من أعمال الفنانة حميدة صقر خلال فترة الدراسة بكلية الفنون والاعلام، طرابلس 1996-2000 (فترة وجود الراحل الدكتور نافع الخطيب)
المقالة

رثاء النافع


خرجتُ على عجل باتجاه سيارتي، فهناك ثلاث ساعات هى فاصل موعد محاضرتى المقبلة التى سأرجع لأجلها، كنتُ طالبة بالسنة الثانية بكلية الفنون والإعلام بقسم المسرح، ومعلمة بالصفوف الابتدائى لمادة العلوم، ماجعلنى أنظم جدول التدريس بمدرستى حسب محاضرات الكلية، جلست وشغلت محرك سيارتي، وإذا برجل قادم بمواجهتى واقترب قائلا: «هلا هلا يا بنتى أنا الأستاذ نافع الخطيب، محتاج من يأخذ أربعا من بناتى إلى ميدان الشهداء، أعطيهم حصة في الرسم، الأولاد راحوا، والبنات لم يعلموا بترتيب المحاضرة هناك»، ترددت في الموافقة فأنا أيضا على موعد، حصصى مع تلاميذي، وهناك مسافة بين شارع مدرستى وذلك الميدان، ألح وعاجلني، ستساعدينا، هن بنات ولن يطمئنوا لغير فتاة مثلهن تنقلهن ورفع يده مشيرا: هيا يا بنات هيا، تسمرت، ثم ضحكت، وأنا أتفرج على من يركبن سيارتى ويرددن عبارات تتالت تقديرا وشكرا. لاحقا سيُعرفُ بالكلية بالأستاذ الذى يجتمع بطلابه ويعطى درسه في الفضاءات المفتوحة، وستحفظ له ذلك تلميذته الفنانة الأستاذة حميدة صقر، بلوحات رسمتها له وبحضوره، تحكى اللوحات لناظرها تفاصيل ووقائع تلك الجلسات الفنية مع طلابه.

ذلك الموقف سيكون فاتحة معرفتى بأستاذ الفنون التشكيلية القادم من روسيا، نافع الخطيب، صار حالما يرانى الطالبة المستعجلة لمغادرة الكلية إلى المدرسة، يُسلم مبتسما، ويسألنى إذا ما كنت أحتاج أية خدمة، وقد توسط لى عند أساتذتي، وصار يحدثهم عن انشغالى كمعلمة تواصل دراستها، فمنحونى براحا في الحضور والغياب، شرط أن أجتهد في تحصيل الدروس والالتزام بأم الامتحانات.

في سيرته رحلة اغتراب طويلة،إذ غادر العراق موطنه الذى ضاق به إلى روسيا، وبمعهد سوريكوف بموسكو قرر إكمال دراسته في الفنون الجميلة، وتتلمذ على يد مشاهير فنانيها وقتها، وفيها رسم لوحاته، مستعيدا جماليات العراق، الفرات، قباب النجف وكربلاء، غابات النخيل التى ظلت عنوانا لفنه في اغترابه الثانى حين نزل بليبيا طرابلس محطته الأولى وبشهادته العليا كان أستاذا في كلية الفنون والإعلام، جامعة طرابلس، وبمعهد تقنيات الفنون، وستكون بنغازى محطته أيضا عقب فبراير 2011، وسيعيده حنين الوطن إلى العراق عام 2015، ليتأمل من جديد مواقع أحبها، وانغرست في روحه ولم تغادرها.

نشاطاته وشخصيته الودودة خلقت له عالما من الأصدقاء والأحبة عبر مايقارب العقود الثلاث التى أمضاها بيننا، طلابا علمهم، ورفاقا له من الأساتذة في الفنون التشكيلية، كتاب وأدباء ومثقفين، وقد شارك بالكتابة مقالات وبحوث في دوريات ليبية، ورغم تعرضه لظروف قاسية من شظف عيش وحرمان مادي، تقاسمهما مع ليبيين ظلوا مع الإجراءات البيروقراطية التى تجعل من صاحب الحق واقفا لسنوات على أبواب إدارات المسئولين لأجل مرتب، لقاء ساعات التدريس، إلا أنه أبدا لم يكن ليشكو أو يتذمر، أحب ليبيا فأحبته، صادق أهلها ممن تشابهوا مع روحه النبيلة وعفويته، وفنه الذى قارب أيضا مناظر من شوارع، وطبيعة خلابة اقتنصها أثناء رحلاته وجولاته بليبيا.

في رسائله على الماسنجر التى أطالعها اليوم عقب رحيله عنا، أقرأها مستعيدة صوته الحانى الودود مناديا يا بنتي، فهو المبتسم في وجه أصدقائه بل كل من تعرف عليه يعرف ضحكته المجلجلة، وذلك الغليون في فمه، شاهدته ذات مرة، وكنت أتردد على مكتبة بالمدينة القديمة، يحادث رجلا مسنا من سكانها، ثم يقاسمه جلسته على دكة قديمة، دعانى للاستماع إلى حكايا مضيفه، وصاح في تعال يا بنتي، وكانت لازمته كلما نادى من عرفهن كطالبات بالكلية، تعالى هذا بحار وصياد، لازم تسمعوا سيرة مدينتكم طرابلس من لسانه.

لوحاته، التى أهداها إلى وطن سيتذكر صوته، وريشته، وخطواته في شوارعه، ومقاعد جلس عليها، ومناشط حضرها وشارك بكلماته فيها، كانت تتزين وبوفاء يستحقه، وقد احتفت بها دار الفنون الليبية بطرابلس السبت الماضي، في معرض ضاج بروح النافع الخطيب لروحه كل السلام.

____________________________________________
* من اعمال الفنانة حميدة صقر خلال فترة الدراسة بكلية الفنون والاعلام، طرابلس 1996-2000 (فترة وجود الراحل الدكتور نافع الخطيب).

مقالات ذات علاقة

حقول “الحرام” الأخضر

المشرف العام

هل المجنون مجنون؟

عبدالرحمن جماعة

طوفان الأقصى يغير المعادلة

خالد الجربوعي

اترك تعليق