من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني
سرد

خليط الليل والنهّار


[ 4 ]

”إني أنزف يا زغبتيّ … ليس هناك من قدرة أو اقتدار على فعل شَيْءٍ … إني و حيد وبردان حد الانسحاق، وإن خانتني نواياي الطيبة …معنى ذلك : أنه ليس هناك في الأفق من سحب ممطرة”.

أن تغادر المكان فى نقطة زمن اللاّعودة حين تمتد أمراس من الفولاذ المغناطيسى القوي و تعمل على جذبك للعودة فى الحال، تستحثك لحظة الوداع اللعينة بدموع دبقة ثقيلة بمقلة العين على وشك السقوط ، بأنه يجب أن تعود وتتراجع عن قرارك. ليس سهلا وداعا وتضحية بفلذة كبدك. زغب دون ريش و أيقونة لصغيرتين بريئتين ، وليس سهلا أن تقبل لنفسك ، أن تكون خفا باليا كخف جحا ترتديه السيدة حينما تريد، أو تلقيه وقتما تريد ، قرار ليس سهلا وليس اختيارا، علقما لابُدَّ من تجرعه على جرعات أحدها في الصباح على الريق، والأُخرى قبل النوم ، ما من أحد يقدر على هذا العذاب طوعاً إلا الجمادات والبهائم.

من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني


الأصعب أن يكابده من كان فى رقة وعاطفية (كريم) الذي رضع الرهافة وإحساس الهجران والنبذ منذ أن افتتح عينيه البندقتين على لوح هذا العالم المفتوح، وقد قرأ دروسه جيدا وبإنتباه من تاريخ وجعه القديم المتجدّد : << يوم صحوت من رهقة الأيام الكثيفة على أنك تنتمى لعرق ملون هجين منبوذ، كتب على شاهد تاريخه لونين من السواد المظلم الذي يناقض البياض المشعشع، وحين صحا الوعي لديك ، أكتشفت أن أمك سوداء فى لون حبة زيتونة، طويلة فى طول النخلة ، ورفيعة كالرمح الممشوق، وعرفت أن أباك للمرة الأولى والأخيرة حين قرر بجبروته الرحيل بك ووادعك لأمك البسّامة الطيبة، عرفت أنه هذا الشركسي الأبيض الفوضوى، الأخضر العينين، فى بياض الشمع مشرّب بحمرة زهرية دكناء، مربوع القامة،عريض المنكبين، وبصوته الجهورى وشواربه المفتولة الكثة الرمادية ، فوقها أنف روماني كالمدفع، و تتسلط نظرته المربكة على كاهل الآخرين، فيمتثل له العبيد بانسياب، تاجر كبير يتحكم في أسطول القوافل باتجاه ما بعد الصحاري، يعززه طبع كورغلي جبلي وعر، لا يخلو من أبهة فارغة، وصفات أخرى هى على النقيض تماما من صفات زوجة زنجبارية طيبة من قرية نائية في صحاري الجنوب ، عرفته وعرفها للمرة الأولى والأخيرة بين نقطتى تعاشق بين مدارى الوسط الشمالي والوسط الجنوبي في واحة بين (كثيفو) و(هانجا)، تمّ ذلك اللقاء العجيب في الظهيرة المتوهجة أثناء استراحة قافلته النهائية على تخوم جبل سوق الإبل في رحلةٍ استغرقت فصلىّ الشتاء والربيع من التعب.

تركب مرتفعا رمليا وتنزل وهّادا منخفضة، تمرَّ على سهوب وكثبان رملية متناوبة واسعة ممتدة لا حد لها، بين رياح وعواصف رملية لا يتبين أحياناً فيها رؤوس الإبل، من أذنابها، كل يسبح وراء أمواج الغبار المتطاير كنشارة الخشب، فيما تختفى عجيزتها وسنامها تماما، وليس هناك ما يدل عليها في وسط العاصفة الرملية أحيانا إلا رغائها العنيف الذي يصدر من جوع أو عطش أو كليهما، تلوك شوارب متماوجة وأسنان كبيرة من رأس شامخة هائجة يلاطم فيها الريح الصرصرة يمينا وشمالا، وتضرب رقبتها الممتدة في كل اتجاه، تستفزها زخات الرمال محملة بحجارة دقيقة صلدة قادمة من أحراش بطحاء تبعد مسير نهار فتجلد كليهما البشر والحيوان دون رحمة بسياط من لسع مسموم ، ولولا من الرّسَن والزّمام الرباط بين الكائنين الرفيقين لابتلعتهما الصحراء في جوفها النهم.

ولكن ما يطامن الحال أنه لا شيءُ يدوم هنا ، أيام أخرى أو بضعة ليالي، يهدأ زحف الرمال، وتسكن العاصفة، وتصير رويدا رويدا فى موات تام، حيث تستكين اندفاعاتها وتهدأ الكثبان من جنونها الأصفر المتطاير ويستقر الرمل الأحمر على مرمى البصر في امتدادات زاهية تحت خيوط الشمس الذهبية، ساكنة كألواح منبسطة مطروحة في تدرجات ومناسيب من لوحة رسمتها يد فنان مبدع . الكل هنا يخدمك من الزنوج، يعاملونك كأمير هبطت عليه نعمة الإمارة من السماء، يرطنون بنفس اللغة السواحلية التى تفهم مفاتيح نطقها، يحمونك من الرياح الهوجاء، يلثمون كل جسدك حتى لا ترى إلا الحفاوة لأنك الهدية وابن الملك المبعوث، يخبرونك ماذا يريد الأب الشركسي، هذا السيد الإله المبجل من فوق تحفة هودجه الخاص إذا كان راكبا، أو من وراء حجاب خيمته المسدلة عليه وحده. كان دائما يقف بينك وبينه ترجمان، وفهمت منه منذ صغرك قيمة اللغات، كنت ترقب فى عينيه طائرين صغيرين أخضرين يرفرفان فى قفصيهما، وكنت تنتظر سانحة خروجهما لتمسكهما ، كان هو يضحك منك ، عندما يرمقك تراقب بتركيز على بؤبؤ عينيه بتلهف منتظرا خروج الطائر الأخضر منهما …كان يقرأ رأسك.

_________________________________
جزء من رواية “لا يا سيدي الرئيس”.

مقالات ذات علاقة

دهورة – الجزء الأول (مشاهد رصدت قبل الثورة….)

حسن أبوقباعة المجبري

عطر الذكرى الفوّاح

محي الدين كانون

زويـلـة

إبراهيم دنقو

اترك تعليق