ترجمات

رحلـــــة

(إلى إيليا)

نوداس غوناتاس*

الميدان كان خاويا، فيما كان بخار ينبعث من البلاط الحجري تحت الشمس الحارقة.

ـ لوكان لدينا مركب ليخرجنا من هذه الجزيرة.. قال رفيقي

كان قد بدأ يهذي، ولم يكن من المفيد تذكيره مرة أخرى بأننا لم نعبر أي بحر لكي نكون في جزيرة

ـ لنذهب إلى أين ـ أجبته متسائلا وأنا هادئ قد استطاعتي، مشيرا إلى الظلام المطبق حولنا، والذي كان يحيط بالسياج البالغ الارتفاع الذي يحيط بالميدان

ـ تريد أن تقول بأنه ليس باستطاعتنا تجاوز حدود الميدان

ـ لقد أجبتك على هذا السؤال مئات المرات، فلماذا لا تريد أن تفهم.. ؟

ـ المسألة ليست أنني لا أريد أن أفهم.. ولكنني لا أريد أن أصدق.. قال وهو يطأطئ رأسه

ـ فلتصدق إذن ـ صرخت بغضب وقد بدأت أفقد صبري ـ لأن الشمس، ولسبب غير معروف، قد توقفت ـ على مدى أسابيع الآن ـ فوقنا بالضبط، مثل مصباح قوي مسلط على هذا الميدان بشكل حصري، وقد عزلتنا عن بقية العالم.

ـ أسرى للشمس..؟! قال هامسا

ـ أخيرا قلتها ـ صحت بارتياح ـ أو ربما لم أسمع جيدا.. أعد على مسامعي بصوت أكثر ارتفاعا ما قلت.. لا ترتعش خوفا أمام الحقيقة.. دعني أقبلك

رفض.. راسما على وجهه علامات احتقار.. وأتى بحركة فجائية مهينة بوجهه

ـ ولكن لماذا اختارتنا نحن بالذات.. ؟ ما الذي نمثله نحن بشكل استثنائي.. آآه.. لماذا كان على ان استمع إليك ـ قال وهو يوشك على البكاء ـ لقد كانت فكرتك، أن نغيّر من برنامجنا ونأتي إلى هنا لنقرأ جريدتنا.. هل كان أمرا سيئا عندما ظللنا نقرؤها لسنوات على سطح بيتنا.. !! لقد رغبت في نوع من التغيير.. حسنا.. لم أقل لا.. لم أرفض.. واقترحت عليك سطح بيتكم.

ـ يالك من غبي لا علاج له ـ فكرت في سري ـ ومنكر للجميل.

وحتى لا أقع في فخ الحوار المجدب الذي جرّني إليه حتى الآن أربع مرات، لم أجبه بأن بيتنا لم يكن له سطح، حيث لا طائل من أن أذكره بما يعرفه تمام المعرفة.

ـ لو لم أقبل بأن أتبعك في هذه الرحلة ـ استمر في استفزازي ـ ما كنت ستأتي إلى هنا لوحدك.

كان علي بأن أقبل ضمنا بأن ذلك صحيح، ولكن المشكلة لم تكن هنا..

ـ وما الذي سيغير ذلك في الأمر.. لعله سيكون أسوأ.. ليس لعله.. بل بالتأكيد إذا..

ـ كيف.. ما الذي سيغيّر ـ قاطعني قائلا ـ لو تصرفت على سجيتي.. لو أنني امتنعت.. لو لم أتراجع أمام عنادك لما كنا سجينين اليوم في قاع هذه البئر القميئة..

توقف قليلا.. تنحنح.. ثم حدق في ساعته وقربها من أذنه، وحيث اقتنع بأنها تعمل، قال لي بارتياح:

ـ هل تعرف أية ساعة هي.. ؟

نظرت إليه بشفقه

ـ أنها السادسة مساء بالضبط ـ أضاف ـ في مثل هذه الساعة نكون انتهينا من قراءة الصحفة الأخيرة من جريدتنا، انتهينا من قراءة الإعلانات الصغيرة، لنريح أعيننا بالنظر باتجاه الأسطح التي حولنا، المداخن، ثم نحو قبة الكنيسة في العمق، التي كان منظرها يملؤنا بهجة بسبب فكرة خفية نحملها داخلنا مضمونها أننا كنا قد ساهمنا في تنفيذها ولو بقدر ضئيل من المال (لم نكن نخرج هذه الفكرة للعلن تواضعا، ونعبر عنها بمجرد تبادل نظرة سريعة). بعد ذلك نمضي الوقت في مراقبة العصافير التي كانت تتجمع على القرميد في انتظار أن نطعمها فتات الخبز والسمسم الذي كنا نخرجه من جيوبنا، وفي مراقبة القطط التي تقترب منها دون أي صوت، والتي لم تتمكن في أي يوم من الإمساك بأي منها، الأمر الذي كان يملؤنا سعادة. نراقبها على خيوط الغسيل، والملابس التي تفوح منها رائحة منعشة، رائحة قطعة الصابون الخضراء التي كانت تسحرنا نحن الإثنين، ربما لأنها كانت تذكرنا بسنوات طفولتنا التي طارت دون عودة، عندما كانوا يضعوننا في الحوض ويغسلوننا بها. أتذكر.. في المرة الأخيرة، عندما وقع بصرنا على حمالات الصدر التي كانت قد ظهرت للمرة الأولى في ذلك الوقت، وهي تتأرجح على حبل الغسيل.. ؟ أنت لم تنتبه إليها، فأشرت نحوها وأنا أقول لك:

ـ الق نظرة على هذه الراقصات الأثيريات..

فأخذت من يدي المنظار المقرب على الفور، لكي تتفحص ألوان زخارفها الزاهية عن كثب لفترة غير قصيرة من الوقت مستغرقا في احلام يقظتك، ثم طأطأت رأسك وابتسمت، وهمست في أذني بخبث رافضا تشبيهي الرومنسي لها بالراقصات الأثيريات:

ـ بيني وبينك الآن يا صاحبي.. ألا تفضل لو أنها كانت محشوّة.. ؟!

هذه الصور المليئة بالسعادة التي طفت على سطح الذاكرة هدأت من غضبه، غير أنها بعثت فيه شعورا بالألم، ولاحظت أن دموعا قد تركت بضعة أخاديد على خديه فيما كان يتكلم. شعرت نحوه بالرثاء والإحتقار في نفس الوقت، لأن المنطق كان يمنعني من أن أشاركه ألمه ذاك، والذي لم يكن أكثر من نتيجة لوهم كبير بائس. لم يقبل بأي شكل من الأشكال أن عقارب ساعته، بالرغم من اهتمامه المبالغ فيه بتعبئتها، لم تكن تشير إلى الوقت الحقيقي.

لو أنه حاول قليلا استخدام دماغه، لما كان من الصعب عليه أن يدرك أنه في هذه اللحظة، باستثناء هذه الزاوية الصغيرة من الأرض، تغرق جميع الأمكنة والأشياء في ظلمة كثيفة سوداء ومطلقة. ظلمة ليس بمقدور شعاع واحد الهروب منها حتى كعيّنة، أو أن ينحني ليضيء خارج نطاق هذا الميدان. هنا خواء الضوء اللامتناهي، وعلى الضفة الأخرى فراغ مملكة الظلام.

ـ يا إلهي ـ قلت بصوت خفيض وأنا أحرّف أبياتا لدانتي خطرت على بالي فجأة ـ لا يوجد ما هو أكثر إيلاما وتعاسة من صحبة شخص غبي.. غير أنني أدركت أنني بدأت أجدّف فاستدركت صائحا:

ـ سامحني أيها المعلم السماوي على وقاحتي.. لم يكن في نيتي إهانة ظلك المقدس.

ـ براحتك يا ولدي.. براحتك.. لم تقم بإهانتي على الإطلاق ـ قال لي صوت رخيم بعث الهدوء في نفسي، بدا لي أنه قادم من السماء ـ ثم أن الثلاثية التي أوحت إليك بهذا البيت الرائع بمحض الصدفة، هي جزء ـ إن كنت لا تذكرـ من النشيد الخامس للملهاة. ثم اعلم أيضا ـ إن كنت لا تعرف ـ بأنها لم تكن من تأليفي. لقد كنت قد حرفتها من أبيات لمعلمي بويتيوس بدون إذن منه، إضافة إلى أنني قمت بنشرها فيما بعد. أما أنت، فمن المؤكد أنك سوف لن تقوم بنشر ما قمت بتحريفه من أبيات مطلقا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* سيريالي يوناني 1924 – 2006

مقالات ذات علاقة

قصة إعصار 1944

مأمون الزائدي

تاكسي إلى بنغازي

محمد قصيبات

فضـلُ الصــورة

أحمد الغماري

اترك تعليق