سرد

حـبر وقـطـران

بعد سنوات قليلة ستختفي المعالم السياسية في العالم.. فلن نجد مجددا مملكة أو جمهورية أو جماهيرية أو سلطنة أو إمارة أو ولايات متحدة أو اتحادا كونفدراليا أو غيرها من مسميات الدول والكيانات.. وستقام بدلا من تلك التعريفات للرقع الأرضية أو السماوية أو الخيالية دول الشركات.. فنجد مثلا شركة ليبيا الوطنية أو العربية أو الإفريقية أو غيرها من الصفات المعبرة عن هوية الشركة وسياستها في تسيير أمورها في ذاك الآن.. أو نجد شركة مصر العربية أو الفرعونية أو القبطية.. أو شركة أمريكا للبترول الأحمر.. أو شركة الشام للفستق والزيتون أو شركة العراق الموحدة.. أو شركة موريطانيا للسمك والفوسفات.. أو شركة بوش رايس للديمقراطية ولوازمها.. وسيكون لهذه الشركات رئيس مجلس إدارة.. وأعضاء مجلس إدارة.. ومساهمون ومستثمرون من الدولة نفسها أو من خارجها.. وسيكون لهذه الشركات وسائل إعلام ودعاية وخزينة وفرق رياضية وشعار مُعبّر وخفراء وبوابون وأشياء أخرى ضرورية تحتاجها الشركات كي تستمر في عطائها وفق سياسة الربح والخسارة.

سيتم تداول هذه الشركات في البورصة.. فأحيانا مستثمر مغامر يشتري شركة شيلة بيلة (سكر في أميّة).. أي بكامل شعبها ومجلس إدارتها وبكل ما تمتلك من أصول ثابتة ومتحركة حيّة وجامدة وبكل ما لها وما عليها من ديون.. يشتريها بتركتها كلها السيئة والحسنة.. يشتريها بصفائها ومشاكلها.. بحربها وسلامها.. ينتفع الشاري بها حسب خطته ومزاجه ما أراد من زمن وعندما يمل منها يُطلَّقها و يبيعها مجددا في سوق نخاسة الدول.. يفرّش بها على الرصيف.. أو يعرضها على مصطبة أو طاولة.. وربما لا يحالفه الحظ في البيع فـتـزطل (تبور).. فلكي يتخلص من عبئها يتبرع بها لضحايا الإعصارات في شركة أمريكا أو اندونيسيا أو رومانيا أو الصومال.

ستدور عجلة الزمن فتأكل تروس المكان لتـُذهِبْ معالمه.. و ليصير المكان من دون أسنان و من دون أصابع تبيّن له فكوك العض.. ستدور عجلة الزمان ببطء وبسرعة و ستفلس شركات.. وستثرى شركات أخرى.. ستزول شركات من زمنها ومكانها وتقوم شركات أخرى بدلا منها مستفيدة من سماد احتراقها.. قد يتغير رئيس شركتك التي تعيش فيها بين يوم وليلة.. قد يذهب ليضارب في مكان آخر بعد أن يشتري أسهما جديدة من شركة أخرى.. يضارب بالأسهم الجديدة حتى يستنزفه الزمن.. أنذاك قد يكمل أيامه مع تلك الأسهم.. وقد يعتقها أو يبيعها و يعود إليك مجددا إن وجد في عودته مكسبا يستحق.

العالم سيتحول إلى سوق والدول إلى شركات.. وستختفي كليات العلوم السياسية والاجتماعية لتحل بدلا منها كليات الاقتصاد والتجارة والمحاسبة.. بإمكان الإنسان في هذا العالم الشركواتي الجديد أن يبيع أسهمه في شركته ويبدل عملته الوطنية بعملة هولندية يشتري بها أسهما في شركة هولندا تمكنه من العيش هناك والمضاربة في دقات قلبه القابلة للتحول والتحويل والتبدّل وفق قانون العرض والطلب.. ففي هولندا كل شيء قابل للتحويل.. وبإمكان هذا الإنسان في العام نفسه أنْ يتحول إلى مواطن في شركة فرنسا للعطور فيرشرش نفسه على الأباط وخلف الأذان وبين النهود أويتحول إلى شركة إيطاليا للمكرونة السباقيتي فيصير أعوادا نشوية متخبلة ملتفة في بعضها ممرغة في صلصة الطماطم والجبن المبشور ترفعه الشوكات والملاعق إلى الأفواه التي تمضغه وتخرجه برازا إيطاليا برائحة النبيذ وشحم الحلوف والثوم.. وفي الوقت نفسه يمكنه في نهاية العام أن يعود إلى شركته يسلم أسهمه للسجل المدني ويتوطن آليا.

في عالم الشركات ليست هناك مشكلة.. فلن يطلب منك أحد جواز سفر ولن تـُسأل متى خرجت من الشركة ومتى تمّ بيعك أو بيع نفسك ولمن ؟.. سيُسمح لك بالدخول ولن يطلب منك أحد أي ولاء أو إيمان.. ستعامل (شركواتيا) أي كم تساوي وبقيمتك تمنح المكان الذي يساوي هذه القيمة..

ما على العائد إلا أن يمد أسهمه السياسية أو الزراعية أو الاقتصادية أو غيرها إلى محاسب الشركة فيمنحه الإيصال.. وينخرط في حياته التجارية المنظمة والمنضبطة لكن وهو داخل الشركة عليه أن يتحمل ما يحدث له.. قد تفلس شركتك وتباع في المزاد.. قد يشتريها تاجر تشادي فتجد نفسك في (انجامينا) أو (فايالارجو) تعمل في رعي الماعز والجاموس أو جني الجوّافة.. وقد يشتريها تاجر بنجلاديشي فتجد نفسك هناك في دكّا مندكاً في فلوكة تصارع الفيضان.. ويتلاعب القدر والحظ والظروف و قانون السوق بحياة الإنسان التي تحولت من أحاسيس ودقات مقدسة إلى حزمة أسهم قابلة للعد والتعيير والتدجين والقولبة.. تباع وتشترى وتتقايض.. تذوب وتتكثف وتطول وتقصر وتنحف وتسمن.. ترتفع قيمتها أحيانا فتصير ذهبا وتنخفض أحيانا لتصير جردل قمامة متعدد الثقوب.. في دولة الشركات قد يبتسم الحظ لهذا أو ذاك.. فرئيس مجلس الإدارة هو مالك الشركة.. هو من يملك أكثر من 51 % من أسهمها.. وقد تجبره الضرورة التجارية المحضة أن يرضى على هذا أو ذاك فيقربه منه.. فيحوله من مجرد بوق دعاية و (برباقاندا) إلى رئيس قسم مالية الشركة أو رئيس تحرير جريدة الشركة أو مجلة الشركة أو إذاعة الشركة أو فرقة رقص وتمجريد الشركة.. وقد ينصبه شاعرا خاصا للشركة ويمنحه الضوء الأخضر والحلوي والبرتقالي واللازوردي والبيج والكاكي والكحلي والمبقع بألوان الطيف ليصدح مثلما يريد ويقبض مثلما يريد فرئيس مجلس الإدارة أو أمير مجلس الإدارة أو سلطان مجلس الإدارة أو إمبراطور مجلس الإدارة.. هو أبوها وكيّالها.. و بالمناسبة يحق لرئيس مجلس الإدارة أنْ يتلقب ويتصف بما يستهويه من ألقاب ويجوز له أيضا تغيير اللقب كل شهر وحتى كل يوم.. حسب ظروف الشركة وحسب ظروف إبرام الصفقات.. فهذه الصفقة تحتاج إلى أمير.. فلأكن أمير مجلس الإدارة.. هذه الصفقة تحتاج إلى ملك فلأكن ملك مجلس الإدارة.. وهكذا.. المهم أن تتم الصفقة.. والمهم أن أحافظ على نفسي من الخسارة.. إن كانت هناك خسارة فلا يجب أن تكون في 51% وتكون في بقية المساهمين.. الواحد والخمسون في المئة خط نار على رئيس مجلس الإدارة أن يحافظ عليه وأن يجعله 55%.. 60%.. 90%.. ولو أحبه مساهمو الشركة ورفعوه على الأعناق وطافوا به في الآفاق فيجعله 99% وتسيعة من عشرة.. قد يستغني رئيس مجلس الإدارة عن بعض المساهمين فيبيعهم من أجل مصلحة الشركة وعليهم أن ينفذوا أمر بيعهم بالتي هي أحسن وإن رفض الذي يتم بيعه سيراه رئيس مجلس الإدارة على هيئة مجموعة أسهم صغيرة على شكل ثور أو حمار أو كلب أو بوبريص مبتور الذيل.. يأمر سايس الحيوانات أن يقبض عليه ويسلمه عنوة للمشتري وهناك المشتري له الحرية في تحويل أسهمه المشتراة من ثيران إلى براغيث أو من حمير إلى أبناء آدم.. طبعا حسب رغبته.. إن كان الحمار يُكسِّبه فسوف يتركه حمارا وإن كان الكلب سيُكسِّبه فسوف يقلب هذه الأسهم إلى كلاب يبيعها إلى عجائز أوروبا أو مسالخ كوريا والصين.. الجميل في هذه التجارة أن الأسهم طيعة سهلة التشكيل والتدوير والتعويج والترقيص.. بإمكانك أن تحوّل أي سهم إلى أي شيء تريده.. الأسهم في الشركة لن ترفض.. ستخرج من الخزينة إلى المحفظة أو الصندوق أو الجيب.. أو تنتقل عبر تقنية الشبكة العنكبوتية إلى مكان المالك الجديد في لمح البصر.. ستنتقل بسرعة أسرع من عفريت سليمان عليه السلام الذي جلب بلقيس.

قال القارئ لنفسه.. هذا الأمر جميل.. إنسان يتحول إلى سهم في شركة.. سأتقدم إلى السلطات لتأسيس شركة من هذا النوع.. ولحسن الحظ بلادنا في هذا الوقت ديمقراطية تعشق الإصلاح وتبشر به وتناصره وتموت في حبه.. ستوافق على طلبي فورا.. سأشتري المستلزمات من السوق.. سأشتري الأبواق والمزامير.. سأشتري الأسهم النائمة على بطونها وعلى ظهورها والمتقرفصة.. سأشتري أسهما تبيدل (تدولب) في الهواء.. سأشتري أسهما سمينة ونحيفة.. كسيحة وعرجاء.. سريعة وبطيئة.. سأشتري مطربين.. سأشتري أسهما شيوعية وأصولية وقومية ووطنية وملكية وعولمية وما بعد العولمية.. سأشتري أسهما ثورية ورجعية.. لابد أن تكون الأسهم متنوعة.. لا شيء سأرميه.. كل سهم له وظيفة.. سهم سأوخز به.. سهم سأطعن به.. سهم سأحرث عليه.. سهم سأحرك به فارة الحاسوب والنت.. سهم سيرقص ويغني لي.. سهم سيجلب لي النشرة السهموية.. سأشتري تشكيلة رائعة.. باقة رائعة.. سأشتري عمالا وفلاحين وحرفيين وأطباء وممرضين ومهندسين وطلبة ومدرسين وموظفين وجنود وبوليس وشيوخ للآديان ومفتيين وقضاة ومحامين وجلادين ومبرمجين وكتّاب ورسامين وفنانين من الجنسين ومن الجنس الثالث أيضا.. سأشتري مكانا أسوّره وأضع فيه هذه الأسهم.. سأقدم لها العلف الذي ترغب وتحب.. العلف الممتاز الدسم الذي يجعلها تسمن سريعا وتنتج لي بغزارة وتهرول بإخلاص وإيمان وتفانٍ وفق الأجندة التي أريد.

الحقيقة كما توقع.. السلطات لم تمانع هكذا فكرة ومنحت القارئ الرخصة معفاة من الضرائب لأنه أبرز لهم شهادة لا تصنفه في قطيع القطط السمان.. هو قطيطيس صغير.. يا دوب إيخبش دفاعا عن النفس.. منحت له الرخصة وذهب ليشتري مستلزمات هذه الشركة من السوق.. اشترى ما يريد في دقائق ودفع الثمن نقدا للبائعين.. ساق قطيعه أمامه في الشوارع إلى حيث المكان الذي سيحشرهم فيه.. أدخلهم عنبر النوم وقال لهم الآن ناموا.. والصباح رباح.

في الصباح استيقظ القارئ من النوم.. فوجد الأسهم مستعدة للانطلاق في فيافي وصحاري وبحار البورصة.. أطلقها جميعها ولم يترك معه إلا القليل وعند الإقفال عادت الأسهم سمينة ومتضخمة وذوات شدوق حمراء ومؤخرات باذخة بذخ ليّة الخرفان الشامية الثلاثية.. عادت أثقل وزنا وأرفع قيمة مما كانت عليه.. وشعر بالسعادة القصوى حتى أنه رقص وغـنى وعيّط على طول رقبته.. وفي اليوم الثاني أطلقها لترتع وتسرح في البورصة وعاد بعضها غانما فائزا.. وعاد بعضها مكسورا مثخنا بالجراح.. وفـُـقِـد بعضها فلم يعد وعادت أسماؤه متناثرة من دون كيان.. وحاسب هذا المالك نفسه وحسب حسبته ضاربا أسداسه في أخماسه.. ووجد أن رأس ماله ما زال سليما فما ربحه بالأمس خسره اليوم.. في اليوم الثالث قرر أن يخرج مع أسهمه إلى البورصة ليقودها بنفسه.. قال في نفسه قبل أن ينطلق على رأس الأسهم..” أضرب النقص اتجي أنت والحق سواء.. وإلعب بروحك وما تشكش..” قرر أن يمارس هذين المثلين الشعبيين في تجارته في البورصة فلم يترك الأسهم لفطرتها لتتدبر نفسها.. و وجَّهها وفق مزاجه وأفكاره وذائقته وريبه وشكه فخسر ثلاثة أرباعها في تغميضة عين وأنقذه من خسارة الربع الأخير رنين جرس الإقفال حيث تتوقف المعاملات إلكترونيا.. عاد بالربع المتبقي حزينا وغاضبا ونادما على المغامرة.. في اليوم الرابع ترك الربع المتبقي يخرج بنفسه إلى البورصة وساعة الإقفال عاد الربع ومعه عدة أسهم من المخسورة بالأمس.. استحسن ذلك وابتسم وشرب احتفالا بهذا النصر طاسة شاي (باللوز المزلط).. وداوم على ترك الأسهم ترتع بنفسها فعادت تدريجيا جميعها إليه.. آنذاك حسب حسبته من جديد فلم يجد نفسه رابحا ولا خاسرا.. فكر بينه وبين نفسه لماذا عندما قدت الأسهم في السوق كدت أن أخسرها جميعا ؟.. لم يجد في رأسه إجابة.. لكن وجد فيه مغامرة أو فكرة جديدة.. قال سأترك الأسهم جميعها هنا في مأواها وأخرج بنفسي إلى البورصة.. أجرب حظي.. ربما أربح وربما أخسر وربما أتعادل.. إن خسرت وصرت مبيوعا.. ستستردني أسهمي التي تركتها في المأوى وستفديني برؤوسها وذيولها وانطلاقاتها اللولبية من قوس الحياة.

خرج صاحب الأسهم إلى البورصة فلم يسمح له بالدخول للمضاربة.. قالوا له : “لابد من إحضار أسهمك إلى هنا.. أنت بالنسبة لنا سهم واحد.. والبيع داخل البورصة بالجملة فقط.. إن أردت المضاربة بالقطاعي (المفرق) فاذهب إلى هناك”.. أشاروا له إلى سوق ليس به مبانٍ ولا أنوار ولا ظلال.. سوق خالٍ من الباعة والمشترين.. ذهب إلى حيث أشاروا من أجل الفضول فقط.. فوجد في المكان مجموعة من الأسهم تحيط بسهم مكسور من المنتصف ورأسه مغروزة في التراب.. وضع سبابته على صدغه وراح يفكر.. قال في نفسه هذا النوع لم اشتر منه لذلك خسرت في البورصة.. وتعبت كثيرا في تعويض تلك الخسارة.. قال لجماعة الأسهم المحيطة بالسهم المكسور : ” سأشتري هذا السهم..” ورمى عليه كيسا من الذهب.. لم ينهض السهم ليرافقه.. فرفعه بنفسه.. دقق ببصره في رأسه.. فوجده أسود.. شم السواد فلم يتبينه.. هل هو حبر أم قطران ؟ أم أنهما الاثنان معا..؟.

مقالات ذات علاقة

الباحث

شكري الميدي أجي

رواية: اليوم العالمي للكباب 5

حسن أبوقباعة المجبري

رواية الفندق الجديد: الفصل السابع عشر

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق