قصة

ذكريات جد

أتجه ببصره الكليل نحو الباب … حيث كان يقف حفيده يتهيأ للخروج للعب مع أقرانه.

في تلك القرية الصغيرة المستلقية تحت سفح الجبل … والتي تبدو بيوتها المتناثرة كأنها نحتت من أحجاره … نهر ذلك الطفل بصوته الجهوري الذي لا يزال يحتفظ بقوته رغم تقدمه في السن … يأمره بالدخول إلي البيت … التفت الطفل إلي مصدر الصوت … فرأي جده جالسا في وسط ( الحوش ) علي قطعة من (كليم ) صوفي قديم نسج باليد بألوان بديعة …  وقد وضع عصاه التي يتوكأ عليها بجانبه … وهو يداعب بلطف حبات مسبحته التي لا تفارقه … أتجه الطفل إلي حيث يجلس جده … قبل يده

  • جدي أرجوك أسمح لي بالخروج لألعب قليلا
  • ولكنني أخاف عليك … فأنت وأبيك وأمك تسكنون هناك في المدينة ولا تعرف دروب هذه القرية … وأخاف أن تصاب بأذى
  • سألعب قليلا وأعود … لن أبتعد عن البيت … أعدك يا جدي

أبتسم الجد ابتسامة ود ومحبة …. قبل حفيده وسمح له بالخروج للعب …. يا لهذه الحياة …. تنهد الجد … وهو يتذكر حياته … لقد تسربت الأيام من بين يديه كما تتسرب حبات الرمال …. لم يعد يدرك كيف فتح ذلك الباب المفضي إلي الشيخوخة ودخل إليه …. كانت أيامه تمر وداعة في سعي مستمر خلف لقمة عيش كريمة أحيانا يعود بها وأحيانا أخري لا يحالفه الحظ فيعود بدونها … لم يؤثر فيه شضف العيش كثيرا … بسبب تلك المرأة الطيبة … زوجته التي لا تفارق الابتسامة ثغرها حتى  في أجلك الظروف … فكانت ابتسامتها ورضائها بما قسم الله لهم من رزق وان كان قليلا … مصدر راحته … تذكر كيف مرت الأيام هانئة لا يكدر صفوها شيء … أنجب خلالها … ولد وبنتان …. نحت بأظافره  في الصخر ليؤمن لهم حياة كريمة …. ولكن الهناء لا يدوم … هكذا هي الحياة فذات يوم أتي الغزاة الإيطاليون إلي قريتهم الصغيرة النائية … وأخذوا يجمعون الرجال والشباب في ساحتها …. لتجنيدهم بالقوة ليقوموا بغزو الحبشة

أخذوه ومن معه من الرجال إلي ذلك المعسكر الكئيب الذي أقاموه عند أطراف القرية وبدون أن يودع زوجته وأطفاله …. ألبسوهم زيا عسكريا … موحدا وأمدوهم بالبنادق … واتجهوا بهم جنوبا … حاول الهرب فهو يحب وطنه ولن يكون أبدا أداة في يد الغاصبين لتحقيق أطماعهم … فحري به أن يحمل السلاح

في وجوههم ليدافع عن وطنه بدلا من حمله ليكون معهم … طاردوه في الصحراء القاحلة … وتمكنوا من القبض عليه …. كان العقاب رهيبا … لا يزال يحمل منه أثارا علي جسده إلي اليوم …. وطال غيابه وطالت الرحلة في ارض مجهولة لا يعرف عنها شيئا … رأي الموت أكثر من مرة منه يقترب …. قاسي الأهوال من الجوع والعطش والإرهاق … ومعاملة (( الكولينلو )) القاسية الذي كان قائدا لكتيبتهم… الكثيرون ممن ذهبوا معه في رحلة العذاب هذه ويعرفهم رآهم بأم عينه يموتون أمامه

من شدة التعب والمرض … أو برصاص الحبش الذي كان ينهمر فوق رؤؤسهم

في حرب لا ناقة لهم فيها ولاجمل … أنسته الأهوال وغريزة حب البقاء حتى أهله

فلم يعد يذكرهم إلا قليلا … سنين مرت …. وكتب له الله العودة إلي أرض الوطن

ليشهد فيما بعد هزيمتهم وإجلائهم منها إلي غير رجعة …. عاد ليجد أبنائه قد كبروا وليجد زوجته الصابرة لازالت تكافح من أجل أن توفر لهم حياة كريمة

وهي تنتظر عودته … والابتسامة .. نفس الابتسامة الراضية القانعة لا تزال مرسومة علي شفتيها رغم امتزاجها ببعض من مرارة وحزن علي فراقه … العمر قد صار في أرذله …. سيول الذكريات تنهال داخل نفسه … رغم قسوتها يحس بها باردة منعشة … كقدح من ماء قراح بارد في يوم صيفي قائض … تمد في عمره وتزيده قوة …. حفيده عاد … أتجه إليه فور دخوله مسرعا … قبله وأحتضنه بعاطفة الجد … عاد وأبعده عنه قليلا …لينظر إلي وجهه الطفولي البريء …. رأي فيه امتدادا لمستقبل واعد … ليس فيه غزاة ولا فقر ولامرض

وجهل … بل عزة وأمن وسلام … و طريق تقدم يسير فيه الوطن بخطي واثقة.

مقالات ذات علاقة

مُــواراة

المشرف العام

الحتحات

حسن أبوقباعة المجبري

كن مطمئناً في الغياب

خيرية فتحي عبدالجليل

اترك تعليق