سرد

خــادم الـشــرّ

 

“لم أزل أبكي حتى ضحكت، ولم أزل أضحك

حتى صرت لا أضحك ولا أبكي.”

أبو يزيد البسطامي

1

مرة أخرى تستأثر بي سكرة فرشاتي التي كما يبدو قد ثملت من فيض ما صورته من عجائب المخلوقات إلى الحدّ الذي لم يعد فيه ثمة بياض في مكنته أن يرحب بشطحات نزوتها السادرة دونما توقف في رسم الكائنات التي تستدعيها اللحظة لتبتكر في كل شطحة لونا إضافيا اشتّقت ظلاله من عناصر متباعدة لا رابط يجمع بينها، هي من خامات منبوذة وأشياء مهملة، فأختلط نسغها بصوف محروق ومنقوع الشعر وزيوت الحجر وغبار الفجيعة وبخار الأحلام، وكل شيء متعذّر وشاذ ومجهول قد استدعته مغامرة ألواني التي لا فكاك من اقتفاء جموح شهواتها، ليصل طغيان خيالها إلى أبعد حدّ في اختراع خلطة من ألوان مستحيلة لم توجد. فكان لزاما عليّ أن استسلم لجرح أصبعي بشفرة حلاقة لكي أضفر بطاس من طراوة دمي وقد امتزج بعد هنيهة بقليل من دموعي الحارة مع لسان عصفور حطّ به المطاف على رخامة نافذتي، ثم هيأت المحلول لأن يمتص روح القمر لسبع ليال قمرية متتالية من ليالي الربيع الصافية، بعدها أضفت إلى الطاس مسحوقا من ريش حمام وندى لم يمسّ، ليكون جاهزا بعد امتصاصه لثلاثين عنصرا من عناصر الكون، لرسم الكائن الذي حتى تلك الساعة لا أدري ما هو. لأنه لم يدر في خلدي قط، بأن أطياف فرشاتي وهي تترنّم بين سحب شفيفة قد بيّتت أمرها لاستدراج ملاك شارد، أو هكذا تبدّى لي حين أمعنت النظر في ذلك البهاء من إعجاز اللون وهو  يسفر عن طيف نوراني يحلّق مشعشعا في فضاء لوحتي المزهوة بنفسها .

2

هنا تتطلّب معجزة الفرشاة أن ألجأ رغما عني إلى حاشية النثر الذي لا مناص البتة من طاعة ما تمليه أوجاع خيبته، وعلل وجده، لأشير بأصابع قلقة، دونما غضاضة أو خجل  أو خوف إلى مخلوق لوحتي الذي تمرد على فضاء ورقة  الفبريانو لترمي به  طوالع الخلق في دربي ككائن حي، وليس كنزوة  عشواء من نزوات اللون السحري التي لا براء غالبا من ترّهات طبيعتها الغامضة، حين تتبع الضلالة التي تقمّصت هيئة ملاك .

ملاك تراءى لي في غفوة من غفوات حكمة  النّور كأنه قد  هبط فجأة من السماء الثامنة، كائن قزحيّ من خزف شفيف  يشعّ لطفا ورحمة ودفئا ، ملاك لا يسعك إلا أن تنحني ذليلا وصاغرا لتقبّل موطئ نعليه، ملاك أرسلته ربة اللون المقدس لكي يغمرك بعطفه ويروي روحك الظامئة من معين محبته، يؤنس عزلتك،و يرمّم خراب رحلتك ، ملاك  ذو  ملمح آمن ونضر وناعم وخجول وتقيّ وعفيف ووديع وباهر . ملاك وهبته لك آلهة الرسم أخيرا ، وكأنها تريد أنصافك بعد طواف طويل من التعب والشقاء والتيه في شعاب الجهات الوعرة .  نثر لخليط من عناصر لون وحشيّ  يختطفك من رتابة الخبب، حين يسفر عن طيف بهيّ يفيض وجدا ويتدفق بهجة وحبورا، ملاك من خلاصة أعجاز قدّت  من دم  ونسغ قمر هائم في ملكوت الشعر  و بكارة ندى، وموسيقى من ارتعاشه أوتار معتّقة، وخفقة ترانيم ناي ولهان.. وعصائر طير عاشق.  ومشية ليل اثمله  فيض العشق / ملاك في عينيه أنهار من ودّ وسماء سعيدة برقص نجومها وأعراس سكانها المرحين، ملاك أخّاذ وفاتن، لا غرابة أن يستأثر بصلاتك وأغانيك وطوافك، ستعطيه كل ما تملك وما لا تملك، تهبه حواسك وكنوزك وحريتك وذاكرتك  وجواز سفرك و نطفة تجاربك وهيجان نبيذك.. وكل ما تملكه يمينك من مفاتيح الأبواب والقلوب  والخزائن والأسرار سيغدو رهنا له، بما في ذلك جسدك النحيل الذي لا يقوى على مقارعة جمال العواصف التي ترسلها غيوم السخاء، لتمسي قامتك خفيفة ومستنفرة  تتعثّر مزهوة بتلعثمها وارتباكها كلّما همست شفاه ملاكك، تنطّ أيها العبد ملبيا دونما تردد كل ما يمليه وحم معشوقك، من رابع مستحيلات الكون  إلى ثامن معجزات الدنيا التي عليك أن تجلبها من عدم .. لأنك لا تملك في ما تملك  إلا أن تكون خادمه ومريده ومسامره ومهرّجه، وظلّه الوفيّ الذي يستجيب طائعا وطيّعا لنزوات مزاج ملاكه السكران، يكفي أن تتفيأ سحابة عطره لتسافر في ملكوت المتع/ نوراني هو ملاكك العارف بكل شيء،الذي يكفي التمتّع بلمس أنامل رأفته الكريمة، هو القابض على أسرار الغيب ومخابئ المجهول، السالك نهج معرفة الأفئدة ، الكاشف جوهر الخفاء وطبائع الكواكب المنظورة والخفية،  الواهب حليب النجوم،وليزر الثريا، النابض بجمهرة الأنوار، هو مولاك وسيدك الذي تأمل بتوق جامح أن تحلّ عناصره الثلاثين التي صوّرته بها، لتمتزج بتاريخك وجهاتك ونومك وصخبك وسكينتك ولحافك وأنفاسك / تتخلل لغتك وحلمك ومديحك و سيرك  ومسراك/ هو سترك وسريرتك، لباسك  وسفرك، عاصمة فؤادك ومدار عيشك ومعاشك،أوردة خيالك، وعروق متعتك،  تنام  حالما به، منتشيا بوعد حنانه الوارف، وتستيقظ  متضرّعا في توسّل أن يشملك بخطفة عطف  تتزود  بها على منازلة جند الأيام. كنت تراه ملاكا ، وهذا دأبك لا ريب كلما سبقتك ترّهات شهوتك، أجل قد ظننته ملاكا لا غبار عليه، ملاكا  يتفوّق على جمال سلالته / كأنه المقام الأول والأخير في مسافة اللون ومدارج الهوى، العبارة التائهة عن صيادي الحكمة،والسلّم المأمول في  تاريخ الموسيقى / الضفة الآمنة التي تنتظرها جمهرة العشاق / كلمة السر المفقودة  في جزر اللغات / القصيدة المنتظرة، والعبارة  المحلوم بها التي ستنقذ الشعر من شتاته، وتضع حدّا لمتاهة  الجعجعة. خلاصة العطر المستحيلة التي من أعشاب الغيب وبساتين الخرافة

3

تنتظر وتنتظر، ثم تنتظر مرة أخرى أن يترفّق بك  ملاكك ومخلّصك ومطهّرك ومولاك، ولا سيما أنك ما تفتأ أبدا،ليلا نهارا رافعا أعمدة المديح بعلوّ خاشع، إكراما لبلاغة الحلول في حضرته، والفناء في تجليات قدرته. ولأنه ملاك من سلالة خيالك، ينصهر في شرايينه شيء من دمك وخلايا السماء ولغة الطير، لا يمكن الظن بأن يكون وباء أو شرا أو حقدا أو ضغينة. هو حتما من عيار استثنائي، ملاك سكّ متنه الشفيف من أبجدية عناصر الرحمة وحدها، لأن الملاك غير الشيطان، فهو ضد الشتات ونقيض الفرقة، وهو بداهة من صنّاع  الخير، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن الفحشاء والمنكر، ويجنح تبعا لطبيعته اللونية التي من قمر ودم ودموع، يجنح للاحسان والسلم والمغفرة والتوادد والحلم والرحمة والتسامح، وكل شيء من رهط الطمأنينة والسلام يليق بالملاك ويكون من لدنه. الملاك  دعوتك لحياة مبهجة / ومرشدك إلى البساتين والأنهار، هو دليل ألفة  وتآزر، وصلة رحم، لا  محرض فتنة ومهيّج زوابع بغضاء.. الملاك يا سيدي لمّام شمل،لا قاطع أرحام / مؤلف قلوب، لا مغلغل نقمة  وبذّار فرقة وحمّال وشاية ونبّاح نميمة. فهل يعقل أن يكون ذلك الكائن الذي حسبته في شطحة ما من شطحات الخلق، ملاكا عفيفا خرج طازجا من لوحة الرسم ، هو محض وهم، وأورام خديعة صورت لك الشيطان ملاكا. لتكتشف بعد هلاك ثقيل،لا مردّ لغزوة فحشه بأن ملاكك  أيها الرائي الخائب  محض خبط أعمى من لطخ خيال تتشرد، ونزوة ألوان غرّر ببراءة خليطها . لهذا حين تجرّد ملاكك من لحافه، وانكشف بعض ما يخفيه إزاره، بعد أن ذهبت الشمس بسديم حجبه وقشعت غلالة سرابه، وهلام  سحب صيفه الماكر، تبدّى لك في هيئته العارية وسوءته المخفية الخافية ،وأنه في حقيقة جوهره  لم يكن سوى  داهية من خدم الشيطان الرجيم  عليه لعنة الله، في الأولى والآخرة، وتابع خسيس من رهط إبليس الذي هو خازن شرّ، وجلاد براءات،ومشرد أسر، ومشتّت شمل وقاتل مسرّات .

4

سأل حارس الظلمة :

*أين منزلك أيها العابر

– منزلي لا يحدّ يا سيدي، انه الشاسع الذي سقفه هفهفة نسيم وبساطه مديح وأبوابه عناوين مخيلة .

*ليس لديك دار تؤويك، لتسكن إليها  وتحتمي بها من هذا الزمهرير الغاضب ؟

– كان لي مقام، لكني قد هجرته، بل تحررت من سطوته وعتقت نفسي من نفسي .

* لا أفهمك، أو لعلّي لا أريد أن أفهم سوى أنك ضائع .

– كنت ضائعا حين رضخت لسطوة وجداني، أما الآن فأنا حرّ لا أين لي …

* ولمن تركت ملاذك ؟

– لغزاة طيبين .الذين رأفة بي، كفروا بي ..

اقتلعوني عنوة من تربة وطني، واغتصبوا مملكتي دونما سلاح،

سوى بارود محبتهم .

* ومن يكون هؤلاء الطغاة الذين جعلوك منبوذا وشريدا لا كنف لك ؟

-الملائكة ياسيدي / الملائكة وحدها من أطلقت براثنها في أوردتي حتى ضقت ذرعا بمتني وغلافي، فهربت ناشدا الخلاص ، منقذا ما تبقى من أنفاس حبري لربّما أرسم أرنبا يرقص أو عباد شمس يتمرد على تاريخ عبوديته، أو قصيدة تفلت من شباك الخليل..

*لكن الملاك لا يسطو على عباد الله، لعلك تهذي …

– أقسم يا سدي أنّه ملا ك  لا غبار عليه…..

ملاك سمته من نور وكسائه سندس موشّى بلؤلؤ  يخلب القلوب ويلهب الأبصار .

*كيف يكون ذلك؟ الملاك لا يهبط إلى حضيض الدنيا، ليلوث نفسه بروث الأرض، الملاك له قصور من ذهب  وانهار من عسل  وخمر في الجنة ..لا تغريه عفونة أرضكم القاحلة

– ربما يا سيدي  ولكن هذا ما حدث  .

5

هكذا غدر ملاكي بي / فصعدت  متشبثا بعلو روحي حين هبطت عزيمة جسدي. وانتشلت بقايا أسمي من براثن جريمة نكراء. قال الغاوي مشفقا :كأني بك قد خبلت أو قد أصابتك لوثة خيال أودت بك إلى التهلكة. قلت: ربما يا صاحبي. بل لعل من حسبته ملاكي كان خديعتي، وحماقة خلقي التي لا تغتفر. لكن يظل لكل منّا في هذه الفانية خيانة فاجعة، وأيضا  لكل منّا  خطيئة تتأرجح ألوانها بين الثواب والعقاب. لأن كل هذا النسيج الماكر من رحلة كوميديا لوحتي السوداء لم يكن في البدء سوى مغامرة  فرشاة  سادرة في نشوة ألوانها، لا تخلو من براءة التكوين حين صورت بهوس الفنان  تلك المسافة التي تلاشت فيها نسب اللون المقدّس بين ضحك من بكاء، وبكاء من ضحك. هذا كل شيء .

برلين ؛ 9 /12/2009

مقالات ذات علاقة

جزء من رواية الأورفيدة

فتحي محمد مسعود

رواية الحـرز (49)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية ديجالون – الحلقة 11

المختار الجدال

اترك تعليق