دراسات

دراسة للتداخل الأنواعي في قصة الحصلة في الرّيّ للكاتبة آية أبوعقرب (3-3)

الجزء الثالث: البعدين الساخر والفنتازي في القصة وخلاصة الدراسة

لابد للطامح أن يسقط في هوة توازى ارتفاع التحليق…** جون ميلتون دراما 2020 عدنان بشير معيتيق حبر على ورق 32 * 42 سم

1.3 الجانب الساخر في القصة:

البعد الساخر يتدمج مع البعد الفنتازي ليشكلا معا جسم القصة وبينهما وعبر تناغمهما مع السرد العادي نجدنا نتابع جرعة ثقافية فلسفية، ولغرض متابعة البعد الساخر فإننا بداية سنحاول أن نعثر على أبرز مدخل له ثم نبدأ في تتبع طبيعة العمل الساخر في هذه القصة.

أولا. السخرية من خلال العنوان:

عنونت القاصة قصتها ب(الحصلة في الرّيّ) وهي تسمية للقصة من خلال لعبة ورق شعبية معروفة لدى الجمهور في ليبيا، وقد جعل هذا الرّيّ الذي يعتبر مدخلا ساخرا للقصة يتحول إلى شيء اسطوري أو شيء فوق عادي من خلال الفنتازيا التي أحسنت الكاتبة توظيفها، والصور ذات التأويلات خطيرة بعض الشيء بخصوصه. فالحصلة في الرّيّ بهذا الشكل تضعنا في روح السخرية التي يتقدم النص بها، وهي بذلك لا تكتفي بها فقط؛ فنحن سنجد أنفسنا ننتقل نقلة مختلفة كبيرة عندما نتحول من لعبة ورق شعبية تلعب عادة من قبل جمهور شعبي إلى لعبة يلعبها فلاسفة ومفكرون، وينهمكون بشكل غرائبي بها منتقلين للعبها عبر الزمن.

ثانيا. السخرية من خلال الشخصية الشعبية:

يمكن أن نجد حضور الشخصية الشعبية من حلال حميد، كما قام الراوي بإلباس الفلاسفة الزي الشعبي الليبي الجرد وجعلهم ينهمكون (أحيانا) في حوار شعبي سوقي يتنافى مع مستوياتهم الفكرية، وهو نوع من كسر الرتابة في هذه القصة شديدة العمق ونوع من كسر أفق التوقع لدى المتلقي بحدث غير متوقع.

حميد هو رجل وصل في تلك الليلة المقصودة إلى عمر الخمسين وصار بذلك (حسب المتعارف عليه في القصة) من حقه أن يذهب إلى مربوعة الشيابين وهي تسمية لحجرة الجلوس التي يلتقي فيها كبار السن. حميد يمارس الطقوس الشعبية نفسها التي يعيشها مجايلوه في حيه أو قريته، فهو قبل أن يذهب (للسهرية) في المربوعة قام بما هو معتاد من إغلاق للبيت واطمئنان على العيال، لنتابع ذلك هنا:

 “(أ) حميد بعد أن صلّى العشاء، وأكل العشاء، (ب) واطمئن علي نسائه من خيانات المساء، (ت) قفل بيته، ودسّ قفله في جيب سُترته وتوكل يدبّ خطوة، خطوة ناحية المربوعة.”

في (أ) بدأ الراوي السرد من خلال راو خارجي يرصد حميد وأفعاله، فهو قد تعشى وصلى ثم أطمأن على نسائه، ثم في (ب) تصرف بالطريقة الشعبية المعتادة نفسها؛ حيث قام بإغلاق البيت بالقفل من الخارج. الراوي هنا يسخر من هذه الشخصية الشعبية بالتركيز على أفعاله الخاصة وتمييزها.

تبدأ السخرية من خلال متن القصة حيث يوضع حميد الشخصية الشعبية البسيطة في مواجهة عتاة الفلاسفة. كما نجد السخرية من خلال حوار الفلاسفة بعضهم البعض، كما تتحقق السخرية من خلال العنوان نفسه الحصلة في الرّيّ الذي يبدو شعبيا.

لنتابع هنا بداية القصة وتصوير الراوي لحميد وهو جالس بين الفلاسفة ومشاعره التي تدل على بساطته وضعف شخصيته:” “رفع حميد يده دون وعيه نحو وجهه، ولكنه سرعان ما أزاحها. أخطر في بال الرجل ما خطر في باله؟ لقد شعر بدهشة عميقة من السؤال. أخرج هذا في ملامحه أيضا؟ لم يفكر يوما من أين تأتي الأفكار، أما الأرقام! لم يخطر الأمر عليه من قبل. وكاد يسرح لولا أن نظرات الأربعة الجالسين أمامه أقلقته كما لو كان عذراءً في خيمة جنود.”

فهو من درجة بساطته شعر بما يشبه الخوف على الشرف وهو بين هؤلاء الشيوخ ذوي الوجوه العاتية. لنتابع هنا ما قاله أرسطو ساخرا من حميد: “نعمة الجهل. هنيئا لك نعمة الجهل يا حميد!”

بينما هنا نتابع رؤية حميد للموضوع برمته على أنه شيء غريب ويصف الراوي – كما سنلاحظ- دماغه بالصغير ويتذكر أن هذه اللعبة كان يلعبها وهو طفل فيستغرب فيما يحصل، إن هذا التناقض بين لعبة ورق يلعبها عادة الأولاد الصغار وبين الحوار الفلسفي العميق هو أحد نتائج البعد الساخر للسرد في هذه القصة:

“”(أ) حميد، الذي ترك آراءه المتخبطة داخل دماغه الصغيرة منذ دخوله المربوعة (ب) أراد أن يقول لهم إنه يعرف جيدا كيف يلعب الحصلة في الرّيّ. (ت) لقد كان يلعبها دائما عندما كان صغيرا. ولكنه لم يقل شيئا، لم يرد أن يعطي للعجوز المتكبر – كما كان يرى أفلاطون – عذرا لمضايقته. (ث) فشكّب الأوراق جيدا بعد أن أخرج جواكر الورق؛ المهرّجين الاثنين، الملون والصامت، وثلاثة من الملوك جانبا. هذا يعني أنه قد بقى ملكاً واحداً داخل المجموعة. الرّيّ. ثم وزع الورق اثنا عشر ورقة للاعبين الثلاثة حول الحلقة. وبقت مجموعة من ثلاثة عشر ورقة. ومجددا ،من أجل حظ المبتدئين، طلب سقراط من حميد أن يتحصل عليها”

لاحظنا في (أ) تصورات حميد ذي الدماغ الصغير، ثم في (ب) كيف تكون هذه اللعبة لعبة صغار ويلعبها كبار الفلاسفة، ثم في (ت) نتابع حواره الداخلي هو الخائف من الشيخ المتكبر افلاطون، بينما في (ث) نتابع انهماك الراوي في شرح عملية اللعب بالكلمات المستخدمة في هذا المجال (شكب، جوكر).

بينما بعد ان وجد حميد الرّيّ في جيبه نجد تصورا مختلفا عن السهر بكونه عنونانا للمراهقة، إن هذه التصورات البسيطة ذات الثنائيات تعبر عن وعي حميد الرجل البسيط الذي أُحيط تلك الليلة بأوضاع غير عادية:

تلك الليلة لم ينم حميد حتى الفجر. لأول مرة منذ سنين سهر حميد في فراشه مثل المراهقين، وشعر بشبابه بل وبطفولته مجددا بعد قتر وكدر عمرٍ طويل”

ثانيا. السخرية من خلال ملابس وهيئة ومناسبات  الفلاسفة:

1. ملابس أبيقور وبيرون:

لنتابع ملابس أبيقور وبيرون كما تمّ وصفها وهي تعبر عن التناقض بين شخصية الفيلسوف القديم وبين ملابسه الشعبية التي تتماهى مع الملابس في القرية الليبية أو الحي الشعبي.

“دخل رجلان آخران في مثل عمرهم، أحدهم كان يرتدي الجرد إزارا حرا حول خصره ثم مرميا فوق كتفه اليسرى بغير اكتراث، تماما مثل فيثاغورس، ويحمل في فمه سيجارا طويلا، وكان يدعى الحاج أبيقور. والآخر يرتدي الجرد بشكله العادي ويدعى بيرون.”

2. ملابس بيركلي الذي يسمى الشيخ بيكلي في القصة:

“سرقه من تفكيره مجددا الرجل الذي يرتدي عباءة المشيخة فوق بدلته العربيّة دون جردٍ كالبقية، ارتأى حميد أنه كان يدعى الشيخ بيركلي.”

3. الحديث عن كون نيوتن قد ذبح وعزم معازيم:

هنا كلام عن كون نيوتن قد قام بذبح كبش ودعوة معازيم لتناول الطعام بمناسبة صدور كتابه، هذا نوع من السخرية والكلام كما تابعنا مؤكد من خلال الحوار البذي يتم بين الفلاسفة، فالمتكلم

“تكلم ليبتنز معتذرا، وكان رجلا له قدّ نحيل يلفّه جردٌ بنيّ داكن (…) نوينا أن نأتي باكرا الليلة لننضم للعبة معكم منذ انطلاقها، ولكن للأسف اضطررنا أن نقف عند منزل نيوتن قليلا. الرجل ذبح خروفاً بمناسبة صدور كتابه الأخير، المبادئ الرياضية، وقد كنّا من المعازيم”.

ثالثا. السخرية من خلال حوارات الفلاسفة. وتصرفاتهم

1. الجانب العابث في حوارات الفلاسفة

لا أرى المتعة في ما تفعلونه هنا. امتعض الحاج أبيقور، وزمّ شفتيه حول سيجاره الملتهب. لقد صرتم شيوخا بشيباتكم الوقورة وكل ما تحصلون عليه من مُتع هو التحديق في المجيرات الأربع!  لو كان صاحبي فرويد هنا لأتهمكم بالقصور الجنسيّ، سمع حميد تمتمة وهمسات حول الحلقة من الجميع، بعضهم يضحك ويغمز صاحبه، وبعضهم استعاذ من فرويد ذاك المذكور”

تابعنا كيف كان الفلاسفة يضعون بعضا من الفكاهة العابثة، وهو أمر معتاد في الحياة الشعبية للناس. نتابع كيف يتصرف أبيقور بطريقة فجة سوقية وهو ما يعكس البعد الساخر من خلال تناقض شخصية أبيقور الواقعية وفعله في جلستهم بالمربوعة:

“وكان يجلس بجانب فيثا أبيقور، فتسللت يده داخل صدر فيثا المكشوف وقال ماجنا

– أما أنا يا خلّي فألبسه عاريا دونه حتى أكون جاهزا دائما، للسيد الرّيّ و .. لأشياء أخرى. وراح يضحك وبيرون عاليا قبل أن ينهرهما الجمع، فيسكتا”

3. السرد غير المنطقي اداة للسخرية:

هناك نوع من السخرية من حميد يمارسه الفلاسفة عبر الكذب، حيث نجد أفلاطون الذي ولد قبل الميلاد بثلاثة قرون ونيف يدعي أنه تخرج من السوربون، لنتابعه هنا:

“… معرفا بنفسه علي أنه أفلاطون، دون أن ينسى إخبار حميد بغير مناسبة، أنه تخرج من أكاديمية السوربون في فرنسا منذ أيام السبعينات”

وهنا أيضا نتابع سردا غير منطقي، فلم تكن هناك علاقة ممكنة بين كيريجارد وسارتر

“فأجابه أرسطو مستغربا

– لا. ولكننا سمعنا أنه ربما يأتي الليلة لزيارة قصيرة، أتريده في (حاجة)؟

– هذه نسخة من روايته قد نقحتها إملائيا. قد تركها عندي مطلع الأسبوع الماضي ولم أصادفه من حينها. أتركها عندك تسلمها له متى ما أتى.

ألا تشاركنا اللعب يا كيركجارد؟ طلبه سقراط.”

3. حوار الفلاسفة أدارة للسخرية:

نجد أيضا في حوار الفلاسفة بعدا ساخرا، لنتابع هذا المقطع:

“ولكن فيثا أزبد وأرعد ولم يسكت للإهانة، فانتفض معتكزا علي ركبتيه عاطفا ناحية سقراط حتي كاد ينزلق الجرد عن جسده العاري دونه.

 سقراط يا رفيقي! هذه إهانة لا أتقبلها أبدا، اسحبها فورا بحق المنطق الذي بيننا.”

2.3 الجانب الفنتازي في القصة:

تتحقق الفنتازيا من خلال لقاء مجموعة من الفلاسفة الموتى في حجرة ضيافة تسمى بالمربوعة، وهي محاطة بنوع من الغرابة تسمها، كما أن حضور شخصيات بينها من الزمن أكثر من 2500 سنة يعد أمرا غير منطقيا وعجيبا، وهو ما يدخل السرد في هذه القصة في الجانب العجيب، وهو أحد فرعين من فروع الفنتازيا التي تتشكل من الغريب والعجيب.

أولا. البعد الفنتازي في بداية القصة:

 لنتابع طبيعة البعد الفنتازي الذي أطره الراوي في بداية القصة: “(ا) في قُعر الشارع تقبع مربوعة الشيابين؛ (ب) هكذا اصطلح سكان المنطقة علي تسميتها. (ت) لا أحد يذهب إليها، أو يجلس فيها. بل لا أحد يدري ما الذي يدور فيها من أنشطة أو أحاديث، (ث) ولا أحد يعرف أصل أولئك الشيوخ الذين يزورونها كُل ليلة كملهى مقدس أو كضريح خاص. (ج) فهي تابو مُشمع (ح) وعليك أن تشيب أولا حتى يُسمح لك بدخولها.(خ) أما إذا سبق ودخلتها، فلا تستطيع التحدث عنها بعدُ. هذه هي لعنتها كما يقولون”

نتابع في بداية القصة كيف تمّ التعريف بحجرة الجلوس (المربوعة) مع استخدام التسمية الشعبية للمكان (مربوعة الشيابين). ولنلاحظ المكان الذي تمّ تحديده لها فهي في قعر الشارع ولا نعرف المقصود بدقة بكلمة قعر هل هي ذات بعد مكاني أم أن المقصود هو العمق الزماني للموضوع. في (ب) ندرك أن هذه التسمية هي ما اصطلح عليه سكان المنطقة ثم في (ت)، و(ث) نجد النفي الذي يحدد أبعاد أسطورة تلك (المربوعة)، فهي لا أحد يزورها من سكان المنطقة ولا أحد يعرف ما يدور فيها، كما أنه لا يعرف أحد حقيقة الشيوخ الذين يزورونها، فهي تبدو كملهى مقدس، أو كضريح. ثم تستكمل الصورة في (ج) من حلال وصف المربوعة بالتابو المغلق (المشمع)، كما نجد شرط زيارتها في (ح) فهي لا يمكن زيارتها إلا أن يكون الزائر شائبا كما نجد في (خ) أسطورتها المتمثلة في لعنتها؛ حيث الداخل إليها لا يستطيع التحدث عنها فيما بعد. إن الراوي قد احاط المكان بهالة من القداسة كما تابعنا وجعلها قريبة من المكان الديني والتعبدي او مركزا روحي بشكل ما. 

ثانيا. الفنتازيا من خلال ما يتصوره حميد بداية الزيارة للمربوعة:

لنتابع هنا الموضوع في ذهن الشخصية الرئيسية حميد، وهو يناقشه من كافة أوجهه محاولا التوصل إلى تصور لما سيجده هناك:

“(أ)  لم يتوقف عقله أبدا عن تخيل كل الأمور العجيبة التي يمكن أن تحصل هناك في تلك الليلة. فالأساطير، علي لذتها، مُقلقة. (ب) وسقط قلبه فجأة عندما تصور أنه توجد طقوس من نوع ما لقبوله في جماعة الشيابين. (ت) هل عليه أن يسرد بعضا من طفرات شبابه المجنونة؟ أم عليه أن يستهزأ بالشباب نفسه؟ هل سيضطر أن يخلع الطاقية حتى يتأكد الجميع من شيباته المعدودة، وبالتالي من عضويته المشروعة؟ أم عليه فقط أن يُشعل سيجارة؟ (ث) ربما عليّ أن أشتري من الحاج ميلود علبة رياضي قبل أن أصل للمربوعة. هكذا فكّر”

في (أ) الراوي يضعنا في إطار وعي حميد الذي لم يتوقف عن العصف حول الموضوع، بينما في (ب) يصور لنا الراوي خوفه من الطقوس التي سمع أنها توجد لقبوله في مربوعة الشيابين، ثم في (ت) نتابع هواجسه عبر أسئلة يطرحها على نفسه محاولا تصور الأنسب للتعامل مع (الشيابين) ثم في (ث) يقرر أن الأفضل أن يحضر معه سجائر هناك، بالإضافة إلى الشيب الذي يظهره ليتم قبوله معهم. بينما يستمر الراوي في سرد هواجس حميد في المقطع التالي أثناء دخوله إلى المربوعة الغريبة:

“(أ) بُعيد عشر دقائق، عندما طرق على باب المربوعة الذي يستقبل الشارع مباشرة، كان قلبه يطرق أيضا، وبقوة. (ب) لا يتذكر حتى آخر مرة شعر فيها بالرغبة والرهبة معا، وبذلك الحد. لقد كان القدوم للمربوعة من شأنه أن يُثبت له وللآخرين أنه دخل إلى تلك المرحلة، حيث المشاعر كالرغبة والرهبة من المفترض أن تنقرض. ولكن … (ت) وجد الباب مواربا. (ث) بسمل، (ج) ثم ولج. كانت الإضاءة بالداخل خافتة في بدء الأمر. لذا لم ير جيدا وجه الذي استقبله علي الباب.(ح) له هيئة جلمود، ويرتدي جرده دون أي إزار تحته …. “

في المقطع السابق يمكن أن نضيف قليلا إلى هواجس حميد؛ حيث في (أ) نتابع موقع المربوعة التي هي في آخر الشارع مع تحديد زمني للمدة التي قضاها قبل الدخول، بينما في (ب) نحن في إشارة مفتوحة تفتح التصورات على كل ممكن؛ فحميد الذي يتجه إلى المربوعة حيث يُلعب الورق، يدخل وهو يشعر بالرهبة والرغبة، وهو شعور يرتبط عادة بالإيمانيات والدعاء مما يضعنا في قراءة ممكنة للفعل في المربوعة بكونه متماه مع المقدس؛ لكن من خلال صورة تنفيه عبر جعله أرضيا فلسفيا شكيا أو إثباتيا.  بينما في (ت) نبدأ في السرد المتحرك (السينمائي)، ثم في (ث) فعل البسملة من حميد، ثم في (ج) صورة المكان ذي الإضاءة الخافتة، وفي (ح) نتابع صورة أول شخص استقبلته وهو موصوف بكونه جلمود بمعنى ضخم الجثة وقوي.

ثالثا. الفنتازيا من خلال حضور الفلاسفة:

الفنتازيا تتحقق بشكل أكبر من خلال ظهور الفلاسفة وقدراتهم الغريبة على التفكير وحوارهم الذي يحمل من جهة شق فلسفي، ولا يخلو من جهة اخرى من شق روحي ديني يمكن إسقاطه على رؤى قد تكون ممكنة، سنتجنبها لعدم تأكدنا منها، ولأننا لا نريد اتهام النص والراوي بشيء غير دقيق أو غير مؤكد لنا.

1. ظهور الفلاسفة وحواراتهم

لن نضيف كثيرا هنا بخصوص الفلاسفة الذين كانوا من أزمنة عديدة مختلفة ويعد هذا أمرا غريبا.

2. مشاعر حميد حيالهم وخوفه أو توجسه منهم:

تم وضعنا في إطار العجيب والغريب من خلال رؤية حميد والأساطير التي تروى عن المكان وينقلها لنا الراوي منه بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد وضحنا بعضها في بداية القصة، ونترك بعضه عن نهايتها حيث تميزت هذه القصة بوجود الجانب الفنتازي على الطرفين، في البداية من خلال هواجس حميد حول المكان الأسطوري او الغريب، ثم في النهاية من خلال اكتشافه أن الرّيّ المفقود في جيبه.

3. نهاية الليلة واكتشاف حميد أن الرّيّ عنده

كان في نهاية القصة كما أسلفنا أن وجد حميد الرّيّ في جيبه، وكان ذلك أمرا مؤثرا جدا عليه، لنتابع هذا المقطع ونحاول ان نفهم الأبعاد الفنتازية من خلاله:

“… (أ)  أولج يده داخل جيب صدريته من أجل مفتاح القُفل، فالأولاد نائمون. ولكن ما وجد حميد مفتاح القفل، (ب) إن ما وجده داخل جيب الصدرية، مباشرة فوق قلبه كان أغرب شيء يحدث له تلك الليلة. لقد وجد الرّيّ الكوبة. (ت) وجال في صدره زحامٌ من الكلمات أراد أن يصيح بها. أراد أن يعود جاريا للمربوعة ليقول للرفقاء أنه تحصّل أخيرا علي الرّيّ، (ث) ولم يستطع. فقدماه تسمرتا وامتلئت جفنيه يقظة، (ج) ودموعا غزيرة لم يقدر علي حبسه”

في (أ) يدخل حميد يده في جيبه لاستخراج القفل، ليجد في (ب) الرّيّ المفقود في مكان خاص جدا (فوق القلب)، ونلحظ تلك الحالة التي أصابت حميد، وهي حالة خاصة جدا؛ حيث تسمرت في الأرض قدماه، كما صارت الدموع تنزل من عينيه بغزارة. في (ج). إننا كما نرى أمام الحدث وصورة حميد وهو يتلقاه. بينما نجده بعد تلك الليلة في وضع مختلف.

4. حميد بعد تلك الليلة:

نهاية القصة تحكي ما حدث لحميد بعد تلك الليلة وكيف صار تصرفه متناسقا مع تلك الأسطورة التي تحكي أن كل من يدخل غلى تلك المربوعة لا يعود يتذكرها فيما بعد كما قد لا يجد المكان أيضا:

” (أ) تلك الليلة لم ينم حميد حتى الفجر. لأول مرة منذ سنين سهر حميد في فراشه مثل المراهقين، وشعر بشبابه بل وبطفولته مجددا بعد قتر وكدر عمرٍ طويل.

(ب) خلال كل الأيام التي تلت تلك الواقعة الغريبة، لم يدر حميد كيف يتصرف بالرّيّ، فالمربوعة اختفت بعد تلك الزيارة، (ت) وامتنع هو أن يتكلم عنها أبدا حتى لا يُتهم بالدروشة. (ث) لكنه احتفظ بالرّيّ في جيب صدريته، مباشرة فوق القلب.

 كوبة من أجل كوبة، كان دائما يقول.”

يدور الفعل الفنتازي في هذه القصة بين الغريب والعجيب من جهة، كما كان لوجود عامل آخر ضمن النص مادة لفتح آفاق تخيل الموضوع وهو موضوع  المقدس والمدنس؛ بخاصة ونحن نتابع ثقافة فلسفية متحدث عنها وأخرى ثقافة فلسفية متصورة مع توظيف للخطاب الساخر. لهذا فإن المكان الذي وصف بكونه قد يكون ضريحا أو ملهى مقدس أو تابو ويدخله الناس رغبة ورهبة يبدو كذلك يشير لأبعاد دينية أو قدسية حاول النص والكاتبة أن يناوشها وكان أن وظف كلام الفلاسفة ورؤيتهم في هذه القضية الهامة  أيضا.

كان الحديث في هذه القصة يدور حول موضوع سري عميق غير مطروح على السطح، موضوع خاص يتم تداوله بين مجموعة الفلاسفة. هذا الموضوع يدخلنا في زاوية المقدس والتابو والعميق والخفي. لهذا فإن إشارات الفلاسفة في المربوعة لم تكن ثنائية المستوى فقط وإنما ذات ثلاثة أبعاد، ولم نقف عن البعد الثالت لأنه يدخلنا في دائرة تأويل غير مؤكد لخفايا النص.

3.3  خلاصة

تكونت القصة من حيث بعدها الإجناسي من أربعة مكونات: المكون الأول هو السرد العادي وهي حكاية حميد الذي بلغ خمسين سنة في تلك الليلة وسعيه للذهاب إلى (مربوعة الشيابين).

المكون الثاني هو البعد الثقافي وهو فلسفي باقتدار، ويتكون من بعدي اشتغال: الأول البعد الفلسفي المباشر، والثاني البعد الفلسفي العميق.

تم في البعد المباشر تعريفنا بمجتمع الفلاسفة بأسمائهم وأفكارهم الرئيسة وهواجسهم ونقاشاتهم، بينما تمّ في البعد الثاني الفلسفي العميق إبراز وعي أولئك الفلاسفة العميق وتمثله من خلال الأحداث والتدافع والحوار بين الشخصيات الفلسفية، وطرح رؤيتهم في بعضهم البعض: وهم يتحاورون أو يحدث بعضهم بعضاً, كما نجد ضمنها ذلك الفهم العميق لمكونات مشاريعهم الفلسفية المختلفة.

المكون الثالث. هو البعد الساخر وقد توصلنا لكونه قد تمّ عمله من خلال شخصية حميد البسيطة التي تمّ وضعها في مواجهة اسطورية مع مجموعة من الفلاسفة الدهاقنة، وكان البعد الساخر أداة القاصة لكي يكون السرد منسجما، كما تابعنا البعد الساخر من خلال كلام وتصرفات الفلاسفة أنفسهم وهواجسهم وأكاذيبهم أحيانا.

المكون الرابع كان البعد الفنتازي وهو غالبا عجائبي، ولكن ينحو أحيانا إلى الغرائبي، وهو كان أداة الراوي لإدخال هذه الشخصيات الفلسفية العابرة للتاريخ واستنطاق رؤيتهم وتصوراتهم حول الموضوع.

كانت اللعبة السردية تقوم على الدهشة التي يعيشها حميد وهو ويعيش تلك اللحظات، كما كانت الأشياء المتعلقة بالفنتازي مؤكدة مجزوم بها وقاطعة وذلك ما يخض اسطورية تلك الحجرة وعدم تمكن من زارها من تذكرها فيما بعد، وغيرها من الرؤى.

كما كان من رصيد القصة الخفي تلك القدرة من الراوي وخلفه القاصة على جعل أفكار ورؤى وأبعاد اشتغال الفلاسفة المذكورين فيها حاضرة ضمن حواراتهم وتصرفاتهم وإشاراتهم إلى بعضهم البعض. وهو يعكس قدر تمثل القاصة لمفاهيمهم ولتاريخهم وحياتهم.

نهاية القصة كانت مميزة، وهي تعكس بشكل خفي تلك الدهشة وذلك التحول على شخصية حميد بعد تلك الليلة، كما ترمز بدون أدنى شك إلى كون ذلك التحول الذي عاشه يمثل بشكل ما تحولا روحيا أو تحول له علاقة بالمقدس؛ بخاصة ونحن نجده في بكاء ودهشة بعد أن كان قبل دخول المربوعة يحمل مشاعر تتأرجح بين الرغبة والرهبة.

مقالات ذات علاقة

(الحاجِّية) عتبةٌ تستدعي الذكريات الحداثوية

يونس شعبان الفنادي

أماكنٌ وأعلامٌ في السيرذاتية الشعرية للبغدادي(*)

يونس شعبان الفنادي

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (11) .. الزمن الوجودي في ديوان (عزيف)

المشرف العام

اترك تعليق