النقد

دراسة لبعض جماليات القصة القصيرة.. قصة الكاغط محمد النعاس أنموذجا [1]

الجزء الثاني: البعد الفنتازي واشتغال الترهين والتأطير

الغابة من أعمال التشكيلي موسى أبوسبيحة

1.2 علاقة السرد العادي بالسرد الفنتازي في القصة

يستخدم الراوي في هذه القصة البعد الفنتازي، وهو من ذلك النوع غير مفسر، أو من ذلك النوع الذي لا تحدد له أسباب واضحة لتحقققه. الراوي وضع بعض الأساسات التي تمّ الإشارة لها في الاشتغال السابق على زمن الحكاية، حيث اندمج البعد الفنتازي مع السرد الواقعي ليشكلا نصا مميزا،  لنتابع بعض العلاقات التي تدفع نحو تحقق البعد الفنتازي في هذه القصة:

أولا. تأثير الشخصيات على بعضها البعض :

  1. حديث العم إلى أبن الأخ عن الجن والشياطين والصلّاح وهو يسرد قصة انتحار حمودة وكيف وجد جسده يتدلى.

لنتابع ذلك في المقطع التالي حيث العم يتحدث عن الجن والشياطين في إطار حديثه عن انتحار حمودة أبن العم بشير:

“(أ)… أما الصلّاح يا وائل هما جيرانا الجن والموتى… ارقد، وكان سمعت واحد منهم يقرب منك نوشني باش نلزه ها ها ها.

(ب) تلك الليلة، سهرت وعمي يحكي لي قصصاً عن الذين وصفهم بأسيادنا الصلّاح، لم استطع النوم، لم استطع حتى أن أغلق عيني…كنت يقظاً، خائفاً ومتربصاً لأيةِ حركة أو صوت في المكان.”

  • حديث الراعي احمد المعروف ب (حمودة) للولد عن المقبرة وعن القتال قديما بين المجاهدين والطليان.

جزء من توتر الولد (وائل) كان نتيجة للحكاية السابقة على لسان العم، بالإضافة للدور الذي لعبه حضور شخصية (حمودة) المتوهمة والحكاية التي سردها (وقد تم وضعها ضمن دراسة زمن الحكاية وبها حددنا زمن الحكاية الأول) عن كون تلك المنطقة التي فيها المزرعة  كانت ساحة معارك وأن المقبرة فيها جثت لبعض الطليان، ثم هذا المقطع الذي جعل من هواجس الطفل حقيقية:

“قال لي: في الليل، لازال بإمكانك أن تسمع صوت البنادق تطلق والخيول الليبية تزهق والدبابات الإيطالية تكسر الأشجار، كما أنه بإمكانك إذا ركزت أن تسمع صليل سيوف وأناس يرطنون بلغات لا يمكنك فهمها”

إن التوجيه السابق من (حمودة) يجعل ما يتلقاه الولد حقيقيا ومقبولا.

ثانيا. رؤية الشخصية لصور تؤسس لقبول البعد الغرائبي

  1.  صورة الطائر مقطوع الرأس:

(أ) أتذكر بعد أيام من وصولي رؤيتي لجثة طائر حمام يبدو أن جُرذاً ما قد اقتنص فرصة تواجده بالغرفة، كان مقطوع الرأس، (ب) الدم في ريشه يذكرك بالطريقة التي يتم تحضير الجان بها، هناك قصص كثيرة للجان في رأسي”

يمكن أن نجد دور الصورة السابقة في تهييج الشخصية وتوجيه رؤيته، حيث تابعنا في (أ) صورة الطير مقطوع الرأس، ثم في (ب) الإحالة الناتجة عن تلك الصورة لموضوعات الجن والسحر وهي بالطبع من موضوعات البعد الغرائبي.

  • صورة حمودة المنتحر التي رسمها العم وهو يحدث الجد:

” (أ) لم يكن على طبيعته منذ أن شاهد أخاه معلقاً بجذع شجرة السرو تلك التي تظلل الزريبة، (ب) راعي غنم في صبراتة يموت هكذا يفصل بينه وبين الأرض قدميْن، حبل سميك من الفلين، (ت) كان المشهد يطارده طيلة حياته حدثني عن صورة أخيه التي تأتيه في المنام، عينان حمراوان مشبعتان بالموت، وجه إسود بعد جفاف الدم داخله، ثوبه المليء بروث الأغنام، رائحة الزريبة التي كانت خليطا من صوف الحيوانات المسكينة ورائحة الجثة، (ث) ذكر لي كل شيء، أخوه ينظر للأغنام، فاغراً فيه، يداه الخشنتان كانتا جريحتين ربما من مقاومتها للحظات الأولى للموت وقنينة بلاستيكية بها بقايا شراب البوخة، (ج) كان يذكر وقوفه وارتعاده بقيَ هنالك يسمع ثغاء الشياه والتصاقها في إحدى زوايا الزريبة تنظر إليه جائعة وجسد أخيه معلقاً، (ح) سطل مياه معلقاً في السماء قال لي ثم ضحك، تعرف ذلك اللغز صحيح؟ – كان ينظر إليْ- الإجابة هي العنب يا وائل، العنب وعلي. أردف ضاحكاً ثم احتسى ما تبقى في كأسه”.

يمكن أن نلحظ أن الراوي حريض على تذكيرنا بكون ذلك السرد تمّ من عين الأخ علي، وهو يصور أخاه (حمودة) معلقا في الحبل وقد أنتحر. بدأ في (أ) بصورة عامة رسمها العم عن علي (أخ حمودة المنتحر) بعد مشاهدة الصورة، ثم انهمك في رسم تلك الصورة التي ترسم المنتحر (حمودة) من عين أخ متألم. في (ب) تبدو الصورة، ثم في (ت) نجد ذلك الأخ مطاردا أبدا من صورة الأخ المنتحر، الصورة شديدة البشاعة، ثم في (ث) تصوره لموت الأخ من خلال صورة يديه وما عليهما من جروح ثم في أخر الصورة في (ج) باقي الصورة عن حالة الصدمة التي أصابته. الصورة السابقة في مجملها كانت مخيفة ولها اثرها على الطفل. الراوي ينقل لنا بعد سرد صورة المنتحر من عين الأخ الذي انتحر بعده بسنتين، نجد في (ح) محاولات العم التعيسة لتغيير الأجواء من خلال سؤاله (اللغزي) المعروف شعبيا عن سطل الماء المعلق في السماء.

2.2 توظيف البعد الفنتازي بنوعيه الغرائبي والعجائبي

تحقق البعد الفنتازي عبر بعديه الغرائبي، والعجائبي في هذه القصة، ونقصد  بالبعد الغرائبي تلك الأحداث والشخصيات غير الحقيقية وغير منطقية التحقق او الوجود، مع توظيف نوع من الخوف معها، وتدخل في هذا قصص الأعاجيب الغريبة المختلفة كأساطير الأغوال وغيرها من المشاهدات غير الطبيعية والأحداث غير الطبيعية، بينما يعني العجائبي نفس الأشياء التي يعنيها  الغرائبي لكن دون أن تكون هناك طاقة تخويف أو ترهيب للشخصية أوو للمروي له.

اولا. البعد الغرائبي في القصة

يتحقق العبد الغرائبي من خلال الأصوات التي يسمعها ذلك الولد من المقبرة المجاورة، وهي أصوات لم تتوقف طيلة اقامته في المزرعة ولا تصدر (غالبا) إلا ليلا. الراوي وظف الريح وغيرها من المكونات الطبيعية ليجعل التأثير على الشخصية أكبر ما يمكن، ولكي تكون الصورة مكتملة. لنتابع هنا بدايات الاستماع لتك الأصوات وكان ذلك صباحا:

“(أ) “كان يمكنني أن أسمع صوت فتح أبواب السيارة ثم إغلاقها بقوة من خلف السور حيث كان المنزل مبنياً على الطريق الترابية التي تفصل المزرعة عن المقبرة المقابلة، سمعتُ صياح بلغة لم أفهمها، ربما كانت إيطالية، اللحن الذي سمعته كان شيئاً قريباً للإيطالية، كلمة واحدة كان الصوت يرددها إلى أن حفظتها ” اسبيزيوني” ثم صوت بندقية يغطي الأفق، هرعتُ واقفاً، تركت صحن البيض أمامي، (ب) كنتُ أنظر إلى جدي، كان لايزال يزرع شجرته، وضعها بمكانها وأغدق عليها بعض التراب الذي ظل يربت عليه بعد ذلك، كان غير مبالٍ بما يجري،””

في (أ) نتابع لحظة الافطار الصباحي في اول يوم، وذلك بعد ليلة مُرهِقة، توجس فيها الولد من حديث عمه السابق عن الصلّاح، ثم نجده مباشرة مع سماعه أصوات سيارة ثم أصوات مختلفة بلغة إيطالية في (ب) ينظر للجد باحثا عن تأثير ما سمعه عليه، لكن لا يبدو عليه شيء ظاهر او واضح.

بينما نجد في المقطع التالي صورة نوم الولد بعد ايام من اقامته وهو لا يزال يعاني من القلق وعدم النوم الجيد:

“في الليل، كان المكان ينقلب إلى حفل من الأصوات المرعبة، كنت أنام في غرفتي وحيداً استمع لصوت سقوط برميل ما، أوراق الشجر تصفعها الرياح، كلاب الجبّانة تنبح، نافذة إحدى الغرف تتحرك وتصطدم بالحائط مصدرة قرقعة قوية، أصوات أخرى لم أتمكن من تبينها تتراوح من العالية إلى المنخفضة، كنتُ دائماً ما أواجه صعوبة في النوم”

السرد السابق يقدم ضمن النمط التواتري من السرد حيث في الليل طالما كان الوضع كما تم تحديده من الراوي فينقلب المكان إلى حفل من الأصوات.

ثانيا.البعد العجائبي في السرد

يتحقق البعد العجائبي من خلال لقاء الولد وائل بأحمد الميت أو حمودة الذي انتحر. صورة حمودة المنتحر لا زالت حاضرة والولد يراه لأول مرة لنتابع كيف تمّ ذلك في بدايته:

“(أ) كان راعي الغنم هذا، صاحب هيئة بارودية ببدلته الليبية الزرقاء وابتسامة الشاي في أسنانه، أنف مدقق وعينان صغيرتيْن، شعره الكيرلي يحاول أن يخفيه بجذبه للخلف، على شاربه شنب أسود كثيف قليلاً، دقن كمدق، لفحة خفيفة من الشمس لم تستطع إخفاء بياضه سوى القليل، يد تمسك العصا والأخرى قابضة بإصبعيْن على سيجارة، (ب) شدتني جروح على أصابعه كأنه كان مكبلاً من أطراف أصابعه، رقبته كانت حمراء، خيط أحمر يصنع جروحاً داخل الرقبة، (ت) كذلك فهو شبيه النمس، نمس وسيم يخرج من بين أشجار الصنوبر، خفت لوهلة.”

في (أ) نتابع صورة الراعي وهي صورة شخصية شعبية، كما نجد تفاصيل صورته مكتملة تقريبا: الملابس، والابتسامة، والأنف، والأسنان، والشعر، والشارب، والدقن، وبياض اللون، كل تلك المكونات تعمل على رسم شخصية الراعي الذي يتوهم الولد رؤيته، بينما في (ب) نتابع الجروح في يديه والحز في عنقه فهو يبدو بصورته لحظة أنتحر، ثم في (ت) نتابع صورته المخيفة بعض الشيء للولد.

 يلتقي (وائل) بحمودة الراعي ويوجهه هذا إلى ضرورة القراءة والتعلم وإلا سيكون تعيسا مثله أو مجرد راعٍ لأغنام جده. ويستمر اللقاء بينهما فيتحدثا عن صيد الحمام وعن تاريخ المنطقة  يوجهه للكتابة، ويقرر (وائل) أن يكتب شيئا من مشاعره تجاه جده فيكتبها على (كاغط) وهو الاسم الشعبي لورقة مقواة قديمة، لكن الجد ينهره ويأمره برميه لأن فيه أوساخ. يعود باحثا عن صديقه الراعي المتخيل فلا يجده.

في لحظة التنوير بنهاية القصة يكتشف انه لا يوجد راع اسمه أحمد ويفهم أن ذلك هو الراعي الميت قد حضر له في صورة حي:

” عند انتهاء العطلة، وفي الطريق إلى البيت سألت عمي عندما أراد الاستفسار عن أجواء العطلة:

مملة، لولا الراعي احمد.

الراعي احمد؟!

ايه…يرعى في سعي الحاج بشير.

الحاج بشير ماعنداش ولد ثاني اسمه احمد، عنده احمد حمّودة بس، ميت ليه سنين.”

صورة الولد في اخر القصة وهو يجري بالكاغط ويبحث عن الراعي احمد ليشكيه حزنه ولا يجده فيبلل الكاغط بدموعه ويرميه في الزريبة في مكان موت الراعي أحمد.

ثالثا. خلاصة حول علاقة السرد العادي بالسرد الفنتازي في القصة

تم استخدام البعد الفنتازي في هذه القصة وكان له مظهران: الأول عجائبي؛  حيث ظهرت للولد شخصية متخيلة تتمثل في الراعي المنتحر أحمد،، كما كان جانب ثان من البعد الفنتازي يتحقق عبر  الغرائبية التي تمثلها الاصوات الصادرة ليلا، استخدم الراوي عديد الطرق  لوضعنا في اطار البعد الفنتازي بنوعيه فكان من الادوات التي  استخدمها لتحقيق البعد الغرائبي أحاديث الشخصيات مثل  حديث العم الموجه إلى (وائل) ليلة الوصول لبيت الجد، كما كان من الأشياء التي ساهمت في ذلك الحوار مع الراعي احمد وهو ذاته متخيل.

1.3 اشتغال الترهين والتأطير في قصة الكاغط

اولا. تعريف ببعض المصطلحات

الممارسة السردية: هي إطار جامع لمجموعة من التقنيات الجديدة التي  اشتغلنا على  استخدامها أداة لاستكشاف المزيد من أسرار النص الجمالية الخفية وهي تنقسم لبعدين، البعد الأول يتحقق على مستوى السرد،  ونجد فيه التأطير والترهين، بينما البعد الثاني يتحقق على مستوى الوصف، ونجد ضمنه الاشتغال على الحواس والوصف المقارن.

سيتم البحث عن جانب توظيف الترهين والتأطير الجمالي في هذا القسم الثاني من الدراسة بينما سيتم البحث عن جماليات الاشتغال على الحواس في قسم الدراسة الثالث.

التأطير

  التأطير أو حضور اطر الحكي (الحدث الشخصية الزمان المكان) في الجملة السردية، وهي تقنية تحول السرد من بعده الأحادي البسيط إلى سرد مميز بحضور محددات الإطار القابلة للتخيل بدل السرد السطحي القديم،.

ثانيا. الترهين:

هي تقنية ممارسة سردية على مستوى السرد وفيها يتم الربط بين مكونات الحكاية فيرتبط حدثا ما بحدث اخر أو حدثا ما بشخصية ما وهكذا أن يرتبط حضور شخصية بمكان.

ويستفاد من التقنيتين عند السرد في تحقيق حضور السرد وفعله وتأثيره على المروي له،  فيصبح السرد مكتنزا اوو كما يسميه البعض ثريا.

اولا. التأطير في القصة

يمكن أن يلحظ المتمعن في قصة الكاغط حجم الحضور المميز للتأطير في بدايات المشاهد أو الوصف المسرد الذي امتازت به هذه القصة.

1. التأطير الزمني في بداية المقاطع المختلفة

أ.  مقطع فيه تأطير زمني في بداية القصة

 لنتابع ذلك منذ بداية القصة:

“كان صيفاً حاراً شديد القيظ، ذلك الصيف الذي أتيته ولداً في الثانية عشر من العمر صحبة عمي، الشمس في فؤاد السماء تغرس مسامير أشعتها الحارة في مصب رؤوسنا، الأرض بدت حامية تذوب من فرط الحرارة،”

التأطير بدأ كما يمكن أن نلحظ منذ بداية القصة في المقطع الثاني حيث يرسم الولد صورة الجو في لحظة الوصول وهي كانت في الصيف فنحن بذلك أمام الزمن من جهة باعتباره صيفا كما نتابع صورة المكان التي تعكسها صورة الشمس في كبد السماء، كما نتابع الحدث وهو زيارة مزرعة الجد والشخصية وهو الولد وعمه.

ب. التأطير الزمني في بداية مقاطع جديدة

وهنا في بداية جزء جديد نجد التأطير أيضا، التأطير فيه تعيين زمني بالإضافة لصورة المكان المتضمن ذهنيا من خلال فعل الشخصيات داخله:

“(أ) اليوم التالي، كان جدِي يزرع شجرةً ما، (ب) كانت يداه إحداهما تمسك بعنق النبتة كأنها تشد خناقها، قبضته محكمة على منتصف النبتة، (ت) الفروع الصغيرة والقليلة والوريقات الخضراء”

صورة وصفية مسردة يتم فيها في البداية تحديد البعد الزمني للحدث وهو قيام الجد بزراعة شجرة ما، ثم يقرب الراوي الصورة لترصد اليدين الجد في (ب) ثم ينتقل ليقترب من النبتة نفسها في (ت) ويصورها.

ت. تأطير زمني لمقطع يخص اليوم الرابع لإقامة الولد في المزرعة

أيضا هنا نجد البداية في مقطع جديد تتم بالتأطير الزمني للحدث في البداية ثم  لنتابع هذا المقطع فيما يلي:

“(أ) في اليوم الرابع، خطرت ببالي فكرة، (ب) لما أراقب الحمامات بينما أستطيع اصطيادها؟ ، (ت) صنعتُ مصيدةً، كانت بقايا سدة سرير مهترئ أخذ مني جهداً ووقتاً، وضعته في مكان مناسب، (ج) جمعت العديد من حبوب القمح على الأرض ووضعتها تحت السدة المعدنية”

في (أ) يبدأ الراوي بتحديد الإطار الزمني لوقوع الحدث، وهذا الحدث هو ما خطر بباله من تساؤل والمكان كما يمكن أن نلاحظ هو مكان (خطور) الفكرة وهو (بال) الشخصية (وائل).  بينما في (ب) يحدثنا عن السؤال الذي انتج الفكرة، ثم نتابع كل ما يلي من احداث مؤطرة، فهو قد قام بفعل صنع مصيدة في نفس الإطار الزمني اليوم الرابع ووضعها في مكان لم يحدد إلا بكون مكان مناسب (ضمن المزرعة)، بينما يستكمل باقي الأفعال اللازمة لمشروعه بجلب القمح ووضعه تحت السدة.

2. تأطير يجمع فيه الزمان والمكان معا

نتابع في الصورة التالية كيف يتم الربط بين الزمان والمكان معا من خلال صورة الشمس التي تربط بين الفضاء المكاني الذي تسطع فيه وبين الزمن باعتبار أن حركتها علامة دالة على تغير الزمن.

“كانت الشمس تدور على غفلةٍ مني، انحدارها إلى الجنوب قليلاً كان يدل على أن الوقت قارب القيلولة، وأنني أمضيت وقتاً كثيراً أستمع لقصص الراعي احمد، نهضت واعتذرت منه…”

الزمان من جديد في بداية المقاطع كما نرى فيما يلي:

في الليل، كان المكان ينقلب إلى حفل من الأصوات المرعبة، كنت أنام في غرفتي وحيداً استمع لصوت سقوط برميل ما، أوراق الشجر تصفعها الرياح، كلاب الجبّانة تنبح…””

بنفس الطريقة يتم تأطير الحدث الفنتازي المتمثل في الأصوات التي تحصل ليلا. بكلمة صغيرة عبارة عن تحديد زمني هي (في الليل)، ويستمر بعدها سيل الأحداث التي تبدو كأنما هي احداث متواترة.

3. التأطير الزمني في مقطع القصة الأخير

نظرا لأهمية المشهد الأخير في هذه القصة ولدوره المهم في تأكيد كون الراعي أحمد شخصية متخيلة غير موجودة في الواقع فإن الراوي قم بجعل السرد فيها مؤطرا، لنتابع المقطع ونتصور كيفية رسم هذه اللحظة السردية المهمة من قبل هذا الراوي:

“(أ) عند انتهاء العطلة، (ب) وفي الطريق إلى البيت (ت) سألت عمي عندما أراد الاستفسار عن أجواء العطلة:

مملة، لولا الراعي احمد.

الراعي احمد؟!

ايه…يرعى في سعي الحاج بشير.

الحاج بشير ماعنداش ولد ثاني اسمه احمد، عنده احمد حمّودة بس، ميت ليه سنين.”

في (أ) تم تحديد زمن الحدث وهو انتهاء العطلة، ثم في (ب) تحديد المكان وهو الطريق إلى البيت، ثم في (ت) نتابع الحدث وهو السؤال وهو موجه من شخصية لأخرى: من الولد وائل إلى عمه، ليبدأ بعد ذلك الحوار الذي نكتشف بموجبه أنه لا توجد أي شخصية واقعية أسمها الراعي احمد باستثناء ذلك الذي مات منذ عدة سنوات.

4. التأطير بزمن تاريخي محدد

وهنا يتم تأطير الحدث بتحديد زمن الحكاية (وقد سبق الإشارة لهذا المقطع) بخصوص الفترة الزمنية لتلك الزيارة:

“(أ) كان ذلك في العام الذي دكت فيه دبابات صدام حسين مدن الكويت (…)  (ب) كانت البلاد وقتها يغازل وجودها القحط والحرمان “.

في المقطع السابق تابعنا في (أ) تحديد زمن زيارة الولد لجده وهو شهر اغسطس 1990.م  عندما هاجم صدام الكويت، ثم نجد الراوي في  (ب) ينتقل ليتحدث عن المكان وهذا المكان هو ليبيا بأكملها في ذلك الزمن سابق الذكر.

5. التأطير المكاني:

نتابع هنا كيف يحقق التأطير المكاني تفعيلا للحكاية، حيث العم يحكي قصة علي أبن العم بشير، وتأثره بصورة (حمودة) المشنوق في الزريبة، فاستخدم الراوي تحديد المكان لوضعنا في إطار لحظة سرد مميزة لنتابع المقطع كما يلي:

“(أ) لم يكن على طبيعته منذ أن شاهد أخاه معلقاً بجذع شجرة السرو تلك التي تظلل الزريبة، (ب) راعي غنم في صبراتة يموت هكذا (ت) يفصل بينه وبين الأرض قدميْن،”

في (أ) نتابع صورة الراعي المنتحر محددة إطارها المكاني من خلال ثلاث محددات تأطير: 1) التعليق في شجرة، 2) شجرة السرو، 3) تظلل الزريبة، ثم نجد بقية التأطير المكاني في (ب) الإطار المكاني كله، ثم في (ت) ايضا تحديد مكاني من خلال المسافة بينه وبين الأرض.

ثانيا. استخدام تقنية الترهين في القصة

لم يستخدم الراوي الترهين في هذه القصة بشكل كبير، وإنما ركز على التأطيرأكثر مع توظيف الصور الحواسية التي سنتابعها في الجزء الثالث من الدراسة، بعد رصدنا لبعض المقاطع التي فيها ترهين لنتابع هذا المقطع في بداية القصة عند قدوم الولد للمزرعة:

“(أ) عندما نزلت شعرت بقسوة المكان، (ب) روح خفية داخله تتوعدني، كأنّي بها روح الملل، في لحظة ما حضرت صورة أمي، تذكرتها في وهي تعد لي الإفطار،(ت)  كانت تسكب الحليب الدافئ في كوب الشاي خاصتي (ث) عندما كانت تذكرني بأن استوصي خيراً بالجد”

نتابع في المقطع السابق في (أ) ترابط النزول من السيارة بشعوره بقسوة المكان، بينما يقوم الراوي بتقديم تفاصيل ما يحدث في (ب) وهذا نوع من التأكيد على ما حصل في (أ)، بينما في (ت) و(ث) نتابع ترابط حدث سكب الوالدة للحيب بحدث تذكيره وتوصيته بالجد خيرا.

هنا أيضا نجد سرد فيه ترهين لنتابع ذلك حيث تترابط حركة الجد فجرا مع سماع الولد لصوت المؤذن المنخفض:

(أ)  استيقظ هو مع آذان الفجر، (ب) كنت أسمعه يتحرك في أنحاء المنزل ببطء مع صوت المؤذن الذي كان منخفضاً جداً وكأنه ينبع من أرض أخرى، “

في (أ) الولد يستيقظ فجرا، ثم في (ب) يترابط سماعه لحركة الجد مع سماعه لصوت المؤذن وهو ما يعكس بشكل غير مباشر أن الجد يصلي الفجر.

خلاصة عن التأطير والترهين في القصة

تميزت القصة كما تابعنا بحضور تقنية التأطير التي تعني أن الإشارات الزمانية أو المكانية حاضرة بشكل ما مع الحدث والشخصية، الأمر الذي جعل السرد كثيفا مميزا وجعل الصور اكثر فعلا على المتلقي. الإطار الزماني كان هو الأكثر حضورا خاصة في بدايات المقاطع حيث كان الراوي يعرفنا باستمرار بالموقع الزماني للحدث ثم يحضر المكان بصورة أقل.

كما كان التأطير يتخذ وضعا يتم فيه الجمع بين الزمان والمكان في بدايات المقاطع أو عند تصوير المشاهد وهو ما يجعلها اكثر فعلا أيضا، كما استخدم الراوي التأطير من خلال توظيف الحدث التاريخي لغرض وضع المروي له في زمن احداث القصة.

التأطير الزمني كان مستخدما في نهاية القصة لوضعنا في إطار الحدث المهم وهو اكتشاف الشخصية/ الولد من خلال حواره مع عمه أن الراعي احمد لا وجود له، وأن (ربما) عاش مجرد وهم. هذا المقطع كان في نهاية القصة ويمثل لحظة التنوير التي تأتي لتقلب المتوقع.

أما بالنسبة لتقنية الترهين فإن استخدامها كان أقل، وتابعناها في مقطعين الأول عند بداية القصة والراوي يرسم لنا مشاعر الشخصية عند وصوله للمزرعة، وكذلك تصوير حركة الجد التي يتلقاها سمعيا مع صوت المؤذن ليظهر لنا قيام الجد من النوم فجرا  ويجسم لنا سمعيا الواقع ذلك الصباح.


[1] محمد النعاس، قصة الكاغط، يمكن الاطلاع على القصة على هذا الرابط بموقع بلد الطيوب:

http://tieob.com/%d9%82%d8%b5%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a7%d8%ba%d8%b7/

مقالات ذات علاقة

بـرّ الكلب

نورالدين خليفة النمر

شعرية العويل العاطفي الطًويل

المشرف العام

قراءة في ديوان صلاة أخيرة، للشاعر حمزة الحاسي

المشرف العام

اترك تعليق