مدفع الإفطار في طرابلس
مختارات

رمضانيات…

كريمان الصغير

مدفع الإفطار في طرابلس
مدفع الإفطار في طرابلس

من الأشهر المباركة والتى لها دوما مكانة وأهمية فى قلوبنا ..وايامه تتميز بنكهة روحانية واجتماعية خاصة دون غيرها من الأشهر والايام.. رغم بعض الاختلاف لرمضان زمان عن اليوم ببعض الجزئيات.. والتى للأسف بدأت تختفي رغم أنها كانت من العلامات المهمة فى رمضانيات زمان بحكم ظروف ذلك الزمن ويومنا الحالى.. وهذا الأمر يتفاوت بين الدول سواء بليبيا أو باقى الدول العربية والإسلامية.
اهم هاتين الميزتين هى “مدفع الإفطار” و”المسحراتى”.. فقديما رؤية الهلال كانت تتم بترقب الناس لهلال الشهر الكريم بصعود أحدهم إلى أعلى جبل أو نقطة ليتمكن من رؤية الهلال من عدمه بالعين المجردة .. فإذا ثبت للشخص رؤيته للهلال فيتم الإعلان عن قدوم الشهر المبارك وبداية الصيام.. وغالبا ماتوكل هذه المهمة إلى المشايخ بالمساجد.. ثم أوكل أمرها لدائرة الأوقاف.. ويبقى الجميع فى انتظار خبر رؤية الهلال من عدمه.
واليوم يتم رصد ولادة هلال الشهر بالمرصاد الفلكي المتطور.. وكثير من الدول أصبحت تقيس الهلال بعمليات حسابية فلكية.. دون اللجوء لرؤية الهلال او تتبعه.. وتتم إذاعة بداية الشهر من وسائل الإعلام المختلفة والتى أصبحت بالمتناول للجميع.

الحاج الصادق زقلان آخر من أطلق مدفع الإفطار في طرابلس
الحاج الصادق زقلان آخر من أطلق مدفع الإفطار في طرابلس

وبطرابلس خاصة.. كان للشهر نكهة خاصة عند الناس زمان.. وجرت العادة على التأهب لاستقبال الشهر قبل دخوله بفترة.. فتكثر الحركة الشرائية والتحضيرات.. وتبدأ من المنزل فكان العديدون يقومون بطلاء بيوتهم قبل دخول الشهر وفرشها بفرش جديد.. علاوة على التسوق من مواد منزلية وأدوات مطبخ وغيرها احتفاء بالشهر وطلته.. وتزدان الدكاكين والمحلات بالمواد والبضائع التى تجلب خصيصا لهذا الشهر والتى تتفنن العائلات فى تحضير مالذ وطاب منها.. وتستعد المساجد لاحياء ليالى الشهر وإقامة المسابقات الدينية.. ويبدأ الشهر.
وأهم مظهر فيه هو انتظار المغرب.. وانتظار مدفع الإفطار الشهير.. والذى كان ينطلق بطرابلس من وراء جدران السراى الحمراء ليعلن للناس مع كل انطلاق له انتهاء يوم صيام.. واستمر المدفع على مدى السنين بمهمته.. ومع توسع المدينة وازدياد الناس.. صاروا يعتمدون على صوت المدفع الذى ينقله التلفزيون والراديو بجوارهم.. ثم صلاة المغرب.. وتجمع العائلة كاملة حول سفرة أو طاولة الإفطار والتى تتزين بما لذ وطاب باطباق التحلية قبل الصلاة وتليها بعد الصلاة الأطباق الرئيسية.. وبالليل المحلبية والخشاف وغيرها.
كانت أجمل الفرص للقاء عائلة.. ومهرجان اجتماعى يشيع السعادة والبهجة والمشاركة.. إضافة إلى تميز طرابلس بموائد الرحمن.. يقدمها أهل طرابلس للغريب وعابر السبيل ومارى الطرق.. وايضا تقديم الإفطار لرجال المرور ودوريات الشرطة.. وهذه لاتختص بها طرابلس فقط بل كل ليبيا.. إضافة لموائد إفطار مختلف الأصناف تقدم بالمساجد للمحتاجين والمعوزين.
كان رمضان شهر سلام وأمان.. يضج بالحركة والصخب والازدحام ليلا ومع النصف الأخير منه حتى ساعات متأخرة من الليل.. وتتحول الشوارع إلى شوارع لاتنام.

لوحة المسحراتي للتشكيلي عبدالرزاق الرياني.
لوحة المسحراتي للتشكيلي عبدالرزاق الرياني.

وإذا وصلنا لآخر الليل فقد وصلنا لظاهرة شهيرة كانت موجودة إلى وقت قريب.. وهى المسحراتي.. “ساهر الليل“ وأحيانا يسمى ”الطقطاق” نسبة إلى مايؤدى من فعل وهو النقر بعصاه فى ايقاعات موزونه على طبلته الصغيرة.
المسحراتى شخص يجوب طرقات المدينة وازقتها آخر الليل حاملا طبل وعصا يدق عليها بها مرددا عبارات معينة.. الغرض منها تنبيه الناس النيام للنهوض للسحور والصلاة الفجر.
مسحراتى ليبيا الذى تعودنا عليه زمان مثلا كان مشهور بعبارات يرددها بصوت عالى ويقترب من كل بيت ويستمر بالتطبيل بعصا ليصحو النيام وهو يردد: “اصحى يانايم.. وحد الدايم“.. ”سهر الليل يا سهر الليل.. عادة حلوة وفعل جميل“.. وغيرها من التهليلات والأناشيد الدينية.. العبارات التى رسخت فى ذاكرة المدينة.
وتتشابه الدول فى شخصية المسحراتى.. ولو عدنا للوراء.. فإنه ايام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان كل من الصحابى الجليل “بلال بن رباح” وعبد الله بن ام مكتوم هما أول من عمل “مسحراتى” فى التاريخ الإسلامى.. إذ كان بلال ينادى ليتسحر الناس وذكر أنه كان يجوب الشوارع والطرق لإيقاظ الناس.. اما عبدالله فكان يؤذن للفجر وينبه ليمسك الناس عن الاكل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ان بلالا ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن ام مكتوم).. أما من اول من نادى للسحور وانشد لذلك فكان “عنبسة أو عنتبة بن إسحاق“ وإلى المنتصر على مصر عام 228 هجرة.. حيث كان يمشى بنفسه فى مدينة العسكر فى الفسطاط إلى جامع عمر بن العاص.. يوقظ الناس بتلك الأنحاء مرددا ”يا عباد الله تسحروا.. فإن فى السحور بركة“.
واشتهر بهذه المهنة أيضا “الزمزنى” فى مكة الذى كان يصعد إلى أعلى المئذنة معلنا بدء السحور.. وفى كل مرة كان ينادى فيها كان يدلى بقنديلين كبيرين معلقين فى طرفى حبل يمسكه فى يده حتى يشاهدها من لايسمع النداء.
أما بالعصر المملوكى.. فكانت أن تندثر هذه العادة لولا قيام الظاهر بيبرس بتعيين صغار رجال الدين لهذه المهمة.. وفى العصر الفاطمي كان الحاكم بأمر الله يأمر جنوده بطرق أبواب البيوت لإيقاظ الناس للسحور.
أما فى عصر الدولة الطولونية فذكر أن المرأة دخلت هذه المهنة إذ كانت تجلس خلف المشربية وتنشد بصوت عذب ليستيقظ أهل الحى للسحور.
وبالعصر العباسى كان المسحراتى ينشد شعرا شعبيا يسمى “القوما” طوال ليالى رمضان.. ويرجع البعض سبب ذلك إلى ازدهار الشعر بالعصر العباسى.
ولو التقينا نظرة على المسحراتى بمختلف دولنا العربية سنجد تشابه كبيرا واختلاف بسيطا. فمثلا بمصر تختلف الطريقة التى يتابعها المسحراتى من محافظة لأخرى فمثلا بالقاهرة مع ظهور الإيقاع والطبلة نجد المسحراتى يجوب الشوارع حاملا طبلة صغيرة يدق عليها بعصا خشبية أو من الجلد وغالبا مايصاحبه طفل أو طفلة بفانوس لتضىء له الطريق ويردد المسحراتى “اصحى يانايم.. وحد الدايم“. وكان من عادة النسوة بذلك الوقت أن يضعن قطعة معدنية من النقود ملفوفة داخل ورقة ثم يشعلن أحد أطرافها ويلقين بها إلى المسحراتى الذى يستدل على مكان وجودها بهذه الطريقة.. فيعلو صوته بالدعاء لأهل المنزل جميعا متبعا دعائه بقراءة الفاتحة.
وفى الإسكندرية يقوم المسحراتى بالدق على أبواب بيوت الأحياء بعصا وهو يردد الأدعية. أما بالأرياف فكان العمدة يقوم بنفسه بمهمة إيقاظ الناس للسحور أو يتولى تقسيم شوارع القرية على عدد من المسحراتية طيلة ليالى رمضان وحتى ليلة عيد الفطر.
فى عمان يقوم المسحراتى بتنفيذ الناس لموعد السحور مرددا “يا نائمى الليل قوموا أتسحروا.. سحور يامسلمين…”.
وفى الكويت يسمى المسحراتى “ابو طبيلة“.. يقوم بعمله ومعه أولاده فيردد بعض الأدعية وأولاده يردون عليه.
فى اليمن فيتولى أمر المسحراتى أحد أفراد الحى حيث يدق بالعصا على باب كل بيت وهو ينادى على اهله قائلا: “قوموا كلوا“.
وفى السودان يطرق المسحراتى أبواب البيوت ومعه طفل صغير يحمل فانوس ودفتر به اسماء أصحاب البيوت حتى ينادى عليهم بأسمائهم قائلا: “يا عباد الله وحدوا الدايم ورمضان كريم“.
فى سوريا ولبنان وفلسطين فالمسحراتى يوقظ النائمين بإطلاق الصفارات.. أو بالعزف على العيدان والطنابير -مفردها ”الطنبور”- مع الإنشاد. وفى المغرب العربى المسحراتى يطرق الأبواب بعصاه.
فى تونس قديما.. يسمى المسحراتى ابو طبيلة.. يطوف على البيوت مرددا “اصحى يانايم.. وحد الرزاق“.. أو يقول: “نويت بكرة ان حييت الشهر صايم.. الفجر قايم.. اصحى يانايم.. وحد الرزاق.. رمضان كريم.. سحر يامسحراتى.. نقر يامسحراتى“.

وفى ليبيا يجوب المسحراتى الشوارع والازقة وهو ممسك بطبلته الصغيرة و بعصاه.. ضاربا عليه بايقاعاتش تتماشى مع مايريد من عبارات “سهر الليل يا سهر الليل.. عادة حلوة وفعل جميل.. اصحى يا نايم.. وحد الدايم“.
وقبل رمضان يطوف المسحراتى على البيوت ويكتب على كل باب بيت اسماء أفراده ويناديهم بأسمائهم.. وفى أواخر رمضان والناس تستعد للعيد بعمل الكعك.. ينادى المسحراتى: “جوعوا تصحوا.. حديث سيد السادات.. له العيان بينه والتجربة إثبات.. أن كنت تسمع نصيحتي.. والنصيحة تفيد.. قلل من الأكل ما أمكن من دون ترديد.. وفى اكل الكعك بعد الصيام يوم العيد.. يتعب الصحة.. يسبب الضرر ويزيد“.
من عبارات المسحراتية الشهيرة: “يانايم وحد الدايم.. ياغافي وحد الله.. يانايم وحد مولاك.. اللى خلقك ما ينساك.. قوموا لسحوركم.. رمضان جاء يزوركم“.. ويصاحب ترديد هذه العبارات مايوافقها من تلحين لهذه العبارات عبر ضربات على الطبلة.
وقديما كان المسحراتى لا ياخذ اجرة على هذا العمل.. بل كان ينتظر حتى أول يوم لعيد الفطر فيمر صباحا على أبواب البيوت بطبلته المعهودة فيهب أهل البيوت اليه بالمال والهدايا والحلويات ويتبادلون معه عبارات التهانى للعيد السعيد.
ذكريات رمضانية جميلة عايشناها إلى فترات قريبة.. ولكن يبدو أنها بدأت تختفي لتصبح من ذكريات الشهر الفضيل.

مقالات ذات علاقة

التيه.. وتناقض الفكر.. والواقع والمطالب

المشرف العام

كـالـــعـادة

منصور أبوشناف

التليسي ودانونزيو

بدرالدين المختار

اترك تعليق