المقالة

دِلاَلاَتُ التَّلَقِّي: بَيْنَ الْكَاتِبِ وَالْجُمْهُورِ

ثَمَّةَ سُـؤَالٌ تَقْلِيدِيٌّ كَثِيراً مَا يُطْـرَحُ عَلَى الكُتّابِ وَالأُدبَاءِ فِي الْحِوَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَتَكَرَّرُ طَرْحُهُ مِراراً رُغْمَ أَنَّ الإِجَابَةَ عَنْهُ بَاتَتْ مَعْرُوفَةً لِلْكَثِيرِينَ مِنَّا، رُبَّمَا بِسَبَبِ تِكْرَارِ السُّؤَالِ وَتَشَابُهِ الإِجَابَاتِ عَنْهُ بِشَكْـلٍ أَوْ بِآخَرَ، مَفَـادُ ذَاكَ السُّـؤَالِ: لِمَنْ يَتَـوَجَّهُ الْكَاتِبُ (الأَدِيبُ) بِنَصِّهِ الإِبْـدَاعِيِّ أَيّاً كَـانَ نَوْعُهُ؟ وَهَلْ ثَمَّةَ قَـارِئٌ مُفْتَرَضٌ دَائِماً أَمْ أَنَّ الْفِئَـاتِ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا الْكَـاتِبُ بِنَصِّهِ مُتَعَـدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ؟.

هَذِهِ هِيَ الأُحْجِيَةُ الْمُحَيِّرَةُ إِذاً، وَتِلْكَ هِيَ عَنَاصِرُهَا: الْكَاتِبُ وَالنَّصُّ وَالْجُمْهُورُ، التَّفْسِيرُ الْمَبْدَئِيُّ وَالْحَلُّ الْمَنْطِقِيُّ لِتِلْكَ الأُحْجِيَةِ: أَنَّ صَاحِبَ الْقَلَمِ يَكْتُبُ لِلنَّاسِ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً بِإِبْدَاعِهِ، وَلِهَذَا فَهُوَ لَنْ يُجِيدَ مَا يَفْعَلُ وَيُتْقِنَهُ إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِالنَّاسِ وَفَهِمَ سُلُوكَهُمْ، وَحَاوَلَ أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهُمْ، وَالْقُرْبُ هُنَا سَيُضْفِي عَلَى هَذِهِ الْعِلاَقَةِ نَكْهَةً خَاصَّةً، إِذْ أَنَّهُ سَيَمْنَحُهُ بِالطَّبْعِ فُرْصَةَ التَّعَرُّفِ عَلَى التَّفَاصِيلِ، وَسَبْرِ أَغْوَارِ مُعْطَيَاتِ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ بِكُلِّ مُكَوِّنَاتِهَا وَصُوَرِهَا، وَهَـذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍّ حَتْماً مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِأَدَاةِ التَّعْبِيرِ وَلُغَةِ الْخِطَابِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَوْضُوعِ النَّصِّ الأَدَبِيِّ، فَالْمُتَلَقِّي لاَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الأَدَبُ مُجَرَّدَ وِعَاءٍ يَنْقُلُ تَفَاصِيلَ حَيَاتِهِ بِلُغَةٍ اعْتِيَادِيَّةٍ مُبَاشِرَةٍ وَرَتِيبَةٍ، بَلْ أَنْ يَكُونَ الأَدَبُ انْعِكَاساً لِلْوَاقِعِ أَوْ مِنْ نَسْجِ الْخَيَالِ، لَكِنَّ الْمُهِمَّ هُوَ صِيَاغَتُهُ بِأُسْلُوبٍ مُرْهَفٍ مُحْكَمٍ، مَحْبُوكٍ بِعِنَايَةٍ، يَغُوصُ فِي جَوَانِبِ الْمُعَانَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ حَتَّى النُّخَاعِ، وَيُصَوِّرُهَا بِأَجْمَلِ صُورَةٍ، وَهُنَا تَكْمُنُ الْمُفَارَقَةُ الصَّعْبَةُ، كَوْنَهَا مُعَانَاةً يَلْتَقِطُهَا الْكَاتِبُ ثُمَّ يَصْقِلُهَا بِإِحْسَاسِهِ الْمُرْهَفِ حَتَّى نَشْعُرَ بِهَا دُونَ إِسْفَافٍ بَلْ بِخَطَابٍ أَدَبِيٍّ رَائِقٍ، تَتَوَفَّرُ فِيهِ الْخَصَائِصُ الْفَنِّيَّةُ، لِيَنْفُذَ إِلَى لُبِّ الْمُتَلَقِّي وَيَجْعَلُهُ أَقْدَرَ عَلَى تَذَوُّقِ الأَدَبِ، وَاسْتِشْعَارِ جَـمَالَهِ وَرِقَّتِهِ وَعُذُوبَتِهِ، وَكَمَا يَقُولُ سارتر: “إِنَّ مَا يَقُومُ بِهِ الْمُؤَلِّفُ مِنْ اخْتِيَارٍ لِبَعْضِ مَظَاهِرِ الْعَالَمِ هُوَ الَّذِي يُحَدِّدُ الْقَارِئَ، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضاً إِنَّ الْكَاتِبَ ـ حِينَمَا يَخْتَارُ قَارِئَهُ ـ يفْصِلُ بِذَلِكَ فِي مَوْضُوعِ كِتَابِهِ، لِذَلِكَ كَانَتْ كُلُّ الأَعْمَالِ الْفِكْرِيَّةِ مُحْتَوِيَةً فِي نَفْسِهَا عَلَى صُورَةِ الْقَارِئِ الَّذِي كُتِبَتْ لَهُ، فَالْمُؤَلِّفُ يَكْتُبُ لِيَتَوَجَّهَ بِكِتَابَتِهِ إِلَى حُرِّيَّةِ الْقُرَّاءِ مُتَطَلِّباً مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا عَمَلَهُ الأَدَبِيَّ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، بَلْ يَتَطَلَّبُ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَادِلُوهُ الثِّقَةَ الَّتِي مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا، وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِحُرِّيَّتِهِ الْخَالِقَةِ، وَأَنْ يَسْتَثِيرُوهَا بِدَوْرِهِمْ، بِدَعْوَةٍ تُقَابِلُ دَعْوَتَهُ وَتَكُونُ صَدَىً لَهَا”، وَيَخْلُصُ سارتر إِلَى أَنَّ الْكَاتِبَ يَتَّجِهُ مَبْدَئِيّاً بِأَدَبِهِ لِكُلِّ النَّاسِ، لَكِنَّ الَّذِي حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ لَهُ إِلاَّ بَعْضُهُمْ، وَرُبَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، فَالْقِرَاءَةُ فِي النِّهَايَةِ تَظَلُّ عَادَةً تَرْتَبِطُ بِمَدَى اهْتِمَامِنَا بِهَا فِي حَدِّ ذَاتِهَا، وَبِالْمَوْضُوعِ الَّذِي نَرْغَبُ فِي الْقِرَاءَةِ عَنْهُ، وَأَحْيَاناً يَأْسِرُنَا عَمَلٌ أَدَبِيٌّ مَا، وَيَأْخُذُ بِأَلْبَـابِنَا؛ لأَنَّ صِيَاغَتَهُ وَمَوْضُوعَهُ وَإِطَارَهُ الْعَام نَالَ إِعْجَـابَنَا، هَذَا بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ مُسْتَوَى ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنَ النَّـاحِيَةِ الْفَنِّيَّةِ، فَذَاكَ أَمْرٌ آخَرٌ، وَكَمَا يَقُولُ أَحَدُ النُّقَّادِ: “إِنَّ أَوَّلَ صِفَةٍ لِلْكَاتِبِ الْمُجِيدِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عُزْلَتِهِ، وَيَنْزِلَ إِلَى النَّاسِ؛ لِيُكْثِرَ لِنَفْسِهِ ذَخِيرَةً فِكْرِيَّةً تُعِينُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ الدَّسِمَةِ الشَّائِقَةِ، وَهُوَ فِي حَاجَةٍ لأَنْ يُصَوِّرَ أَفْكَارَهُ بِأُسْلُوبٍ يَسْتَسِيغُهُ الْقُـرَّاءُ، وَهَذَا يَتَطَلَّبُ نُزُولَهُ إِلَى مُسْتَوَاهُمْ مِنْ حِينٍ لآخَر، لِيَرْتَفِعُ بِهِمْ إِذَا اسْتَطَـاعَ، أَوْ لِيُقَرِّبَ الْهُـوَّةَ الْفِكْرِيَّةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى الأَقَـلِّ”، لَكِنَّنِي أَقُولُ إِنَّ مَسْأَلَةَ الْقَـارِئِ الْمُفْتَرَضِ أَمْرٌ جَـدَلِيٌّ، فَهُوَ الطَّرَفُ الآخَرُ مِنَ الْمُعَـادَلَةِ الإِبْدَاعِيَّةِ، حَيْثُ أَنَّ عَمَلِيَّةَ تَقَبُّلِهِ لِلنَّصِّ الأَدَبِيِّ وَتَذَوُّقَهُ لَهُ، وَتفَـاعُلَهُ مَعَهُ تَظَلُّ قَضِيَّةً مُثِيرَةً لِلْجَدَلِ عَلَى الدَّوَامِ، وَلاَ أَعْتَقِدُ أَنَّ النِّقَـاشَ حَوْلهَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ آرَاءَ النُّقّـَادِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِالذَّاتِ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الرُّؤَى وَالتَّـأْوِيلاَتِ، فَحَتَّى النُّصُوصُ ـ الَّتِي نُقْبِـلُ عَلَى دِرَاسَتِهَا وَتَحْلِيلِهَاـ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقِـرَاءَاتِ، وَكُـلُّ قِـرَاءَةٍ فِي النِّهَايَةِ هِيَ نَتِيجَةُ تَفَـاعُلٍ بَيْنَ قَـارِئٍ وَمَقْرُوءٍ، أَوْ نَصٍّ وَتَـأْوِيلٍ لَهُ، فَالْعَمَلُ الإِبْدَاعِيُّ “مَفْتُوحٌ” حَسَبَ رَأْيِّ إيكو، وَهُوَ جَاهِزٌ لِتَأْوِيلاَتٍ لاَ نِهَاية لَهَا، وَتَعَدُّدُ المَعَانِي لِلأَثَرِ الوَاحِدِ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى القَارِئِ وَحْدَهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُتَأَتِّيّاً مِنْ إِرَادَةِ الكَاتِبِ.

مقالات ذات علاقة

9 أبريــــل… انهيار أُمّة

ميلاد عمر المزوغي

الهويات المقتولة

منصور أبوشناف

ثنائية الإسلام والغرب

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق