طيوب عربية

ذات صنع الله ابراهيم

 
في روايته الموسومة بـ “ذات” وهو أسم بطلتها، يلجأ الروائي المصري صنع الله ابراهيم إلى حيلة وتقنية صغيرة تمثلت في تخصيص فصول أو أبواب يورد فيها ويستعرض ما نشرته الصحف والمجلات المصرية خلال سنوات الثمانينات من أخبار الفساد المالي والاقتصادي والسياسي والجرائم الجنائية وأخبار تردي أداء الأجهزة الخدمية للدولة في الصحة والتعليم وتهالك البنية التحتية والتلاعب في المعايير والمواصفات الهندسية والصحية فيما يتعلق ببعض المشاريع التي تُنشئها الدولة بمشاركة القطاع الخاص وبعض الشركات والمصارف المصرية والأجنبية.
 

رواية ذات


وسط كل هذه الأجواء الباعثة على الإحباط تدور القصة الطفيفة التي تضمنتها الرواية، قصة ذات ومحيطها الصغير في العمل وفي الشقة وفي العمارة التي تقع بها الشقة وفي الشارع وداخل وسائل المواصلات وفي المستشفى العام وفي مدارس الأطفال وغيرها من الأماكن، حيثُ البطلة محكومة بالعيش في بيئة تسودها الفوضى ويميزها التخلف على الكثير من الأصعدة.
 
وجاء استعمال هذه الحيلة الروائية التي لم تصادفني في أي متن سردي أخر في السابق –على كثرة قراءاتي – لتأطير المشهد كما أسلفنا وكما وضَّحَ السارد في تصديره لروايته، إذ وبدلا من أن يسرد ما وقع مباشرة أو يختار بعضاً مما وقع ليقوم بسرده حتى يرسم بقلمه الأجواء العامة التي تدور فيها الأحداث والأماكن التي تتحرك بداخلها الشخوص، لجأَ كما أوضحنا إلى عناوين الصحف والمجلات الصادرة في زمن الرواية وليوضح المناخ الإعلامي العام وقت وقوع الأحداث، ووضعها كما هي تقريبا دون تدخل إلا بالاختصار وحذف كل ما هو ليس ضروريا ولا يخدم المتن الروائي، وهذا أسهم في منح الرواية شيء من المصداقية وكأن الروائي أراد القول “أنا لم آتي بشيء من عندي أو هذا واقعنا للأسف” والرواية هنا تلعب دورا توثيقيا متميزا، فلربما نسيَ الناس وقائع الفساد التي شغلتهم حينا من الزمن وطواها النسيان ولكنها تعود حية وطازجة كما لو أنها حدثت بالأمس عند القراءة .
 
وهذه الحيلة في الكتابة جعلت من عملية القص غير تقليدية بالتأكيد، خاصة إذا ما قرر الروائي أن يتتبع خيط السرد الكلاسيكي المتصاعد من الماضي إلى الحاضر أو تتبع حياة شخوصه يوما بيوم ويمزج في روايته ما بين الشأن العام الذي هو عبارة عن زمن الرواية وإطارها الكلي، والشأن الخاص الذي هو عبارة عن مصير الشخوص والنماذج الإنسانية التي استحضرها.
 
ومَنَحَ حشد كل هذه الأخبار والعناوين التي صارت شيئاً من الماضي اليوم الرواية زخماً تستحقه وتنويعاً في تقنياتها وأساليبها، وعكست العناوين المذكورة أهم ملامح المرحلة التاريخية، وما كان الروائي ليُثبِّتَهَا لو لم يكن لها تأثير مباشر في حياة شخصياته ومستوى عيشها المتردي ومعاناتها اليومية وكفاحها لكسب لقمة العيش ومحاولتها لتوفير الحد الأدنى من الرفاهية المتمثلة في امتلاك الضروريات المنزلية مثل الفُرش والأثاث وبعض الأجهزة والأدوات المنزلية اليدوية والكهربائية.
 
والقارء سيلاحظ وهو يتابع صراع الشخصيات مع الزمن ومعاناتها المتجددة أن ما يراه هو نتيجة طبيعية ومسار حتمي حين يستشري الفساد في المجتمع ويعمي الطمع أعين المسئولين الذين لا يتورع أغلبهم في اختلاس المال العام والعبث بأملاك الدولة خاصة إذا ما كانت قبضة الدولة مرتخية أمنيا ورقابياً أو أن أجهزتها الأمنية والرقابية والقضائية ينخرها الفساد أو غير مُفعلة.
 
والرواية ما أن تشرع في قراءتها وتُقلب صفحاتها حتى تأسرك، لانطوائها كذلك على لوحات وصفية غاية في الدقة والروعة، ذلك أن الروائي الذي كان متقشفاً لناحية إنشاء حوارات ما بين الشخصيات أسرفَ في عملية الوصف فلم يترك الكثير من الأماكن والشخصيات تمر مرور الكرام دون أن يُشبعها وصفا وتحليلا تارة تلميحا وتارة تريثاً الشيء الذي زاد الرواية بهاءً وثراء.
 
والوصف يستأثر بصفحات كثيرة من روايات صنع الله ابراهيم كما يبدو والذي قرأنا له فيما سبق رواية تلصص” وهي كأختها التي بين يدينا لا ينقصها لا التشويق ولا اللغة السلسة، ثم أن الرواية لو خلت من القفشات وبعض الإيحاءات التي أحال إليها الكاتب لكانت أقل من مستواها الذي ظهرت به.
 

الكاتب المصري صنع الله إبراهيم
الكاتب المصري صنع الله إبراهيم (الصورة: الشبكة)


أمر أخير وجبت الإشارة إليه وهو أن من بين كل الأخبار التي استسقاها صنع الله من الصحف والمنشورات الصادرة في زمن القص لم يستسقي إلا الأخبار المؤسفة والمُحبطة، أخبار الجرائم والحوادث وعمليات الاختلاس والتدليس والرشوة وتدخل السلطة في مخالفة القوانين واستغلال المناصب للمآرب الشخصية، وبالتأكيد هنالك أخبار مفرحة ومناسبات سعيدة لم يستحضرها الروائي لأمرٍ في نفسه ولأمر في بناءه الروائي، فلا أحد يهتم للاستثناء الذي هو الفرح بينما تلفت الانتباه الأحداث التي تمثل القاعدة وهي الفساد، فليس من الضروري ان نتوجه بالشكر لكل من ساهم في صنع خبر مفرح بينما نجد أنهُ من الضروري والمُلِّح جدا أن نفضح كل مُخطئ أو متعمد للخطأ ومُرتكب لجريمة تعود نتائجها السيئة على المجتمع ككل، ثم أن فن الرواية يتغيا ضمن ما يتغيا ممارسة دوراً نقدياً ويتبنى صوتاً فاضحا لكل الممارسات اللا أخلاقية، فما الرواية إن لم تضطلع بأدوارها الطبيعية مثل توفير متعة المتابعة والقراءة ورسم البهجة وإدهاش المتلقي إضافة إلى دورها الإصلاحي والتوعوي ومساهمتها في التغيير إلى الأفضل وتحديث المجتمع، هذا غير أن الأدب يميل تلقائياً إلى تصوير المأساة ويتغاضى عن الفرح أو يعده أمرا بديهيا، ويبدو أن َّ الرواية عن وعي أو عن غير وعي تبنت هذا الاتجاه الذي يؤكده مقولة الروائي التونسي الشهير محمود المسعدي “الأدب مأساة أو لا يكون”.
 
وهذا الحس النقدي ليس بغريب على صنع الله ابراهيم المعروف بمواقفه التقدمية ومعارضته للكثير من السياسات التي يرى أنها قاصرة إلى حد أنه نزل ضيفا على سجون السلطة وأخذ حصته من العسف والاضطهاد ومصادرة الآراء وتكميم الأفواه، وتكللت مسيرة كفاحه برفض استلام إحدى الجوائز التي وكما يبدو أرادت السلطة استمالته بها.
 
وذات التي منحها الروائي دور البطولة ليست إلا نموذج للملايين من الذوات اللواتي يعج بهن المجتمع وإذ يروي الكاتب قصتها الطفيفة فإنهُ يروي قصة شريحة واسعة من المجتمع ويضيء كفاحها الصامت في ظل ظروف قاسية.
 
وواضح هنا أن الرواية حدثت في الزمن الماضي ورُويت في زمن المستقبل، أي أنَّ الروائي لم يكتب روايته زمن حدوث وقائعها وإنما تريث قليلا حتى اختمرت المرحلة في ذهنه ووعاها تماما ثم طفق يكتب عنها بفاصل زمني، والقارئ للرواية سيلاحظ ذلك من خلال تتبعه للأحداث ومن خلال إشارات الكاتب إلى بعض الأمور التي يقول عنها أنها كانت موجودة حينها، أي أنه يكتب من نقطة زمنية مستقبلية ويستعيد الماض بكل ثقله ويجره إلى متنه الروائي.
 
وفي الختام لا بد من الإقرار بأنني دون تخطيط مُسبق وفي جلسة واحدة ومتصلة كتبت هذا المقال بعد ان قرأت ثلاثة أرباع الرواية التي رغم أنها قديمة بعض الشيء إذ أنها كانت قد صدرت عام 1993 في طبعتها الثانية إلا أن أحداثها الطازجة وموضوعها القديم المتجدد يجعلان منها رواية مشوقة وقابلة للقراءة, ومهما مر عليها من زمن فإنها لن تسقط بالتقادم، ولا أنسى آخِراً أن أُجزل الشكر لمن أعارني إياها وهيأ لي بفعله ذاك رحلة إلى عالم الخيال والبهاء والتحليق في فضاءات الأدب الرصين.

مقالات ذات علاقة

وحطّت طائرة الرئيس

حسين عبروس (الجزائر)

سفح السهر شاق! *

إشبيليا الجبوري (العراق)

مسمَّى «القصة الشاعرة» جناية جديدة على الشعر

المشرف العام

اترك تعليق