النقد

حقوق على ضفاف الوحل

جازية شعيتر

المجموعة القصصية ضفدع الوحل للقاص أحمد يوسف عقيلة
المجموعة القصصية ضفدع الوحل للقاص أحمد يوسف عقيلة

في محرابه الجبلي الجميل، متكئ على قيم مجتمعه الزاخر بالمثنويات، قرر قاص حكيم أن يتلوى علينا ما تيسر من آيات الحقوق المدنية. حقوق تتعدى تلك المصانة بالمواثيق الدولية، والمتضمنة في الدساتير الوطنية، والمحمية بالقوانين الوضعية؛ بيد أنها مكفولة بالشرائع السماوية، وإن كان أكثرهم لا يعلمون، وبعضهم يتكتمون…

في دستور ذلك القاص. يصبح الحق في الغناء، وفي الحب، وفي الزهاء، وفي الاختلاف، من الحقوق الطبيعية للإنسان…

دستر القاص حقوق الثائرين، والمعلمين، والعاطلين، والقلقين، والخائفين، والعطاشى، والجائعين عابري السبيل في المدن الكبيرة. الأسرى، والمساجين، والجلادين. ولم ينس أن يدستر حقوق ذوي الإعاقة، وذوات الاحتياجات الخاصة…

وهو يرى أن [… المسألة مسألة سياق…] فالتنشئة الحقوقية تفرز مواطنين أحرار.. والرحلة دائرية بطبيعتها.. ما زرعناه في طفل الأمس نحصده في إنسان الغد. لكنه يستطرد: لضمان إدماج المحاربين في مجتمع الإعمار والإصلاح لا يكفي أن [تتحول البندقية إلى منجل] فقابيل قتل شقيقه بدون بندقية. النجاح رهين بتأهيل المحارب ليغدو مزارع. رهين بإصلاح المدمر فيضحى معمرا…

يحذر القاص الحكيم، في كل قصصه، من التمييز، والاضطهاد؛ فالحق في المساواة أمام القانون الطبيعي، والقانون الوضعي هو القاعدة الدستورية الأولى، فلا مبرر لسخرية مخلوق من مخلوق أخر، ولا مبرر لتباهي مخلوق على أخر بما لا حيلة له فيه…

[زغاريد في العتمة] تسلط الضوء على الحق في احترام الميت المشنوق، والحق في الابتهاج بحياة المولود.

ولم يهمل القاص، حق أفراد المجتمع في احترام “حرمة الموتى وقبورهم”، فإهانة الجثث، وتدنيس القبور مصلحة خاصة لكل فرد على حدة، وهي حرمة تحتاج حماية جنائية؛ كفلها قانون العقوبات الليبي في المادة 292 منه، بيد أن العقوبة بسيطة فقد يكتفى في شأنها بغرامة خمسين ديناراً لا غير!! كما أن القانون لا يشدد العقاب على ذوي السلطة الدينية [القًبة] أو السلطة العسكرية [زيارة تفقدية].

● حقوق نسوية:

المرأة حاضرة قوية في هذه الآيات الحقوقية. لكن صاحبها يستحضر سلم الحاجات لدي ماسلو ليقرر أن دستوره يجب أن يتضمن حقوقها الفسيولوجيا أولاً، ثم تلحقها الحقوق الاجتماعية، والسياسية.

الحق في الأنس، والصحبة والأمان، حقها في الحماية من العنف الأسري، حقها في عدم الزواج عليها بعد عشرة أربعين عاماً بدون [عذر..!]، حقها في الغيرة من [ضرتها]، وحقها في تسكين القلق على أولادها، حقها في حياة حقيقية…

حقوق كثيرة لم تضمن في أي من مسودات دستورنا المرتقب؛ وللأسف لا تنادي بها أغلب المهتمات بالشأن النسوي. قاصنا يقول: تمكين المرأة يبدأ، بتمكينها من حق تقرير مصيرها داخل محيطها الصغير…

ودستوره يحمي المرأة: سواء كانت زوجة، أو أرملة، أو مطلقة. سواء كانت أم، أو أخت، أو بنت. [عجوز بوشم غابر] أم صغيرة في الروضة. [مستورة] أم تمتهن الفجور. متبخترة بأبيض الزفاف، أو متشحة بسواد الحداد. ففي النهاية هي إنسانة في جميع الأحوال…

● حقوق ذوي الإعاقة:

في دستوره، الأبكم والمعتوه تتعدى حقوقهم تقلد الوظائف العامة، والمشاركة في الإدارة المحلية، والترشح للمناصب السياسية. أولى حقوق الأبكم: حق التعبير عن ذاته بسهولة. أن هاجس الأبكم الوحيد أن ينطق، ويكون من اليسير أن [يصل كلامه للآخرين].. أما فاقد الأهلية، لعته كلي أو جزئي، فهو بحاجة لحمايته من الاستغلال؛ ليس الاستغلال المالي فقط، بل حمايته من الاستغلال الجنسي: المعلن منه، والخفي…

● حقوق الأطفال:

حقوق الطفل، لدى قاصنا، تتجاوز حقه في التعليم، بدون عنف مادي، سواء في المدرسة، أو في الكُتاب. قاصنا يركز على العنف المعنوي، بعيد الأثر، وخطيره. ويدستر حق الأطفال في المعاملة باحترام.. وفي تعلم الاحترام.. وحقهم في الحماية من رؤية أخطاء الكبار، ومن غش الكبار، وتدليسهم، خاصة، حينما يكونوا متسترين بسلطة الولاية؛ كمعلم المدرسة وشيخ الجامع. يضمن دستوره لأطفالنا الحق في الحماية من انتهاك البراءة…

هل توجد في التشريعات الليبية نصوص تحمي الأولاد من العراك الصبياني خارج أوقات الدوام الدراسي. الذي قد ينشب [بدافع الملل]، ولكنه بالتأكيد أثراً لغياب الاعتراف بحق هؤلاء الصبية في الترفيه عن النفس، وحقهم في ممارسة الرياضات، واكتشاف الهوايات؟

● الحق في الكرامة الإنسانية:

الحماية ضد العنف والتعذيب والمعاملة القاسية اللاإنسانية والمهينة، أي كان النطاق المكاني المرتكبة فيه الواقعة : في المنزل، في المدرسة، في الكُتاب” الخلوة”، في داخلي الجامعة، في الثكنات العسكرية، في الاستيقافات الأمنية [وشوشة].

الحق في الحماية من الإرهاب : حق حديث. قليلة هي النصوص الدستورية العالمية التي تضمنته. يؤكد قاصنا أننا في مسيس الحاجة لدسترته؛ حيث الإرهابي يرعبنا بعبوته الناسفة، ويرهبنا بالعيش مع احتمالية التفجير، ويفقدنا الثقة حيث يتخفى، فمجرد وجود شبح الإرهاب مخيف بما يوقع الرعب ويحقق الإرهاب.

قصة [حس أمني] تشي بخلجات، وتمتمات، مواطن عادي، يسير في الشارع، مصحوباً بهاجس الإرهاب، وتحلل المشهد في سياقاته الأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية.

● الحقوق البيئية:

كيف يمكن أنسنة ما هو غير إنساني؟ هكذا يرد البعض على من ينادون بأنسنة الحرب. يجيبهم هؤلاء: هي شر لا بد منه؛ ويجب حماية ضحاياها: من الرجال غير المقاتلين، ومن الكهول العاجزين، ومن النساء والأطفال قليلي الحيلة، كما يتوجب أيضاً حماية البيئة.

يتساءل قاصنا: هل قصد واضعي هذه المبادئ [حماية النمل من الأرتال الحربية وإن كان يقودها نبي]؟! هل أوصوا بـ [إحصاء جثث العصافير] حين تحصى خسائر الانفجارات؟ أو بتسجيل أعداد الحلازين الملونة المداسة تحت الأحذية [على هامش المعركة]؟ هل خطرت ببالهم [أزهار اللوز المداسة على جانبي طريق لا يتسع لمرور الدبابة]؟

● الحق في النزاهة:

من الحقوق الواجب تضمينها في الدستور، وهو ما يعبر عنه قاصنا الحكيم بعبارة بسيطة وجميلة: [البحث عن شخص لا غبار عليه.. فلم يعد من السهل إرضاء الناس] ولكن أين لنا به، في دولة تغرق حتى اذنيها في الفساد؟ [ في صحرائنا هذه، من الصعب أن نجد شخصاً لا غبار عليه].

● الحق في إعلام صادق:

لا يقلب الحقائق الكونية ولا ينصحنا بوضع الكلاب فوق الأشجار كي تتوقف عن النباح وتضحى مغردة كالعصافير!!

[خلوَ من السوابق…

يضع شهادة الخلوَ من السوابق في جيبه … ثم يصفع الموظف الذي أخَر استخراجها ستة أشهر..!]…

هذه إحدى قصار القصص! يدهشك، طبعاً، ضيق العبارة، وكثافة الدلالة. على قولة هلنا “كلام أبتر وقصير”. وتبدأ بعدها في التساؤل: أيقصد أن الفساد الإداري يصير المواطنين من ذوي السوابق؟ أيقصد أن شهادة الحالة الجنائية تغفل عن الرقم المظلم من الجرائم وهي التي لا يبلغ عنها ضحاياها ولا تصل لعلم السلطات؟ لعله قصد أن الخلو من السوابق ليست شهادة أخلاقية بأي حال من الأحوال؟

الأكيد إنه يشير لحق المواطن في توفير الخدمة العامة بمعاملة إدارية سهلة وميسرة، خاصة إن شهادة الخلو من السوابق أضحت تستخرج إلكترونياً خلال 24 ساعة في كثير من دول العالم.

قصة [ضفدع في الوحل]، اطلق اسمها على مجموعة القصصية، تربو على الستين. لعلها استحقت ذلك بجدارة؛ ففي ذلك الوحل، ضفدعا يفتقد لأبسط حقوقه، يمتهن الصبر، عاما بعد عام، على قهر الطبيعة، وكائناتها، سواء من أبناء جلدته، أو من الأغيار! لعل القارئ يستشعر إنه ذاك الضفدع مغبون الحقوق! لا سيما، حين يتذكر المناقشات النخبوية، حول باب الحقوق والحريات في مشروع دستور، لم يرى النور بعد، ويخشى إن لا يراه قريباً…


* أحمد يوسف عقيلة، ضفدع الوحل، دار البيان، 2020.
* أعتمد المقال على اقتباسات عديدة من قصص المجموعة.
* نشر المقال بصحيفة (برنيق)، الثلاثاء 7 يونيو 2020.

مقالات ذات علاقة

ديوان الزمان .. والمكان

عمر عبدالدائم

التمنّع في قصة محمد الزنتاني… نص “القرار” نموذجاً

المشرف العام

الشلطامي شاعر القضـية

المشرف العام

اترك تعليق