المقالة

رغبة القتل عن بعد

بوابة الوسط

يرى توينبي، المؤرخ وفيلسوف التأريخ الإنجليزي المعروف، أن تدهور كوكب الأرض ابتدأ من اللحظة التي أخذ فيها أول إنسان حجرا وشذب به غصنا ليستخدمه كأداة. كان توينبي يقصد التدهور البيئي الناتج عن ظهور ما تمكن تسميته بـ”الإنسان الصانع”. أي الإنسان خالق الأداة التي يتمكن من خلالها السيطرة على البيئة. وتزايد، بل تعاظم، إمكانيات السيطرة على البيئة التي أتاحتها قدرة الإنسان الصانع المتزايدة على صناعة الأداة أدت إلى تدهور البيئة الطبيعية الذي نشهد أخطاره المحدقة بالبيئة الآن، والتي تنذر بنهاية الحياة على كوكب الأرض.

لكن السيطرة على البيئة وإخضاعها لم يكن الهدف الوحيد الذي كان يبتغيه الإنسان من وراء صناعة الأدوات. ثَمَّ هدف آخر لا يقل خطورة عن الأول، وهو السيطرة على غيره من بني الإنسان.

من هنا تولدت فكرة صناعة أدوات خاصة بالقتال والحرب والقتل. قتل غيره من بني جنسه. أدوات القتال والحرب هذه هي ما نسميه الأسلحة.

في البداية، مع ظهور الأسلحة المعدنية من مثل الخناجر والسيوف منذ حوالي 3500 سنة قبل الميلاد، كان الاقتتال والتحارب يتم بالالتحام المباشر. لكن القتل عن طريق الالتحام الجسدي قد يبتعث في الإنسان كابحا ضد الإمعان في القتل. إذ إن قتل شخص شخصا آخر وهو ينظر في عينيه ويستشف مشاعر الخوف والرعب لديه ومشاهدته ينزف ويحتضر، أمر صعب الاحتمال لدى البعض. فـ “وجود الأسلحة يولِّد الخوف من استخدامها، لذلك فإن الأسلحة تطورت بحيث تقتل من دون أن تثير هذا الخوف أو الكابح”*. لذا تم اختراع أسلحة القتل عن بعد. أسلحة هذا النوع ابتدأت بالرمح الذي يمكن أن يقذف من مسافة أمتار، ثم بالقوس أو السهم الذي يقذف من مسافة أبعد والذي ظهر حوالي 3000 سنة قبل الميلاد.

رغبة القتل عن بعد هذه أدت إلى اختراع أسلحة أبعد مدى وأشد فتكا، هي الأسلحة النارية التي ابتدأت بالمسدس ثم تطورت إلى البنادق والمدافع والطائرات والصواريخ الأبعد مدى وأسلحة الدمار الشامل.

هذا التطور قضى نهائيا، تقريبا، على كوابح القتل المحتملة في قتال وحروب الاتحام جسدا لجسد. وبالتالي، قضى (ومرة أخرى: تقريبا) على مشاعر الرأفة والشفقة الممكن ظهورها لدى بعض المتحاربين إزاء بعضهم. يقول لورانزو: “المسافة التي بلغتها الأسلحة النارية قد أصبحت كبيرة بما فيه الكفاية لتسمح للمصوب أن يبقى بمنأى عن المواقف المثيرة التي كانت، في حال وجوده فيها، ستنشط كوابحه ضد القتل”*. ويضيف: “إن الطبقات العاطفية العميقة في شخصنا لا تسجل بكل بساطة أن حركة الضغط على الزناد تفجر أحشاء إنسان آخر”*

* ممدوح عدوان، حيونة الإنسان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع (د. م) ، (د. ت). ط2. ص 50.

مقالات ذات علاقة

أصيل ابحير.. وديكتاتورية الأدوار

المشرف العام

لم ينتهي الفكر عند الديمقراطية الرأسمالية أو غيرها من النظريات الفكرية الإنسانية

علي بوخريص

الشاعر الكبير مفتاح العمّاري يصفع التوحش

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق