المقالة

دواية، ترسي تقاليد فنية غابت عن التجربة الليبية

معرض دواية للحروفيات.
معرض دواية للحروفيات.


دائماً ما تكون ثمة تحديات جسام تواجه تنظيم أي محفل ثقافي. وقد يقفز إلى الأذهان مباشرة تحدي جائحة كورونا التي شلّت مجتمعات العالم أجمع هذه الأيام، نعم هي من ضمنها، وسآتي على ذكرها. لكن دعوني هنا أشير أولاً إلى تحديات جسام تزداد تفاقماً وصعوبة في بلادنا بخلاف البلدان الأخرى. تحديات ليس أولها صعوبة العمل الجماعي ولا آخرها إيجاد الدعم المادي، خبرها كل من انخرط في تنظيم محفل فني، ولاسيما إن كان تشكيلي، فعندئذ يصبح أمر استمراره بعيد المنال.

توطئة من باب التذكير، وإن كنت أعلمُ أن كثير ممن يقرؤون هذه السطور يدركونها، ولذا سأتوجه مباشرة إلى صلب المقال.

التأمت في الفترة من 18 إلى 22 أكتوبر الجاري النسخة الخامسة من (معرض دواية لفن الحروفيات) الذي احتضنت قاعة عبدالمنعم بن ناجي للفنون، الكائنة بدار حسن الفقيه حسن بمدينة طرابلس القديمة فعالياته، عُرضت خلالها أكثر من عشرين لوحة فنية، مثلت تجارب متنوعة لتسع فنانين ليبيين كان بينهم فنان مغربي، جاءت تجاربهم متباينة، وشهدت معالجاتها في أغلبها تقدماً عما ظهر في الدورات السابقة. إلا أني لست هنا في صدد قراءة الأعمال الفنية وتقييمها، فذلك شأن أتركه لمناسبات قادمة، وارتأيت أن أسلط الضوء على ما يمكن أن أصفه بـ(سّر استمرار) هذا الحدث الفني للمرة الخامسة، والتنويه إلى مطبوعاته التي طبعت بألوان زاخرة، والدعاية إليه في وسائط إعلامية معاصرة، ومشاركة فنّانَيْنِ رائدَيْنِ هما: الفنان بشير حمودة وعبدالرزاق حريز، إلى جانب هؤلاء الشباب، ما أضفى على العرض بعداً آخراً، تجسد في التواصل بين الأجيال، وخلق حوارات بين تجارب راسخة وأخرى واعدة.

 نعلم أن الحراك التشكيلي الليبي لم يشهد عبر مسيرته المتذبذبة ثباتاً واستمراراً ورسوخ أي محفل فني منذ تبلوره في عقد الستينيات من الألفية الماضية، سواء كان ذلك بتنظيم رسمي أم أهلي. إلاّ أن “استمرار” معرض دواية للحروفيات اليوم يجعلنا نُشِيدُ عالياً بتواصل مسيرته عبر سنوات متتالية، والفضل في ذلك يعود إلى ما يبذله الفنانان محمد الخروبي وأحمد البارودي من جهدٍ ومثابرة غداة كل دورة من دوراته، بحثاً عن راعٍ وتمويل للدورات القادمة، مدفوعان برؤية واحدة، وعزيمة وإصراراً لا تزحزحهما أمور عارضة. وإن كان بعض الفنانين التشكيليين لا يرون أن مسألة “استمرار” الحدث وديمومته تكتسي أهمية بالغة. لكني أرى عكس ذلك تماماً، فهي مسألة أمست ملحة في المرحلة الراهنة، تسبق أهميتها أهمية (كيفية واحترافية وجودة الأعمال المشاركة). وإن تساءل أحدهم لماذا أذهب هذا المذهب؟ أجيبه، كي لا يفهم كلامي خطأً. أن الشروط والمعايير الفنية المتعارف عليها عالمياً هي ثوابت باقية، إلا أن معايشتي للحالة التشكيلية والثقافية في طرابلس، اليوم والأمس، جعلتني أُولي مسألة “الاستمرارية” أهمية بالغة، دون أن يعني ذلك إهمال المعايير الفنية الحاكمة، فبغيابها تكون شروط إقامة أي معرض احترافي ناقصة.

معرض دواية 5 (تصوير: مهند شريفة)

 لقد جرت العادة، بل الحاجة إلى صدور دليل وكتالوج فني رفقة كل معرض تشكيلي، تعريفاً بالحدث وتوثيقاً له بعد انقضاءه. إلا أن معارضنا دائماً ما كانت تخلوا من هذه الوثائق المهمة ولاسيما الكتالوج الذي تعد طباعته باهظة؛ إلا إذا استثنينا بعض المعارض القليلة الجادة، التي جاءت بهذا التقليد، لعلي أذكر هنا أهمها: (معرض رباعيات تشكيلية سنة 1992) الذي أقيم تدشيناً لافتتاح دار الفنون. يومئذ صدر عنه كتالوج جميل، بيع بعشر دنانير للنسخة الواحدة. حسناً، فجلّ متاحف وأروقة بيع الاعمال الفنية وعرضها في العالم يصدر عنها كتالوجات عند إقامة كل معرض فني، تبيعها للزائرين، لتعم الفائدة؛ من الناحية المادية على المتحف أو الرواق، ومن الناحية المعنوية على الزائر الذي يتحصل على كتالوج معرض أحد الفنانين يعتبر نسخة محدودة ونادرة.

 وإن كان القائمون على معرض دواية استطاعوا في هذه الدورة بأنفسهم كما في الدورات السابقة أن يتحصلوا على رعاية ودعم من شركات ليبية خاصة، وفرت لهم ملصقات وكتالوج وإطارات ومائدة “البُوفّيه”، وهي أشياء تكلفتها عالية، فإن الجهد والوقت لتوفيرها تهدر طاقة وزمن الفنان، هي بالنسبة له من الأمور الهامة؛ في زمن تسند فيه مسألة تنظيم المعارض في بلدان أخرى متقدمة، إلى أشخاص أو أروقة ومتاحف فنية مهمتها القيام بكل هذه اللوازم وباحترافية عالية.

ولئن كانت حقاً مسألة تمويل ورعاية أي محفل تشكيلي أمراً مسيراً لما تعثرت المعارض وغابت البناليات والورش والملتقيات عن بلادنا، ولما أصبحنا نشهد -في أحسن الأحوال- إقامة معرض أو معرضَيْنِ فقط طوال العام. لكن غياب الرعاة، من مؤسسة رسمية وجهات داعمة، كان سبباً في تأخر الحراك التشكيلي في بلادنا. وإلا فكم من كتالوج صدر رفقة معرض فني منذ أن تأسس الحراك التشكيلي في بلادنا؟! ربما لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة!

أليس لهذا التخلف أسباباً عدة منها: أن مجتمعنا الليبي في مراحل تاريخية سابقة كان لا يؤمن بمسألة الفنون ويعتبرها ممارسات شاذة. ومنها أنه لم يتم تأسيس إدارات تعنى بقضايا التشكيل “مستقلة” عن مؤسسة الثقافة الشاملة. أيضاً منها ما قام به نظام القذافي بالقضاء على رأس المال ورجال الأعمال وهي الفئة الراعية. وكذلك منها عدم تفعيل البند المخصص لدعم الفنون والثقافة الوارد في جلّ العقود الكبرى التي أبرمتها الدولة الليبية مع شركات النفط الأجنبية خاصة. لكن ما يشي بالتفاؤل اليوم حقاً هو توجه بعض الفنانين الشباب للبحث عن سبل لإيجاد حلول لهذه المسائل العالقة.

عودٍ على بدء، فبالإضافة إلى ما تقدم من تحديات جاءت جائحة كورونا اليوم لتشل الحراك الثقافي في بلادنا، لكن هذه الجائحة لم تثنِ العزيمة لإقامة معرض دواية في نسخته الخامسة، رغم المناخات السيئة السائدة. وبإقدام الشباب على هذه الخطوة أكدوا أن المسيرة التي انطلقت في ظروف في الأصل كانت غير ملائمة هي لازالت مستمرة رغم التحديات المتزايدة.

أتصور في الختام أنه في حال استمرار وجود جائحة كورونا في حياتنا دون التوصل إلى علاجات ناجعة، فسوف تنتقل المناشط الثقافية سواء كانت فنية أم أدبية من القاعات المغلقة إلى الفضاءات المفتوحة. وسوف تقام المعارض التشكيلية في المدن وسط الميادين والساحات العامة. ولا زلت أذكر جيداً (معرض الفنون التشكيلية العالمي سنة 1987) -هكذا أصطلح على تسميته- الذي نظمته وحدة الفنون التشكيلية وسط ميدان الشهداء بطرابلس بعد تجهيز المكان بالعوارض الخشبية ليكون معرضاً مفتوحاً أمام العامة.

مقالات ذات علاقة

الغراب رمزاً معرفياً

عمر أبوالقاسم الككلي

أرباع

زكري العزابي

الدولار الأمريكي كارثة العصر الحديث

سعد الأريل

اترك تعليق