المقالة

حقول “الحرام” الأخضر

أحلام المهدي

 

في وطنٍ يغمض عينيه ويسير في دربٍ مفخخة بتمائم الطغاة، نمتشق بنادقنا ونعيد تشكيل المشهد بأعقابها الحادة، نغطي عين شمسه بغربال، ونراقب بحسرة بقايا من رمله الذهبي تتسرّب من بين أصابعنا الآثمة، عندما نلتفت إلى الوراء بعينٍ من رجاء، لأن مخالب “سلّال القلوب” هي ما نراه أمامنا بعد أن ظننّا أننا نهرب من “الغولة” التي لم تكف يوما عن مطاردتنا.

أما الأزمات التي تتكالب على رؤوسنا منذ سنين فإنها تعيد إلى الأذهان كل ذكرى جميلة عشناها فيما مضى من أعمارنا وكأنها ضحكتنا الأخيرة في هذا العالم، نتذكر بشوق ألعابنا رغم بساطتها وملابسنا رغم قلتها، وكل ما فقدناه في طريقنا إلى “هنا” و”الآن”، أما الطفولة الثرية لفتاة عاشت في قرية على سفح جبل لا يعكّر سكينتها إلا خرير الوديان في الشتاء، فإنها تجعل الذاكرة صندوقا خشبيا يحاكي ذاك الذي كانت تضعه جدتها في الركن البعيد من “دار الحفر”.

غريان، ودّان، أطلس، الرياضي وغيرها، كلها أسماء معروفة لأنواع من التبغ الليبي بعضها فاخر يزيد سعره عن أنواع أخرى من السجائر المستوردة، لكن فكرتي عن التبغ تختلف تماما عن كل ذلك، هي صورة مكتنزة بكل قصص الحياة التي أفتقدها الآن بشدة، هي تلك الحقول الخضراء الشاسعة التي لا يعكّر صفاء خضرتها إلا بعض الزهور البيضاء الصغيرة التي تبزغ بين وريقاتها العلوية، تلك النبتات القوية التي كان بعضها أكثر طولا منّي، لا يعرف الجفاف طريقا إليها طالما هي راسخة في الأرض.

الفلّاحون في قريتي كانوا يزرعون نبتة التبغ ويقيمون لها الطقوس التي تليق بها تماما كما كانوا يفعلون مع الزيتونة، أو النخلة أو أية شجرة أخرى كانت مرادفا للحياة في القرية، وأذكر جيدا كل المراحل التي كانت تقطعها تلك الأوراق الخضراء في طريقها إلى صندوق جدّي الفضي الصغير الذي كانت تصله بعد أن امتصت لونها وسحقتها أشعة الشمس التي كانت توضع عناقيد التبغ الخضراء تحتها حتى يبهت لونها الزاهي ويغادرها ليجتاحها الجفاف الذي يجعلها تتحول بسهولة ويسر إلى مسحوق تمدده الأصابع برفق في قطعة من الورق الذي يلتف حوله ويجعل منه سيجارة لا تميز جودتها إلا أنفاس عارف.

ومن الحقل إلى الخيط القاسي إلى اللوح المربع مرورا بأشعة الشمس كانت أوراق التبغ تحكي قصة حياة يشارك فيها الكبير والصغير في العائلة، قبل أن تجتاح فتاوى آلهة الأرض حقولنا لتقتلعها وتخطف لون الحياة فيها فتجعلها مجرد “حرام”، رافضة أن تترك مصيرها ومصيرنا لإله السماء، وتتحوّل تفاصيلنا الصغيرة الجميلة إلى مجرد ذكريات تداعب أرواحنا كلما مستها الحياة بضر.

مقالات ذات علاقة

اْيام البنفسج (صور قديمة)

سالم الكبتي

عن فن “المالوف” طرابلس ومن قطع وصالها بالأندلس؟؟

زكريا العنقودي

أبيض.. أسود

علي باني

اترك تعليق