسمي قطرة ماء واحدة. أتفهم ؟” (ص 46). يتمدد فوق ظهر البعير. وفي هذه اللحظة يشعر بالتماهي معه, أو كما تعبر الرواية, بالتآخي. كان كلاهما مضرجا بالدماء، فاختلط الدم بالدم: “شعر أن دمهما المتخثر اللزج يتمازج الآن ويختلط. هذا ما تسميه العجائز بالتآخي. عهد الأخوة. عهد الوفاء الأبدي. التحم الجسد بالجسد، واختلط الدم بالدم. في الماضي كانا صديقين فقط. أما اليوم فانهما ارتبطا بوثاق أقوى. بالدم. أخوة الدم أقوى من أخوة النسب ” (ص 47).
 
حين يتحدث ابن خلدون عن النسب في المقدمة يذكر أنه أمر “وهمي”، ومن الواضح أن كلمة وهمي تعني عنده انه “رمزي”. هذه الأخوة الرمزية أكملت صورة المشهد العائلي. على أخيه الجمل اذن أن ينقذه, ان يوصله الى البئر حيا. وفعلا, يجد نفسه ملقيا على فوهة البئر. لكنها بئر عميقة, هاوية لا قرار لها, وليس من دلو. كيف سيشرب اذن ؟ سيغامر بحياته مقابل قطرة ماء. يربط أوخيد جسده مرة أخرى بلجام الجمل. ويحاول النزول الى البئر. في هذه اللحظة بالذات يتحول الجمل الى حيوان ناطق, ويتحول أوخيد الى حيوان أخرس, يخرسه العطش: “عجز أن يفتح فمه بكلمة. فقد القدرة على النطق. بعد العماء جاء الخرس. رفع يده اليمنى وربت على رأس المهري. تبادل البدوي مع أخيه كلمة السر بالأطراف “(ص 50).
 
في لحظة السقوط الى الهاوية البعيدة ينطوي الزمن, وتتوقف الحياة. لقد حل الموت. لا أحد يعرف كم استغرق موته, ولكن الأبلق الذكي يسحبه من اللجام بعد أن يرتوي من الماء. لقد بدأ ميلاده الثاني، بعد البرزخ مباشرة, ولكن ليس من رحم امه، بل من رحم الهاوية: “أى ميلاده في تلك اللحظة. رأى نفسه وهو يسقط من رحم أمه الى الهاوية “(ص 50)
 
من الغريب أن لحظات الموت والميلاد تقترن دائما بالنقوش والكتابات القديمة. في قاعدة الصنم الذي تقدم اليه أوخيد بالنذر توجد كتابات بأبجدية التيفناغ, كان “لعراف المخيف أول من حطم الاسطورة, وقرأ الرموز المحفورة على قاعدة الصنم, قال انه اللقب لاله صحراوي قديم. وتوصل الى فك الشيفرة في أبجدية التيفناغ, ولكنه رفض ان يبوح بالسر المحفور عند قدمي الإله. وبعد شهور وجدره ميتا في السهل المجاور دون أن يتمكن الأهالي من حمله على إفشاء سر التميمة الوثنية ” (ص 29). حبل اللجام الذي ربط مصيره بمصير الأبلق, وانقذه الأبلق من خلاله بعد السقوط في هاوية البئر كان مضفورا “بالوشم والنقوش والمثلثات والمربعات التي بهتت وشحبت بسبب طول الاستعمال ” (ص 54)أما الجبل الجليل الذي سيأويه في شق. عند نهاية الرواية, وينقذه من سهام مردة بامبارا المسمومة فإنه “يكتب, مع الشروق, ويكتم السر الذي حفظه من فم الملكوت في الليل ” (ص 148). وفي داخل الكهف كان النقش المرسوم قصة كاملة عن مطاردة الصيادين ودانا يعدو باتجاه الجبل, هربا من السهام المصوبة اليه,  وهوودان سيفتدي أوخيد بنفسه, لكي يعرف أوخيد أن هذا النقش يوجز قصة حياته هو.
 
آسيار والكتابة قرينان يستبعد كل منهما الآخر، ثنائية يغيب أحد طرفيها بظهور الثاني. كلاهما  يوجد برفقة الموت والميلاد. وكلاهما دواء وسم, غياب وحضور، وجود وعدم, كلاهما يخشاه الأب. ولا أجد نصا أصلح لوصف هذا مما قاله ديريدا في “صيدلية افلاطون “: “،هكذا يتصرف الإله – الملك الذي يتكلم كأب. هنا يتم تقديم الفارماكون (السم _ الدواء ـ الكتابة) للأب يقوم برفضه وأحتقاره وهجره والحط من قيمته. ان الأب يشتبه في الكتابة ويراقبها باستمرار”(15).
 
مجانية الذهب
تحيط المجتمعات الاسلامية الذهب بالقداسة أو بالدناسة فهو إما أن يوجد كقيمة نقدية قابلة للتداول والسرقة, أو في الأضرحة والكنوز الآثارية القديمة, وحينئذ يحاط بالقداسة التي لا ينبغي المساس بها. وحين تتجاور الطريقتان تتضح ثنائية القداسة والدناسة. في المدن الدينية في العراق, مثلا، يمكن لأي زائر أن يرى قبابا بكاملها مطلية بالذهب, وأضرحة وأبوابا وحيطانا وسقوفا من ذهب خالص. ان القداسة التي تحيط بهذا الذهب تمنع الآخرين من رؤية قيمته النقدية. ذهب مجاني معروض بلا ثمن, ولكن في الوقت نفسه لا خوف عليه, لارتفاع رصيده الرمزي. خارج هذه الأضرحة بأمتار تنتشر محلات الصاغة, التي تحرس الذهب وتبيعه بأسعار خرافية, فهو ذهب ذو قيمة نقدية عالية, ولكنه بلا رصيد رمزي في الأضرحة الذهب بلا قيمة مادية, ولكنه ذو قيمة رمزية مقدسة. وفي محلات الصاغة, الذهب مدنس بلا قيمة رمزية, ولكنه:و قيمة مادية باهظة. يمكن القول اذن, كلما ارتفع رصيد الذهب الرمزي انخفض رصيده الاقتصادي، وكلما ارتفع رصيده الاقتصادي انخفض رصيده الرمزي.
 
يمكن ملاحظة هذه الظاهرة نفسها، أو ما يشبهها في المجتمعات التي شهدت “مجانية الذهب ” في صحراء افريقيا بعد الفتح الاسلامي، أو في امريكا الشمالية بعد غزو كولومبس (16). لابد للذهب, كما هو واضح من وجود طرفين: باحث عن الذهب, ومبحوث عنه لديه. يغلف الباحث عن الذهب بحثه, وهو في العادة شخص يعرف قيمة الذهب النقدية العالية, بهدف آخر. فهو لا يأتي بحثا عن الذهب, بل لنقل رسالة, غالبا ما تكون دينية, تسهم في تنوير المجتمع الذي يوجد فيه الذهب. الهدف ديني، وليس ماديا أو اقتصاديا. وحين يفرغ من مهمته الدينية, سيجد الذهب بانتظاره, مكافأة سماوية لنجاحه في مسعاه الديني. القداسة تحيط بالهدف الديني وحده. ويظل الذهب نتيجة عرضية بسبب دناسته.
 
في المجتمع المبحوث عن الذهب لديه, وهو مجتمع لا يعرف – الذهب النقدية, يوجد الذهب إ- على شكل كنوز مقدسة يرتفع رصيدها الرمزي وينخفض رصيدها المادي، أو كعنصر خام من عنا~ الطبيعة. في الحالة الأولى, الذهب مجاني، والاعتداء عليه اعتداء على حرمة القداسة التي تحيط به, لذلك يظل بلا مساس. وفي الحالة الثانية. يضرب المجتمع حول الذهب سورا من التحريم, لأن أي استعمال للذهب يشكل تهديدا للمجتمع نفسه. يميز ابن خلدون في نص استشرافي موح بين ثلاثة أنواع من المجتمعات, المجتمع الضروري، وهو المجتمع الذي يكتفي فيه أهله “في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفء بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه, للعجز عما وراء ذلك “. وهذا هو المجتمع البدوي الصحراوي، ثم المجتمع الحاجي “اذا تعاونوا في الزائد على الضرورة, واستكثروا من الأقوات والملابس, والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر”. ثم أخيرا المجتمع الكمال, وهو المجتمع الحضري الذي يفرط في “عوائد الترف البالغة “(17) 0 كاتخاذ القصور والمنازل واجادة المطابخ ولبس الحرير والديباج… الخ.
 
يوجد الذهب, اذن لدى المجتمع الضروري الذي يعيش على الحدود القصوى, ويعمل على الحفاظ على منظومته المغلقة باستمرار. ولأنه لا يعرف سوى ما يشبع حاجاته الضرورية في الدفاع عن الحياة, فهو يجهل قيمة الذهب بالضرورة, حيث الذهب أقصى صور الكمال والدعة التي يحن اليها المجتمع المترف. مجتمع الضرورة لا يعرف النقود, ويكتفي بمقايضة شي ء مقابل شي ء في حياته الاقتصادية وأي استعمال للنقود أو للذهب في هذا المجتمع يعني تهديدا له بالتحول الى مجتمع كمالي, أي بالتحول الى مجتمع حضري، وهذا شيء لا يريده هذا المجتمع ولا يستطيعه. ومن هنا يحيط كل ما يتعلق بألنقود أو الذهب بالتحريم والدناسة, أي بالاساءة الى المجتمع نفسه, والى رأس ماله الرمزي القائم على “مجانية الذهب “..
 
إن العلاقة العكسية بين القيمتين الرمزية والنقدية للذهب هي المعادلة التي تحكم كلا من الباحث عنه والمبحوث لديه. فحيث يرتفع رصيد الذهب المادي يهبط رصيده الرمزي، وحيث يرتفع رصيدا الرمزي, ينعدم أو ينخفض رصيده المادي. وهذا هو الأساس في ملاحظة ابن فضل الله العمري عن مملكة مالي التي يضعها الروائي في مفتتح الكتاب: “في طاعة سلطان هذه المملكة بلاد مفازة التبر، يحملون اليه التبر كل سنة, وهم كفار همج, ولو شاء أخذهم, ولكن ملوك هذه المملكة قد جربوا انهم ما فتح أحد منهم مدينة من مدن الذهب ونشأ بها الاسلام, ونطق بها الأذان, إلا قل وجود الذهب, ثم يتلاشى حتى ينعدم, ويزداد فيما يليه في بلاد الكفار”. تزداد قيمة الذهب المادية بازدياد دناسته وانخفاض قيمته الرمزية, فاذا تدنس فانه يهاجر ليدخل السو ق  كبضاعة نادرة.
 
في صحراء الرواية, المرأة والذهب ملعونان. لماذا؟ باستثناء الناقة التي أغرت الأبلق وتسببت في اصابته بمأساة الجرب, وايور، المرأة التي تزوجها أوخيد, وتسببت في طلاقه للجميع, يغيب العنصر الانثوي عن الرواية. حتى “تاينت “الألهة القديمة يتم إدراكها بوصفها عنصرا مذكرا برغم وضوح الاشارة الى انوثتها في رمز المثلث. طبعا هناك اناث أخريات مثل الشاعرة والعرافة, لكنها تقوم بوظائف_ ذكورية. المرأتان أو الانثيان المذكورتان هما الناقة وايور.
 
وكلتاهما تقترن بالشيطان والفخ واللعنة.
“الأنثى أكبر مصيدة للذكر” (ص 21).
“لعنهما الله معا: الشيطان والاناث, بل من هي الأنثى ان لم تكن شيطانا رجيما” (ص 26).
” كيف أعمته المرأة الى الحد الذي أعماه عن رؤية عمله البشع ” (ص 99).
 
في الجزء الثاني من الرواية, سيكرر أوخيد هذه العبارات نفسها في ذم الذهب:
“يقال انه ملعون ويجلب الشؤم ” (ص 124).
“الذهب الذهب يعمي البصر. الأن فقط صدق ان هذا النحاس ملعون حقا” (ص 120).
“الذهب يعمي الجميع. الذهب يفسد أفضل الخلق. الذهب الملعون قادهم اليه. الذهب وراده. الذهب سبب كل اللغات” (ص 144).
“عرف الشيطان كيف يحشر نفسه ” (ص 148).
 
لا يأتي ذم الأنثى من كونها انثى، خصوصا في مجتمع مازالت فيه بقايا النظام الأمومي في انتسابه الى الام بل من توثيقها الروابط بالأرضي والشيطاني والمدنس. الأنثى فخ لأنها ترهن قلب الانسان فيما هو أرضي. في آخر الرواية يستذكر أوخيد قول الشيخ موسى، الذي قطر روابطه بالعالم الواقعي، فبقي بلا زوجة ولا أطفال ولا عائلة: “لا يمل الشيخ موسى من القول: لا تودع قلبك في مكان غير السماء. إذا أودعته عند مخلوق على الأرض طالته يد العباد وحرفته, والشيخ موسى لا يرهن قلبه. لم يرهنه قط. لم يتزوج ولم يلد ولم يرب قطعان الأغنام أو الابل. ربما كان هذا هو سبب تحرره من الهم ” (ص 157).
 
قلنا أن أوخيد, والصحراء كلها، يحط من قيمة الذهب وبلعنه. لكنه في المقابل يعلي كثيرا من قيمة “الترفاس “, كما الصحراء المجاني, ويصفه بأنه “كنز مخفي”. وهذا ما يعيدنا الى القاعدة التي ذكرناها في الصراع بين القيمتين الرمزية والمادية الذهب, المعدن الثمين اجتماعيا وحضريا، ملعون وفخ وبلا قيمة. والترفاس هبة الصحراء المجانية, كنز مخفي لا مثيل له انه هنا أيضا الصراع بين السماوي والأرضي, بين الواقعي والرمزي، بين المقدس والمدنس, بين اقتصاد الكفاف واقتصاد التبذير.
 
حين ينتبه للودان الذي يحمي الكهف الذي اتخذه قبرا اختفى فيه من هجمات صيادي با مبارا, تظهر ثنائية الصراع بين قطبين متضادين أيضا:”الودان ليس شاة أرضية. انه شاة سماوية. ملاك سماوي. رسول. الردان. مثل الأبلق, رسول ما أندر مثل هؤلاء الرسل ” (ص152) فاقتصاد الصحراء يقوم على مثل هذه الموازنة الدقيقة بين رأس المالين: الاقتصادي والوهمي. واستنادا الى هذه القاعدة يصير الأبلق, الحيوان, الأعجم, أقرب الى الرجل من أهله وامراته, ويصير الترفاس أثمن من الذهب, والردان أحن عليه من عشيرته وقومه. يصير الكهف الراضي بعزلته, أسلم للانسان من الواحة الملعونة, واقتصاد الكفاف أنجي من اقتصاد التبذير.
 
حين رضي أوخيد بقبول حفنة التبر من “دودو”، رضي السقوط في الفخ. لم يكن يعلم أنه يعالج الخطأ بآخر. كان يريد أن يصنع قيمه الرمزية بمفرده, ان يتحرر مما هو أرضي، مما يرهن وأمسه عند أحد. لكن الذهب لا يتركه. الذهب وراءه حتى بعد قتله “دودو”، سيطالب ورثته برأسه لكي يصلوا ,الى نصيبهم من الذهب. الذهب وراءه حتى في اختيار طريقة موته. يكمن في مخبئه حتى الأصيل, ويضلل الردان,الرسول السماوي، أعداءه عن الوصول اليه, والغريب أن مخبأه الذي ينجيه من القتل يتحول الى قبر. هنا نكتشف مفارقة أخرى، فالمخبأ الذي يفترض ان ينقذه من الموت الفعلي, يتحول الى قبر، أي الى دليل على الموت الرمزي. يدرك مردة بامبارا ذلك. لهذا يلجأ ون الى مطاردة أوخيد من نقطة ضعفه. يربطون الأبلق ويشملون النيران في جسده. يسمع أوخيد استغاثات الجمل المريرة, ولا يستطيع عليها صبرا. عندئذ يقرر أن لا بديل عن الموت الفعلي, فيخرج اليهم بهدوء تاركا قبره, القبر الذي أراده منقذا من الموت الطريق الوحيد الى الحياة الرمزية. يجب أن يواجه الموت ليدافع عن قيمه الرمزية. هكذا حكم على أوخيد أن يتنقل بين المفارقات, ويستبدل الفعلي بالرمزي، في عجز دائم عن المواءمة بين القيمتين.
 
حين يهبط أوخيد بقدميه, يمسكونه بهدوء ء ويقطعون اوصاله بربطه بين جملين يسيران في اتجاهين معاكسين, وهي الطريقة التي انتقمت بها “تانس ” من أعدائها. هم أيضا يهدونه الموت الاسطوري، الموت الذي يريده تماما. وبهذا الموت الفعلي الأخير، تتوقف الرؤية, فلا يعود بوسع الراوي أن يلاحقه حتى العالم الآخر. الراوي اد.ن العالم الأرضي، وقد انتقل أوخيد الى عالم النور. السيف الذي أهوى عليه كان سيفا من نور أعمى عيني أوخيد، وقطع لسان الراوي: “انشطرت الظلمة بالقبس المفاجيء. ضرب بيت الظلمات زلزال. انهار الجدار الفظيع بضربة سيف النور، فتبدي الكائن الخفي ولكن.. بعد فوات الأوان لأنه لن يستطيع أبدا أن يحدث أحدا بما رأى” (ص 160).
 
عودا على كلمة شتراوس التي ذكرناها في المقدمة, كان أوخيد يريد أن يصنع عالمه الرمزي الخاص, يريد ان يصنع اسطورته الشخصية. لقد انتسب الى الجمل وترك أهله وعد الآلهة, وأخلف الوعد. أراد تحريك الأشياء المقدسة عن أما كنها. لكنه من جهة أخرى، لم يستطع الانتماء الى المدنس. لقد حرص الراوي على عرض نظام العالم من وجهة نظر أوخيد. وحين تجرأ أوخيد على تحريك المقدس, تزلزل العالم, انتفض ضدا وطرح به. وفي النهاية انفجر به كالزلزال. ان تقطيع اوصال أوخيد, في آخر الأمر، هو تقطيع اوصال للعالم, الزلزال الذي ألم ببيت الظلمات, ما دام هذا العالم أو البيت لا يأتينا إلا برؤيته هو.
________________________________
الهوامش
1- Claude Lévi – Streausem The Sarage Mind, London, 1989, p, 10.
2- انظر سعيد الغانمي: ملمحة الحدود القصوى, مجلة “الجديد” العدد العاشر، ربيع 1996 ص 11.
3- ابراهيم الكومي: التبر, ط 3، 1992 دار التنوير – دار تاسيلي.وسنشير الى ارقام الصفحات في المتن.
4 – ترجم الكتاب الى العربية د. عبدالستار جواد, وصدر عن دار الشؤون الثقافية في بغداد.
5- B, Uspensky, A Poetics of  Compesition       
وللكتاب ترجمة عربية بعنوان «شعرية التأليف ” بقلم كاتب السطور بالاشتراك مع د. ناظر حلا ور.
6-Paul Simpson, Language  Ideology and Point of View, Routledge, 1993,p.23.
7- د. سيزا احمد قاسم: بناء الرواية, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1984، ص133.
8- بيأر بورديو: اسباب عملية, اعادة النظر بالفلسفة,تعريب. د. انور مغيث, الدار الجماهيرية للنشر، ليبيا 1996ص 210.
9- فرانسوا شامو: الاغريق في برقة, ترجمة د. محمد عبدالكريم الوافي, منشورات جامعة قاريونس, بنغازي، 1990، ص 307 –359.
0 1 – ترجم هذا الفصل د. علي فهمي خشيم في كتابه “نصوص ليبية “, ط 2, دار مكتبة الفكر. طرابلسى 1975.
11- شامو: الاغريق في برقة ص 341.
12 – د. علي فهمي خشيم: نصوص ليبية هي 141.
13 – المصدر نفسه ص135.
14 – روجي لابورت: مدخل الى فلسفة جاك دريدا، ترجمة ادريس كثير وعزالدين الخطابي، افريقيا الشرق, 1994 ص 58. ويرد ما يماثل هذا النصر في. جاك دريدا. مواقع, حوارات, ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال, 1992، ص 44.
15 -دريدا: مواقع ص 18.
16- كان كولومبس يشكر الرب عندما يجيء أتباعه بالذهب, وهو يرى أن الاسبان يقدمون الدين، ويأخذون الذهب. انظر تودوروف: فتح أمريكا ترجمة: بشير السباعي دار سينا, مصر 1992, الصفحات 18، ا 5.
17- ابن خلدون: المقدمة ص 120.
 
 

مقالات ذات علاقة

الحيوانُ بين الرمزِ والتجسيِّدِ الواقعي في رواية (الحيوانات) للصادق النيهوم

المشرف العام

قراءة في رواية المطر الأحمر للكاتب عيسى عبدالقيوم

محمد مفتاح الزروق

قراءة في رواية (ربيع الكورونا)

المشرف العام

اترك تعليق